لا تُنبيء مؤشرات الوضع الراهن في العراق بما يستدعي التفاؤل والامل بتغيير سلمي حضاري نحو مستقبل واعد مشرق. هذه النبرة المشحونة بالتشاؤم والمرارة مستوحاة من المعايشة والمعاينة اليومية لمسرح الاحداث الدموية المخيفة المزدحمة باللاعبين والمؤيدين الذين لا يبدو بأنهم يمكن أن يلتقوا ببعضهم البعض على طريق البناء والعمل المشترك. في هذا التآكل الداخلي تتمركز علامات ساعة الانهيار الذي يمكن أن يحدث في أية لحظة على نحو مأساوي دموي. فمن ناحية أولى، أخفق التدخل الاجنبي في التعامل مع المشاكل المستعصية وفي التعاطي مع المستجد والطاريء منها، بالرغم من نجاحه في إزالة النظام السابق الذي كان يرنو لان يبقى إلى الابد. ومن ناحية ثانية، تبدو الحكومة المؤقتة القائمة غير قادرة على الوقوف أمام السيل الجارف الذي ينذر بالتفكك وبالمزيد من سفك الدماء، بسبب ضعف التجربة وضآلة الادوات المتاحة لديها. أما المؤدون السرّيون غير المعلن الهوية والدوافع، فإنهم يصولون ويجولون في طول البلاد وعرضها حسب أهوائهم. ولا أحد يستطيع، مهما أوتي من تعمق ونظرة ثاقبة، أن يعيّن هذه القوى المتنوعة التي تقتل هنا وتفجر هناك، على الرغم من وجود العديد من الافتراضيات والتكهنات.
ويتجلى إخفاق القوات المتعددة الجنسيات في فرض النظام والامن في حقيقة أنها قوات من النوع الصدامي المتخصص بالمعارك التقليدية، الامر الذي يفسر نجاحها في المعارك التقليدية الطاحنة حيال قوة مضادة واضحة المعالم تتخندق في الجهة المقابلة. ولكن عندما يأتي الامر إلى التعامل مع مجاميع المسلحين المختلطين مع سواهم من المواطنين في المدن والازقة والاحياء السكنية، تقدم هذه القوات المتطورة البينة تلو الاخرى على الفشل في القضاء على هذه الجماعات. ولكنها تبقى قوات نظامية معتمدة على استعراض العضلات والاسلحة الفتاكة بدون القدرة على التمييز بين الهدف وسواه، الامر الذي يبرر تواصل هجمات المجاميع المسلحة يومياً وعلى نحو متصاعد، بالرغم من الاعلانات المتفرقة عن إلقاء القبض على رئيس هذه المجموعة أو معاون رئيس تلك المجموعة، وهي المجموعات التي تعتمد أسلوب الكر والفر في مواجهتها لهذه القوات المسلحة تسليحاً رفيعاً.
وإذا كانت القوات المتعددة الجنسيات قد حاولت توظيف قوات محلية للتعامل مع الداخل بأدوات وقفازات عراقية، فإن هذه القوات المحلية لم تزل ضعيفة التجربة والخبرة، ناهيك عن ضعف التجهيزات والتسليح المخصص لها، الامر الذي قلب المعادلة رأساً على عقب: فبدلا من أن تضطلع القوات المحلية الفتية بكبس أوكار المسلحين ومطاردتهم، راحت هي تتقمص شخصية المطارَد المذعور حيث تُفجر مقراتهم ويُهاجمون في كل مكان. وقد لعب المسلحون هنا دوراً فاعلا في هذا المضمار، إذ صار الشرطي والجندي هو المطلوب بدلا من المسلح السريع الحركة والقادر على الاختفاء والمناورة بين الجمهور الذي يخشى منه ويخاف الوشاية به.
ويبدو أن من بين المسلحين خبراء عارفين في الشؤون الاستراتيجية والعسكرية والامنية، لانهم يعرفون من أين تؤكل الكتف، مركزين على البنى الاساسية، التي تؤثر على جميع الانشطة الاعتيادية اليومية. وهذا ما جعل العاصمة المشرقة بغداد تتحول إلى عاصمة الظلام والجريمة، الخوف والرعب. وقد لعب حديث الناس دوراً واسعاً في إشاعة أجواء الخوف والهلع نظراً لتداول وتناقل حكايات الجرائم الغريبة وأعمال العنف والقتل اليومي، زد على ذلك مشاهد الادمغة المتناثرة والبطون المبقورة على أرصفة الشوارع يومياً، خاصة في بغداد المسماة مدينة السلام، كمفارقة تاريخية. ويبدو بأن المسلحين قد ظفروا بإختراق بعض الاجهزة الامنية المحلية، وبالتسلل إلى دواخل القوات المتعددة الجنسيات، الامر الذي سهل لهم إلتقاط العاملين والمتعاونين المحليين مع الجانبين، بعد خروج هؤلاء المتعاونين من العمل أو أثناء عملهم وتجوالهم، وحتى في منازلهم. لذا صارت التقارير الشفاهية عن إغتيال أمثال هؤلاء من مظاهر الحياة البغدادية الزاخرة بالخرافي واللازمني.
ولا ريب في أن ما يزعج هؤلاء المسلحين المدفوعين بأفكار وأهداف سياسية يتجسد في اختلاط أعمالهم بأعمال قوى أخرى ترنو إلى ركوب الموجة لتحقيق أهداف غير سياسية. ومن هذه القوى هي عصابات الجريمة المنظمة، زد على ذلك الاصابع الخفية للاجهزة الاستخبارية الاجنبية التي ، هي الاخرى، لديها من الاهداف والدوافع ما يكفي للتسلل إلى العراق ولتنفيذ المقسوم من أعمال الاغتيال والتخريب. يدّعي الكثير من المواطنين بأن هذا النوع من خلط الاوراق هو الذي يكمن وراء استعصاء حل المأزق الامني. بل أن في عمليات إغتيال كبار الاساتذة والكتّاب والاطباء والعلماء ما يدل على خطة بعيدة المدى ترنو إلى إفراغ البلد من أصحاب الكفاءات والعقول المستنيرة، أما بالتصفية الجسدية الغامضة، أو بالصدمة والترويع اللذين يدفعان بهم إلى طلب اللجوء في بلدان أخرى. ولكن النتيجة واضحة المعالم، وهي : إستنزاف العقول المفكرة والابقاء على الاجساد المستعدة على حمل السلاح وسفك الدماء تمهيداً لحرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
ومع إقتراب موعد الانتخابات البرلمانية تزداد أعمال العنف وتتصاعد وتائر ومؤشرات غياب الامن بالرغم من وجود أقاليم شاسعة بعيدة عن هاتين الظاهرتين. ولكن يبدو أن بغداد هي فعلا قلب العراق، وفيها تقرر المصائر والمسارات الرئيسية، حيث أن أكثر من ربع السكان يتمركزون في هذه المدينة، حاملين معهم إختلاف إنتماءاتهم وتنوع انحداراتهم الدينية والعرقية، الامر الذي سيجعل من هذه المدينة ساحة معركة من النوع التاريخي بحساب الضحايا والابرياء الذين يمكن أن تسحقهم ماكينة الحرب العمياء والمتعددة الخنادق إذا ما نشبت. وهذا ما تنذر به العلامات المخيفة من الساعة، حيث تتفكك الاواصر الاجتماعية بسرعة وتتلاشى الروح العامة والمصالح الوطنية بينما يتم تفتيت مؤسسات الدولة على نحو متعمد. إنها المظاهر المخيفة التي تتبدى في آفاق المؤسسات التعليمية والقضائية، وفي الامتناع عن دفع الضرائب وأجور الخدمات العامة وفي الاستغلال الظالم بين المواطنين أنفسهم. إنها صورة مأساوية بكل أبعادها لانها لم تعد مرتهنة بإرادة القوى الاجنبية التي وعدت بتحويل العراق إلى فردوس شرق اوسطي، وإنما لان حجم الضغائن والصراعات الداخلية المتراكمة هو بدرجة من الضخامة والتفاقم أنه يسمح للقوى الاجنبية باستثمار التفكك الداخلي وتغذيته بالطريقة التي ستؤول، ليس فقط إلى البقاء لمدة أطول في العراق، بل كذلك إلى السماح بمحق العراق وإزالته بالكامل. هذا ما سيفضي تلقائياً إلى إنهيار التوازن الاقليمي في الشرق الاوسط بسبب التداخلات والاعتماد المتبادل في بنية السقف الاقليمي المتمثل في تركيبته الجيوبوليتيكية وأعمدته الصامدة منذ عقود.