تتوسع مساحة الجدل السياسي علي الساحة اللبنانية - والذي لا يزال ديموقراطياً حتي الآن - لتشمل الفرنسي إلي جانب الأمريكي، مقابل السوري. نحن أمام وضعية إقليمية - دولية استيعابية، تنافسية، تناتشية في لبنان، وحوله، وضده، تحت شعار تطبيق القرار ،1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، والذي يطالب من جملة ما يطالب به انسحاب القوات السورية من لبنان.
كان السفير الأمريكي في بيروت جيفري فيلتمان، وعلي مدي الاسبوعين المنصرمين، نجم المحليات اللبنانية، يقابل كبار المسؤولين، والفعاليات، ويدلي بمواقف نارية مطالبا بتنفيذ هذا القرار، والامتثال إلي الارادة الدولية في إجراء انتخابات نيابية حرة، نزيهة، وشفافة في الربيع المقبل، ويقابل بسيل من المواقف والتصريحات العنيفة من قبل الستاف السياسي الموالي لسوريا، والمتنعم من خيرات هيمنتها علي لبنان.. وفجأة ظهر علي الشاشة المحلية السفير الفرنسي الجديد في بيروت برنار إيميه الذي قدم كتاب اعتماده إلي رئيس الجمهورية آميل لحود علي وقع الموقف اللافت الذي أعلنه الرئيس الفرنسي جاك شيراك المتشبث بتنفيذ القرار 1559 الذي يستحوذ علي كل يقظتنا وإنتباهنا والمنبه من التلاعب بالانتخابات النيابية المقبلة .
وهكذا بدأت مهمة السفير الفرنسي الجديد في لبنان في غاية الوضوح، لقد حددها رئيسه (الرئيس شيراك) في الخطاب الذي ألقاه أمام أعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي في قصر الأليزيه بمناسبة حلول السنة الجديدة.
لم يكن اللبنانيّون بحاجة إلي كل هذا التعريف الذي ينطوي علي قدر كبير من الجدية، والحزم. لكن يبدو أن سيّد الأليزيه أراد أن يوجّه رسالة عاجلة إلي من يعنيهم الأمر: انتهي زمن التنظير حول القرار، ومضامينه، وآن أوان التنفيذ .
وعطفاً علي ما أعلنه الرئيس شيراك أمام أعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي المعتمد في باريس، حول لبنان، وسوريا، والقرار ،1559 اهتمت المرجعيات اللبنانية المختلفة بالمعلومات المنسوبة إلي مصادر فرنسية مسؤولة ومفادها أن كل الاتفاقات التي عُقدت قبل إصدار قرار مجلس الأمن - (رقم 1559) - أصبحت لاغية، وهذا ينطبق علي اتفاق الطائف، وخصوصاً في شقّه المتعلق بعملية إعادة انتشار القوات السورية أو انسحابها .
وأضافت: لقد بات من غير الممكن دعم اتفاق من هذا النوع ولاسيما أنه لم ينفذ كلياً، ولابد من إعادة التفكير انطلاقاً من حيثيات القرار 1559 الذي يستند إلي دعم استقلال لبنان وسيادته واستقلاله .
وتابعت هذه المصادر: صبرنا بما فيه الكفاية بغية إفهام السلطات السورية جدوي تنفيذ هذا الاتفاق (الطائف).. مضيفة ان الرئيس جاك شيراك عبّر أمام السلك الدبلوماسي عن رفضه لكل الصيغ القديمة والتصورات البالية التي تواصل ترديدها جهات رسمية عديدة في لبنان، وكذلك لابد من الاقلاع عن الأساليب التي عفا عليها الزمن، والتي لم يعد لها مكان بعد التحولات كمحاولة اغتيال النائب والوزير السابق مروان حمادة ..
ولفتت المصادر إلي ان الصيغ القديمة والتصورات البالية تخص السلطات اللبنانية والسورية علي حد سواء لجهة تحريك المخابرات وتوزيعها للقيام بأدوار خارجة عن نطاق عملها الأساسي .
وأضافت المصادر: إذا أرادت السلطات اللبنانية إعطاء إشارة انفتاح علي الأسرة الدولية، فعليها ألا تخشي دعوة المراقبين الدوليين لمتابعة الانتخابات التشريعية، خصوصا إذا كانت هذه الحكومة تؤكد أن هذه الانتخابات ستكون نزيهة .
.. نحن إذاً، أمام محور أمريكي - فرنسي متقدم علي الساحة اللبنانية في مواجهة السوري، وكأن في الأمر رفضاً مطلقاً ل صفقة تقول بأن السوري قد يذهب إلي الأبعد، إلي حد التخلي عن الجولان مقابل إبرام اتفاقية سلام مع إسرائيل، مقابل تكريس دوره المهيمن علي لبنان، وبتعهد من الولايات المتحدة الأمريكية.
يبدو هذاالنوع من الصفقات مرفوضاً فرنسيا، لأن باريس متمسكة بلبنان، وحريصة علي امتيازاتها الثقافية، والاقتصادية، وترفض أن ينافسها أيا كان علي هذا الدور، خصوصاً إذا كانت سوريا، ولذلك ذهب الرئيس جاك شيراك مع الرئيس الأمريكي جورج بوش إلي حدود إبرام صفقة تاريخية معه، من عنوانها: دعم فرنسا لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، والشرق الأوسط الواسع، مقابل أن تساعد إدارة الرئيس بوش علي إخراج سوريا من لبنان، وإفساح المجال أمام فرنسا كي تستعيد بعضاً من دورها، ونفوذها فيه ، وهذا ما عبّر عنه صراحة السفير الفرنسي الجديد لدي لبنان، عندما أكد بُعيد تقديم كتاب اعتماده إلي رئيس الجمهورية إن لبنان بالنسبة لفرنسا هو البلد الصديق، والشريك، وهو البوابة الطبيعية لدخول بلدنا إلي هذه المنطقة، والتي نحن متعلقون جداً بإزدهارها، واستقرارها.
والأدهي من كل ذلك، إن فرنسا بدأت تبحث جدّياً مع الولايات المتحدة، وبريطانيا في الآلية التي يفترض اعتمادها لتنفيذ هذا القرار، وهناك اتصالات مكثفة بدأت بهدف عقد اجتماع ثلاثي خلال الأسابيع القليلة المقبلة، في لندن، أو في باريس لدراسة سبل متابعة تنفيذه، وهناك سعي لأن يعقد قبل أن يبدأ مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ثيري رود - لارسن كتابة التقرير المطلوب منه إعداده حول ما تم تنفيذه من بنود القرار 1559.
وتريد الدول الثلاث من هذا الاجتماع - الذي قد يُعقد علي مستوي رؤساء أقسام الشرق الأوسط في وزارات الخارجية - رسم استراتيجية واضحة للآليات والوسائل التي يمكن استخدامها لحمل السلطات اللبنانية والسورية علي تطبيق هذا القرار الدولي.
ويسجل في سياق هذه الحركة الدبلوماسية الناشطة ملاحظتان، الأولي: ان الحوار بين باريس ودمشق مجمد، أو هو.. إذا ما وجد - دون المستوي المطلوب بخلاف ما هو قائم بين واشنطن والعاصمة السورية التي استقبلت في الثاني من الجاري، مساعد وزير الخارجية الأمريكي ريتشارد ارميتاج علي رأس وفد رفيع.
والثانية: بروز توجه فرنسي - أمريكي علي المباشرة في تنفيذ بعض بنود هذا القرار قبل بدء الانتخابات النيابية في مايو (أيار) المقبل، وهذا ما أشار إليه أرميتاج في الكلام المنسوب إليه، وهو يغادر دمشق: نأمل أن يرفع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان تقريراً إلي مجلس الأمن الدولي في أبريل (نيسان) المقبل يؤكد فيه المباشرة بتطبيق بنود القرار 1559 من الجانبين اللبناني والسوري.
انتهي زمن التنظير حول هذا القرار، وبدأت الواقعية تفرض نفسها، كأن يقال بأن صفقة أمريكية - سورية - إسرائيلية، كانت ممكنة، وفي حدود المنطق، لو أعطت سوريا، الولايات المتحدة في العراق، ونفذت ما طلب منها علي طول حدودها مع بلاد ما بين النهرين، وأعطت إسرائيل في الجولان، وأخذت في لبنان.. إن هذا النوع من الصفقات كان ممكنا لولا فرنسا التي دخلت علي الخط، وأفسدت كل شيء، وأكدت للأمريكي بأنه بحاجة إليها أكثر من سوريا، وإنها مستعدة للتعاون معه إلي أقصي الحدود، علي مستوي الشرق الأوسط.
.. صفحة جديدة من العلاقات اللبنانية - الفرنسية قد فتحت علي وقع المواقف المتشددة الصادرة عن قصر الاليزيه، في الوقت الذي كان يقدّم فيه السفير برنار ايميه كتاب اعتماده إلي الرئيس آميل لحود. ويبقي السؤال: هل أن سيل الانتقادات ضد مواقف السفير الأمريكي جيفري فيلتمان، سيغير مساره باتجاه السفير الفرنسي الجديد، بعد مواقف الرئيس شيراك؟ وهل من تحرك لبناني - سوري جدي، ووشيك لمواجهة المد الفرنسي - الأمريكي في لبنان، وعلي حساب الدور السوري فيه، أم أن الجميع مازال في مرحلة اللاّوعي؟!