نشر الدكتور رشدي سعيد في مجلة «المصور» يوم الخميس الماضي مقالا عن زلزال إندونيسيا,, والدكتوررشدي، كما هو معروف، له صيت عالمي كحجة في علم الجيولوجيا,, ومن هنا، فلا مجال لمقارنة أطروحاته حول الزلزال وما نشرته أنا في اليوم نفسه بـ «الأهرام»,, غير أن بعض ما أورده الدكتور رشدي قد يبدو متعارضا مع ما كتبت، ومن هنا حرصي على استجلاء مدى صواب ما أوردته من عدمه.
وصف الدكتور رشدي الزلزال بقوله: «إنه ظاهرة طبيعية ليس لفعل الإنسان فيها شيء»,, وكتبت أنا: «ليس سبب الزلزال صراعات البشر فيما بينهم، ولكن ردود أفعال الطبيعة على تمادي البشر في الإساءة إلى الطبيعة، وتحدي قوانينها، فتمردت عليهم»,, لقد شاركت الدكتور رشدي الرأي في أن الزلزال ظاهرة طبيعية، ولكن لم أنف أنه «كان لفعل الإنسان فيها شيء»,.
وبالفعل، قد كتبت صحيفة «لوموند» الفرنسية بتاريخ 30/12/2004 رأي الدكتور رشدي بقولها: «إن الزلزال الإندونيسي هو نتاج عملية دامت 85 مليون سنة,, ففي ذلك الوقت السحيق بعد تكون المحيط الهندي، انفصلت عن أفريقيا الطبقة التكتونية الأسترالية ـ الهندية التي تحمل الهند، و«عبرت» المحيط في اتجاه الشمال بسرعة 10سم كل عام,, ومنذ 50 مليون سنة، اصطدمت الهند بطبقة أوراسيا، واستمرت في حركتها بسرعة 6 سم في العام,, هذا الاصطدام قد ترتب عليه بروز سلسلة جبال الهيمالايا، أشهق جبال في العالم، وكذلك نقلت «الكتلة الهندية ـ الصينية بجزائرها الـ 17 ألفاً (أغلبها بركاني التكوين) في اتجاه الجنوب الشرقي»,, والملاحظ أن هذه كلها تحركات تسند وجهة نظر الدكتور رشدي سعيد، لأنها سبقت وجود الجنس البشري على سطح الأرض، وبالتالي قدرته على التأثير في التقلبات الجيولوجية.
سؤال جوهري
ولكن السؤال الذي أستكشف له ردا ليس هو: هل كان لوجود الإنسان على سطح الأرض أثر في احداث زلازل وبراكين وموجات مد بحري تعبر المحيطات ويبلغ ارتفاعها 50 مترا وأكثر؟,, فكلنا يعلم أن هذه الظواهر وجدت منذ تكوّن القشرة الأرضية في ماضٍ يعود إلى مليارات السنوات,, بل السؤال هو: هل من جديد قد حدث منذ ظهور الجنس البشري، ومن شأنه التأثير في خصائص الطبيعة؟,, هل بفضل العلم والتكنولوجيا، أصبح من الممكن تعريض الكرة الأرضية للانفجار أو الزوال؟,, الأمر الذي لم يكن ممكنا من قبل، بسبب قصور التكنولوجيا عن بلوغ هذه القدرة؟.
ظاهرة الدفيئة على سبيل المثال (أي تعرض المناخ للدفء بشكل متعاظم) لا يبدو الآن أن هناك شكا في أنها ظاهرة من صنع الحضارة الإنسانية,, ثم ظاهرة أخرى هي تعرض البيئة للتلوث بسبب الإفراط في استخدام مواد - كيماوية أو اصطناعية - تنال من الحياة جنبا إلى جنب مع مبتكرات ومكتشفات علمية من شأنها إطالة الحياة,, ليس هناك ما يطمئن أن الإيجابيات التي يبتدعها البشر أقوى أثرا في تقرير المحصلة النهائية من السلبيات التي تفلت من كل سيطرة.
بعبارة أخرى، هل جاز القول بأن الحضارة الإنسانية خلقت ظروفا أكثر مواتاة لتعريض البشرية للتهلكة من الظروف التي كان من المنتظر أن تسود في غياب الجنس البشري، وقبل بلوغه تقدمه التكنولوجي المعاصر الشديد الرقي؟,, هل الزلازل وغيرها من الاضطرابات البيئية عاجزة - في غياب الجنس البشري - عن بلوغ حد «الإفناء الذاتي»، بينما أصبحت قادرة على الارتفاع إلى هذا الحد بعد بلوغ التقدم البشري مستواه الراهن؟
أي ان تدخل البشر في صنع الاضطرابات البيئية لا يعني أن هذه الاضطرابات وقف على وجود البشر، وبفعل صنع الحضارة البشرية وحسب,, وإنما يعني أن البشر قد فاقم من شأن هذه الاضطرابات، وعرضها لظاهرة لم تنل من الكرة الأرضية من قبل، هي تعرضها للتفتت، أو الانفجار، أو لشكل أو آخر من أشكال التبدد والزوال؟!.
مهمة جديدة للبشرية
وإذا صح أن ظهور البشرية قد مكنها من تعريض كوكبنا لمصير يختلف نوعيا عن مصيره الطبيعي، وأعني بذلك ألا يستمر في الوجود لمليارات من السنوات في المستقبل كما استمر في الوجود لمليارات من السنوات في الماضي، بل يقدم الجنس البشري على نوع من «الإفناء الذاتي»، فقد يطرح ذلك مهمة لا تملك البشرية التنصل منها، هي ألا تكتفي «بترميم» كوكبنا، وإقامة اصلاحات تزيل ما حدث في 26 ديسمبر الماضي على وجه التحديد,, بل أن تسعى بكل جدية للنفاذ إلى جذور المشكلة، وتعمل من أجل وضع حد نهائي لواقع جديد بات يهدد قدرة كوكبنا على الاستمرار في الوجود لأجل غير مسمى,, وهكذا يظل يصلح وعاء للحياة ومرتكزا للمسيرة البشرية كما كان الحال حتى الآن,, ليست المشكلة أن نجند كل الطاقات المتاحة لمعالجة حدث طارئ,, ولا هي أن نستعين بشخصيات عامة دولية كالرئيس كلينتون (الديموقراطي) وبوش الأب (الجمهوري)، بل أن نخرج بتصور لما حدث يخرج العالم من مآزقه الراهنة,, ولا يقصره على دروب مظلمة تكون الظاهرة التي تحتل مقدمة المسرح فيها هي الإرهاب.
هناك - بالطبع - مهام بدهية ينبغي القيام بها بأسرع ما يمكن، تداركا لتوابع زلزال إندونيسيا، سواء كانت في مواقع قريبة أو بعيدة من الزلزال الأصلي، وذلك بإقامة شبكة من محطات الإنذار المبكر تغطي كوكبنا بكامله، وأعني بذلك المحيطات والبحار جميعا، وليست اليابسة فقط,, ذلك أنه قد ثبت أنه يتعذر إفساد آثار الزلزال المدمر، أو الحيلولة من دون حدوث موجات جبارة من المد البحري العالي (ما عرف بالـ «تسونامي»)، ما لم تتسع عمليات المراقبة والمتابعة والتفتيش لكل أركان الكرة الأرضية من دون استثناء.
لقد أظهر البشر أنهم على استعداد للإغداق بسخاء عندما يصابون في كوارث طبيعية بحجم ما حدث في الأسبوع المنصرم,, إن كل إنسان تخيل نفسه في موقع المصابين,, وأن يكون هو المستغاث,, مناشدا الغير بالعون,.
إن المطلوب الآن هو أن نتجاوز رؤيتنا إلى ما حدث على أنه حدث عارض,, لابد من تخطيط على الأمد الطويل,, وإدماج اللجنة الرباعية التي تشكلت من الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا في هيئة دولية تتولى عمليات الإغاثة، وتعمل في إطار الأمم المتحدة.
لقد جمعت مبالغ طائلة تصل إلى نصف مليار دولار بسرعة مذهلة,, ربما كان لذلك أكثر من سبب,, أولا، لأن ضحية الزلزال وما أعقبه من مد بحري جبار هو ضحية بشكل «مطلق»,, لم يرتكب أي خطأ,, لا يتحمل أية مسؤولية,, وقد أصابته كارثة بشعة,, وهذا لابد أن يثير عطف الناس,, ثم كان هناك الإعلام,, وصور الموتى بالجملة التي تناقلتها شاشات التلفزيون,, ثم كان هناك الإنترنت التي يسرت فرص التبرع,, ثم أعياد رأس السنة، وكثرة السياح الباحثين عن الدفء والراحة، وقد نقلوا إلى مختلف أرجاء الكون أنباء الحدث الأليم.
لقد بلغت التبرعات حد أن هيئة «أطباء بدون حدود» قد قررت بعد تلقيها مبلغ 40 مليون يورو أن توقف تسلم التبرعات التي ترسل إليها، استنادا إلى أنها لا تملك القدرة على استخدام هذه المبالغ الطائلة استخداما رشيدا في خدمة ضحايا الزلزال، ولمنع حدوث عمليات احتيال ونصب,, ربما كان ذلك أول مرة في التاريخ تتلقى فيها جهة خيرية معونات، وترفض تسلمها بسبب عجزها عن استيعابها!.
إن المطالب للحاضر يخالف المطالب للأمد الطويل,, المطلوب الآن هو إنقاذ بشر بالجملة من التهلكة، والجوع، والمرض، والعطش,, أما المطلوب للأمد الطويل، فإنه محاولة استخدام هذه الكارثة لخير البشرية، لعمليات تنموية جبارة,, وبالتالي نظرة مختلفة إلى الأموال المجمعة,, نظرة تحول ضارة إلى «نافعة».
إن المساعدات للتنمية تختلف نوعيا عن المساعدات لمواجهة حالة طوارئ,, إنها مساعدات تتحملها الدول، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي,, لا المواطنون بصفتهم أشخاصا,, إن المواطنين يتحملون قيمتها عن طريق الضرائب التي يدفعونها,, ولا ينبغي تحميلهم هذه الاستقطاعات مرتين.
ثمة تضارب في الاختصاصات هنا,, هل تسلم منح الدول الأوروبية - مثلا من خلال سلطة مركزية منبثقة من الاتحاد الأوروبي، أو كدول ذات سيادة عبر سلطات الأمم المتحدة؟,, هل ثمة حاجة إلى سلطة تتفق عليها تملك البت في هذا الصدد؟,, لقد اقترح شيراك خلق قوة إنسانية للتدخل السريع,, ومعنى ذلك اعادة هيكلة الأمم المتحدة على نحو أكثر تماسكا وشمولا,, بل ربما وراء الاقتراح قضية أكثر جوهرية: هل أصبح للتكنولوجيا دور في تعريض كوكبنا للدمار، أم ما زلنا بصدد أشكال من الدمار ليس لفعل الإنسان فيها شيء؟.