بعدما تحدثت الحلقات السابقة من كتاب «الجماعات الإسلامية... رؤية من الداخل» للمحامي الاسلامي منتصر الزيات عن بدايات التزامه بالفكر الحركي الجهادي وعن تعدد الجماعات الاسلامية وتوزعها وأبرز رجالاتها، وتطرقت الى اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات خطةً وتنفيذاً، تتناول الحلقة الآتية بدايات النقد لمشروع الجماعات الاسلامية.
في السجن نبتت بذور فكرة مراجعة مشروع الجماعات الاسلامية القائم على المواجهة المسلحة مع النظام من أجل الاطاحة به. كان هناك نقدٌ بناء يحاول أن يشق طريقه، خصوصاً في ظل النقمة على الظروف التي أودت بالشباب إلى السجن لأنهم مسؤولون عن عائلات وزوجات، وبعدما اهتزت ملامح مشروعنا الديني والسياسي تحت سياط التعذيب.
في سجن أبي زعبل أحاطني الاخوة بمشاعر الحب والتقدير. كنت أخطب لصلاة الجمعة، وكان بين المصلين قياديون من مدارس اسلامية مختلفة. أول خُطبة القيتها كانت عن الآيات في سورة «آل عمران» التي صوّرت هزيمة المسلمين في غزوة أحد، وبدأتها بـ: «أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم». هكذا بدأتُ ممارسة النقد الذاتي. قلت في الخطبة إن المشكلة فينا لا في النص.
تفكيري في أسباب هزيمة المشروع الإسلامي المبكرة بدأ جدياً في الأشهر التي قضيتها في السجن الإنفرادي. بدأت أتحدث بوضوح عن أن فشل مشروع الجماعات الإسلامية يرجع إلى أن المعطيات التي قام على أساسها كانت خاطئة. بدا اليّ أن ثمة خللاً في فهمنا للنص، وأنه لم يكن مناسباً أن نجنح إلى تقسيم المجتمع أو أن نعتقد أننا نحن أصحاب التأويل الصحيح الوحيد للإسلام بمجرد أن أطلقنا ِلحاناً، وانه كان ينبغي أن نعطي لأنفسنا فرصة التّبحر في العلوم الشرعية. لكن اللوم أكبر على العلماء الذين تخلّوا عن دورهم. لا بد من أن نقر بأننا أخطأنا، ويكفي مثلاً الأخذ بفتوى الدكتور عمر عبد الرحمن بأن على الذين شاركوا في اقتحام مديرية أمن أسيوط غداة قتل السادات، أن يصوموا 60 يوماً للتكفير عن ذنبهم، باعتبار أن عمليات القتل التي ارتكبوها تندرج تحت بند القتل الخطأ.
في سجن طرة الذي كنت أتردد على المستشفى الملحق به للعلاج من آثار التعذيب، لمست أن الخلافات بدأت تخرج عن إمكان احتوائها في مسألة بطلان ولاية الضرير. من هذه المسألة تحديداً إنشق التنظيم الذي قتل السادات على نفسه وأصبح فريقين: فريق «الجماعة الإسلامية» بزعامة عمر عبدالرحمن، وتعود أصول المنتمين إليه إلى الوجه القبلي، وفريق تنظيم «الجهاد» بقيادة عبود الزمر وينتمي معظم أعضائه إلى الوجه البحري.
كان رفاعي طه أقرب المسجونين في سجن طرة إليّ، وفوجئت بأنه على علم بما كنت أردده في سجن أبي زعبل. أبلغني بأن الجماعة تعتبر مراجعاتي نوعاً من جلد الذات. في سجن طرة خضت مع طلعت فؤاد قاسم وفؤاد الدواليبي وأسامة حافظ نقاشاً هادئاً حول رأيي بأن تجاوز محنتنا يقتضي الاعتراف بأخطائنا. وعلى رغم هدوء المناقشة لمحت في عيون الإخوة قلقهم من أفكاري. في بداية ترددي على سجن طرة لم أكن أدرك أن التنظيم أصبح منشقاً على نفسه، فكنت بمجرد وصولي إلى هناك أرسل إلى الزمر باعتباره رئيس مجلس شورى التنظيم تقريراً عن أحوال زملائنا في أبي زعبل، وكان ذلك يثير حنقاً مكتوماً تجاهي في نفوس قيادات الوجه القبلي.
كان موقف «الجماعة الإسلامية» في الوجه القبلي في ذلك الوقت حاداً ضد أيمن الظواهري، وكنتُ استغرب عندما أسمع رفاعي طه يردد بأن الظواهري «رأس الفتنة» لمجرد أنه كان يقول لهم: «أنا لست عضواً في تنظيمكم». كان الظواهري يعارض بقوة زعامة الشيخ عمر عبد الرحمن، ويؤكد لهم بهدوئه المعهود أن علاقته بالجماعة الاسلامية تنسيقية هدفها مناصرة الجماعة ليس أكثر. كانت قيادات الجماعة تخشى من أن يفسر موقف الظواهري على أنه ضدها اذ كان محبوباً من الجميع خصوصاً من السجناء المعدمين الذين كان يخصهم بالكثير مما تحمله إليه أسرته خلال زياراتها له في السجن. أما أنا فكنت أعيب علنا على قيادات الوجه القبلي تفسيرها القبلي والعشائري للأمور وربما كان ذلك سبباً رئيسياً في توتر الأجواء بيننا.
كانت عضوية مجلس الشورى الذي تولى الزمر رئاسته عقب إعدام محمد عبد السلام فرج، مقصورة على مجموعة الوجه القبلي، وكان الاعتراض على ذلك من أهم مؤشرات الانقسام، فضلاً عن مسألة ولاية عبد الرحمن. في هذه الأجواء، وضع كرم زهدي وإخوانه في مجموعة الوجه القبلي، وفي مقدمهم رفاعي طه وعصام دربالة، مجموعة الكتب التي شكلت ما سماه البعض في ما بعد «فقه العنف»، وتضمنت أدلة شرعية تبرر قتل السادات، وقتل جنود وضباط مديرية الأمن في أسيوط، وهي الأدلة التي أتضح أن النية كانت مُبَيّتة للاستناد إليها في تبرير مزيد من جولات العنف في المستقبل، كما لا يخفى أنها مستقاة من كتاب «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج.
تزامن ذلك مع عكوف الشيخ عمر عبد الرحمن على مرافعته للدفاع عن نفسه أمام المحكمة، وكان فريق زهدي يتولى أيضاً مراجعة تلك المرافعة التي صدرت في ما بعد في كتاب «كلمة حق».
مجموعة الوجه البحري برز منها في تلك الأثناء بعض طلاب العلم الذين كانت لديهم تحفظات عن مبدأ العذر بالجهل الذي يعتنقه أهل السنة والجماعة، فغطى الجدل حول هذا الأمر الجدل في شأن مسألة ولاية الفقيه، كما أنه برر رفض مجموعة الوجه القبلي أن يضم مجلس شورى التنظيم أيا من المنتمين الى الوجه البحري بدعوى أن لدى هؤلاء شبهات في العقيدة، ولذلك لا يجوز أن يتولوا مسؤوليات تنظيمية. الانقسام الذي لاحظته بين السجناء في سجن طره نقلت مخاوفي بشأنه إلى مجموعة أسوان وعلى رأسها أحمد الزيات ومجدي صيام وصلاح الدين عبد القادر وعبدالحافظ ربيع، وعرف بذلك محمد شوقي الاسلامبولي، وتمنى عليّ عدم تكرار ذلك، فأكدت له أنني لم أبلغ أحداً بما لاحظته باستثناء المقربين مني، وبدأنا نفكر في كيفية إحتواء الأزمة. حدث أن زميلا لنا في سجن أبي زعبل من محافظة سوهاج (الوجه القبلي) هو عنتر رمزي أدخل الى مستشفى سجن طرة لتلقي العلاج، وبعد عودته دعا محمد شوقي الاسلامبولي الى اجتماع في أحد عنابر السجن ومعه أحمد مصطفى المغربي أحد القيادات الإسلامية من سوهاج. لاحظت أن كل المدعوين من الوجه القبلي. قرأ محمد شوقي رسالة قال إنها وردت مع الأخ عنتر من طرة تتضمن تكليفاً له من الشيخ عبد الرحمن بتولي المسؤولية أو الإمارة في سجن أبي زعبل على أن يعاونه مجلس شورى يتكون من منتصر الزيات وأحمد الزيات ومجدي صيام وصلاح الدين عبدالقادر، وهم أربعة من مجموعة أسوان، اضافة إلى مغربي وبدري مخلوف. قال الاسلامبولي إن الشيخ عمر يثني على مجموعة أسوان باعتبارها المجموعة الرائدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنه لهذا اختص منها أربعة في مجلس الشورى، وأوصى بأن يتولى محمد شوقي إمارة الإخوة في سجن أبي زعبل، وأن يكون مجدي صيام نائبه في الإمارة، على الفور قلت: «أرفض هذا الكلام، مع كل التقدير للشيخ عمر، لأن معناه عودة الجاهلية بعد 41 قرناً من اندثارها»، وأبلغتهم أنني ومجموعة أسوان المكونة من 20 شخصاً سنتشاور في الأمر.
اثر ذلك سرت إشاعات عن انشقاقي عن «الجماعة الاسلامية» ومبايعتي تنظيم «الجهاد» بقيادة عبود الزمر سراً. نفيت ذلك بشكل واضح لمحمد شوقي الاسلامبولي عندما صارحني بأمر الاشاعة. انقسمت مجموعة الوجه البحري إلى قِلّة تدين بالولاء للزمر، وأكثرية فضّلت اعتزال الفتنة والوقوف على الحياد تأسياً بمجموعة أسوان. وظلت مجموعة الوجه القبلي متماسكة نسبياً، وكنت أنا المتهم الأول في قضية الانتماء للتنظيم، فكان من الطبيعي أن أكون أميرها لأن عنوان القضية التي تضمنا هو: «ملف تنظيم منتصر الزيات وآخرين». أصروا ان يكون محمد شوقي هو الأمير المسؤول عن القضية. وفي المقابل أصر الزمر على أن أكون أنا أمير المحاكمة وأرسل الينا في أبي زعبل رسالة بهذا المعنى، فتأكدت لدى البعض هواجس مبايعتي له وانشقاقي مع مجموعة أسوان على «الجماعة الإسلامية». طلب الاسلامبولي إجراء انتخابات لحسم الامر، فحصلت على أعلى الاصوات وأصبحت «أمير المحاكمة» شكلاً وموضوعاً، وجاء محمد شوقي في الترتيب الثالث بعد محمد دبيس. ومنذذاك استمرت علاقتي على توترها بالجماعة الإسلامية تجمعنا المصلحة حيناً وتفرقنا الأيام كثيراً.
انطلقت المحاكمات التي تعتبر الأكبر من نوعها في تاريخ مصر، وبلغ عدد المتهمين فيها 302 في الجزء الأول و176 في الجزء الثاني. استأجرت محكمة استئناف القاهرة قاعة كبرى في أرض المعارض بمدينة نصر لاستيعاب المتهمين وممثلي وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وكنت في كل جلسة أترافع ربع ساعة أو نصف ساعة، وكنا نرفع من داخل الاقفاص لافتات كتب عليها: «نحن قتلة السادات»، «إن الحكم إلا لله». في الجلسة الاخيرة للقضية التي كنت المتهم الأول فيها، فوجئنا بممثل النيابة العامة المستشار عبد المجيد محمود يطلب تأجيل نظر الدعوى لأجل غير مسمى والافراج عن كل المتهمين فوراً، فاستجاب رئيس المحكمة.

*مشهد في الذاكرة

قضيت في السجن ثلاثة أعوام تبلورت خلالها قناعتي بضرورة التفرغ للمحاماة وتركيز اهتمامي على الدفاع عن أبناء التيار الاسلامي بالذات. ومن أهم العوامل التي كانت وراء تلك القناعة أن المحامين الذين كانوا يدافعون عن الاسلاميين لم يكن يعنيهم سوى تصفية خلافاتهم مع عهد السادات. والامانة تقتضي أن أذكر هنا ن المحاكمات التي خضعنا لها كانت عنواناً لنزاهة القضاء المصري.
ثلاثة أعوام «مرت» من عمري تغيرت خلالها أشياء كثيرة أبرزها وفاة والدي. كنت أبحث عن حياتي الجديدة فقررت إنهاء كل علاقاتي التنظيمية. كنت أشعر أنني مهزوم، اذ ان كل شيء صار معروفاً ولم يعد ممكناً العمل بالأسلوب نفسه الذي اتبعناه في الفترة الماضية. لم يكن موقفي هذا من قبيل الخوف من التعرض لمحنة الاعتقال من جديد لكنه كان قرار البحث عن النفس والتواصل مع مختلف الأجيال عبر المحاماة. وبالفعل استخرجت بطاقة العضوية في نقابة المحامين.
عندما عدت إلى القاهرة وجدت ان محمد شوقي الإسلامبولي أسس مكتبة لبيع الكتب الإسلامية في منطقة عين شمس. فاتحت والدته في أمر العروس التي كان محمد عبد السلام فرج اختارها لخالد الإسلامبولي. في الأسبوع التالي تمّت الخِطبة، وكان عقد الزواج أشبه بالمؤتمر السياسي اذ حضره الشيخ عمر عبد الرحمن ومحمد شوقي الاسلامبولي والشيخ حافظ سلامة والشيخ عبد الله السماوي والأستاذ محمد عبد القدوس، فضلاً عن آلاف المهنئين، وعقد القران الشيخ عبد الرحمن. بعد ستة أشهر ت،وجت بعدما رتبت أموري المالية.
بعد خروجي من السجن بقيت اشاعة انشقاقي عن «الجماعة الإسلامية» ومبايعتي للزمر تحاصرني، اذ كانت علاقتي وثيقة بإخوة الوجه البحري ولم يكن داخلي ميل للعلاقة القبلية. كان الشيخ عبد الرحمن يؤازرني، وساهم في اتجاهي نحو المحاماة وبالتحديد للعمل في قضايا الاسلاميين بدلاً من اعتمادنا، كما كان يقول، على محامين لا يدركون طبيعة التهم التي توجه إلى الإسلاميين.
بدأت العمل في المحاماة. كنت استيقظ في الخامسة صباحاً وكان العمل مرهقاً من دون عائد مادي يُذكر. وتسارعت وتيرة العمل بعد تولي زكي بدر وزارة الداخلية، اذ كثرت الاعتقالات في صفوف الإسلاميين. وبفضل الله تعالى توالى النجاح من قضية إلى أخرى.
منذ الإفراج عني أواخر العام 1984 وحتى عام 1987 كنت أشعر بمناخ سياسي مختلف يريد معالجة قضايا الإسلاميين بطريقة هادئة. ولكن مع تولي زكي بدر وزارة الداخلية كانت مصر على موعد مع رجل يتعامل أمنياً بطريقة فجّة. بعد خمسة أيام من تسلمه منصبه، وجّهت دعوة للشيخ عبد الرحمن ليلقي محاضرة في «مسجد الرحمن» في أسوان. حضر الشيخ ليجد حصاراً أمنياً مضروباً حول المكان، وبعد محاولات مضنية وعدنا خلالها مدير أمن أسوان ان يتحدث الشيخ عشر دقائق ثم ينفض اللقاء. دخلنا المسجد لنفاجأ بقوات الأمن تطلق القنابل المسيلة للدموع، ثم اعتقلنا وعُرضنا على النيابة بتهمة مقاومة السلطات. انضم الى الجماعة في أسوان العشرات بسبب هذا التصرف الأحمق. وتكرر سيناريو «مسجد الرحمن» مع «مسجد الجمعية الشرعية» في أسيوط، اذ قرر بدر منع التجمعات بأي طريقة، وقال حرفياً: «مفيش محاضرات للمتطرفين»!

*حكايتي مع زكي بدر
خلال عام 1984، كان القضاء ينظر في قضية التعذيب الذي تعرضنا له في السجون أثناء محاكمتنا في قضية «الجهاد» عقب اغتيال الرئيس أنور السادات. التقيت في دار القضاء العالي بأيمن الظواهري فأخبرني بأنه قرر السفر إلى أفغانستان في غضون أيام، وكرر اعتراضه على طريقة عمل «الجماعة الاسلامية» وتوقع حدوث صدامات مع السلطة. كان موقفه من «الجماعة» واضحا داخل السجن، اذ كان يرى أنها تهيمن على الشيخ عبد الرحمن وعلى مجلس الشورى وانها تدير التنظيم بروح قبلية. قال لي: «القيادات كلها في السجن ولا توجد قيادات تشكل عنصر جذب لتمرير مشروع الجهاد. وأنا مشروعي سري وطريقي لن يكون معكم». وتوقع أن تخوض «الجماعة» منافسة شديدة مع «الإخوان المسلمين» على جذب الجماهير. كان الظواهري يرى منذ مطلع الثمانينات أن أفغانستان التي زارها عام 1981 هي الحضن الملائم لتنفيذ خططه المستقبلية. لكنه لم يذكر لي ولو عرضاً اسم اسامة بن لادن. سألته عن الطريقة التي سيخرج بها فقال إنه سيسافر إلى تونس مع فوج سياحي. من تونس انتقل في اليوم التالي إلى المملكة العربية السعودية وبقي فيها حوالي سنة، وعمل طبيباً في مستوصف ابن النفيس في جدة. التقيته هناك في ما بعد فلاحظت أن أحواله جيدة، وعلمت أنه التقى في السعودية بأسامة بن لادن. ولاحظت أن موقفه من عبد الرحمن و«الجماعة الاسلامية» إزداد صرامة. كان مُصِرّاً على فكره الانقلابي وتجنيد عناصر من القوات المسلحة قادرة على تغيير نظام الحكم في مصر بالقوة من أجل الحكم بما أمر اللَّه. كانت استراتيجيته قائمة على أن السفر للخارج موقت من أجل الإعداد لتغيير الحكم في مصر بالقوة. لقاؤنا في جدة كان مطلع عام 1986، ولم يشر خلاله الى الولايات المتحدة، لكنه تحدث عن تحرير فلسطين معتبراً أن طريق القدس يمر في القاهرة!

*«الشيخ المزيف»
كان الشيخ عبد الرحمن في ذلك الوقت يجتهد للإفلات من القبضة الحديد لزكي بدر إلى أن أُجبر على التزام منزله في الفيوم. وهنا أكشف للمرة الأولى أن الشيخ كان يعتمد بين 1986 و1988 على شبيه له للهروب من المطاردات الأمنية، وقد اعتقل هذا الشبيه وأفرج عنه أخيراً. خلال إقامته الجبرية في منزله كان مسموحاً للشيخ عبد الرحمن بالصلاة في مسجد مجاور للمنزل. بعد الصلاة كان يخرج من باب خلفي للمسجد فيما يخرج شبيهه من الباب الرئيس متجهاً إلى المنزل فيطمئن مراقبوه إلى أنه ملتزم بالتعليمات الأمنية. كان «الشيخ المزيف» يبقى في المنزل إلى أن يفرغ «الشيخ الحقيقي» من إلقاء محاضرة له في القاهرة أو زيارة محمد شوقي الاسلامبولي في عين شمس.
بدأت نبوءة أيمن الظواهري تتحقق. فـ«الجماعة الاسلامية» أخذت تنتشر في ظل المناخ السياسي المعتدل الذي وفره الرئيس مبارك على رغم إصرار زكي بدر على منهجه المتشدد الذي سرعان ما فاق القدرة على الاحتمال. كان محمد شوقي الإسلامبولي يبيع في مكتبته التي سماها مكتبة «ابن كثير» شرائط الشيخ عبد الرحمن وكتبه، خصوصاً كتاب «كلمة حق» الذي لقي رواجاً هائلاً بما فيه من إسقاطات على النظام الحاكم، وكتاب «أحوال الحكام وأصنافهم». وانتقل ناشطو الوجه القبلي للإقامة في القاهرة الكبرى في مناطق العشوائيات الفقيرة في إمبابة وعين شمس، وسيطروا على بعض المساجد وأقاموا نشاطاً اجتماعياً دينياً. هكذا بدأت «الجماعة الاسلامية» تتوغل مع وجود القيادات التي تركت الصعيد مثل محمد تيسير وبهيج محمد علي وصفوت عبد الغني وعلي الديناري، بل وحتى العناصر التي كانت تتردد على القاهرة مثل الدكتور أحمد عبده سليم وأسامة رشدي وآخرين كانوا دائماً يتحركون بين الصعيد والقاهرة حتى سيطروا على شباب الجماعات الإسلامية في عقر دار الوجه البحري الذي من المفترض أن يكون الساحة التي يتحرك منها الجهاديون. في ذلك الوقت كان المسؤول عن جماعة الجهاد هو مجدي سالم زوج شقيقة زوجتي وهو صاحب نشاط تجاري في السعودية. كان وجوده في مصر نادراً وبالتالي كان إشرافه على حركة الجهاد ضعيفاً. هكذا تحولت معاقل مهمة للجهاديين في العاصمة إلى معاقل للجماعة الإسلامية في عين شمس وبولاق الدكرور، ولعب نشاط عبد الرحمن دوراً مهماً في ذلك.
من القاهرة إتجهت عناصر «الجماعة الاسلامية» إلى المحافظات الأخرى في الوجه البحري فانتشرت في السويس عن طريق الشيخ حافظ سلامة، وفي الاسماعيلية عن طريق إسلام الغمري، الذي اتهم في ما بعد بمحاولة اغتيال الرئيس مبارك في أثيوبيا. كما كان لها وجود قوي في الاسكندرية. مكّنت «الجماعة» وجودها عن طريق العمل الدعوي والسيطرة على المساجد والنشاط الاجتماعي والتواصل مع الناس في مشاكلهم الاجتماعية مثل جمع التبرعات وتوزيعها على الفقراء وإعطاء دروس لأبناء الفقراء.
وفي ذلك الوقت قررت تأسيس «رابطة المحامين الإسلاميين» مضطراً، لأني لم أجد التعاون اللازم من الأستاذ مختار نوح الذي كان يريد أن يضمنا إلى جماعة الأخوان. عرضت تصوري لهذه الرابطة على رفاعي أحمد طه، وقلت له لابد أن ننجح في كسر هذا الحصار من الاخوان وأن لا يكون هناك حصار مماثل من الجماعة الإسلامية. كانت الفكرة اختمرت لدينا أثناء فرارنا، أنا ورفاعي طه، لتأسيس وعاء يضم محامين أصحاب مرجعية اسلامية يتولون الدفاع عن المتهمين فى قضايا التيار الاسلامى، وبذلنا، قبل اعتقالنا، جهدا لا بأس به بمعاونة الدكتور مندور وزملائه فى إعداد الأبحاث الشرعية فى قضايا الحاكمية والخروج والدفاع الشرعي.
أردنا ان نحتفي بالانتفاضة الاولى في نقابة المحامين ودعينا الى مؤتمر كبير بها يشارك فيه الشيخ عمر عبد الرحمن والشيخ حافظ سلامة. اعترض مختار نوح متعللا بأن الاخوان لا يوافقون على استضافة الشيخ عمر أو حافظ سلامة. على رغم قناعتنا بأن لا علاقة للاخوان بما يقوله نوح، إلا أننا حاولنا عبثا اقناعه بضرورة ترك مساحة لنا للتحرك والعمل. توجهنا الى الاستاذ أحمد الخواجه نقيب المحامين وقتها وعرضنا عليه الأمر فوافق على الفور وانتدب الأستاذ عادل عيد عضو المجلس مقرراً الذي كان حاشدا اذ حضر آلاف المواطنين ازدحمت بهم قاعة الحريات وحديقة النقابة وأسوارها، واعتلى المنصة المشايخ عمر عبدالرحمن وحافظ سلامة وصلاح أبو اسماعيل، ووجه الشيخ عبدالرحمن وقتها تحية للمحامين الإسلاميين فاستقر الأمر على هذا الاسم لـ«جماعة المحامين الإسلاميين».

في ذلك اللقاء اتفقنا على تأسيس «جماعة المحامين الإسلاميين» وأجرينا عملية لاختيار رئيس للمجلس الذي تكون من المحامين الحاضرين واشترطنا على رفاعي طه أننا سنعمل على الدفاع عن كل المظلومين والمضطهدين بسبب آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم، ولن نكون تابعين للجماعة الاسلامية أو أي جماعة أخرى. ولم أختر لنفسي لقب محامي الجماعات الإسلامية، بل كان يطلق عليّ لقب «الوكيل القانوني للجماعات الاسلامية» وكنت أستحسنه، لكن اختيار الإخوة لشخص في كل القضايا التي يتهمون فيها للدفاع عنهم وترتيب كل الأمور الخاصة بذلك هو الذي دفع رجال الإعلام إلى إطلاق هذه الصفة عليّ. لقب محامي «الجماعات الإسلامية» أطلق عليّ في شكل واضح مع أعمال الوساطة التي ندبني إليها الشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ محمد الغزالي عام 1993.
في ذلك الوقت كان قد أطيح بزكي بدر نتيجة فضيحة شريطه المسجل الذي كان لا يكيل فيه فقط السبب والقذف للجماعات الاسلامية، بل أيضاً لشخصيات سياسية مرموقة. وتم تكليف اللواء محمد عبد الحليم موسى وزيراً للداخلية، وكانت سمعته لدينا جيدة خلال عمله محافظاً لأسيوط حتى أن ناشطي الجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين كانوا يزورونه في بيته. وعقب توليه منصبه أرسل موسى في طلب الشيخ عمر عبد الرحمن بواسطة الدكتور مصطفى مؤمن وهو قيادي بارز في «الأخوان المسلمين». وافق الشيخ عبد الرحمن على لقاء وزير الداخلية الجديد لأنه يسمع عنه كل خير، وكنا حصلنا على حكم من القضاء بعدم دستورية فرض الاقامة الجبرية على الشيخ وبدأنا إجراءات تنفيذية ليتمكن من التحرك بحرية داخل مصر وخارجها. اصطحب الدكتور مؤمن الشيخ عبد الرحمن إلى مكتب موسى واستغرقت المقابلة أربع ساعات خرج بعدها الشيخ بانطباع جيد. رفض وزير الداخلية آنذاك أن يذهب عبد الرحمن إلى منزل شقيقته في العمرانية، لكنه وعده بتصحيح الأوضاع. وفعلاً بعد فترة اتصل الدكتور مصطفى مؤمن من أمن الدولة بالشيخ وأبلغه بموافقة الوزير على سفره للعمرة، وكان ذلك في آخر يوم من شهر رمضان. وصل الشيخ عمر إلى مطار القاهرة وفيما كان ينهي إجراءات سفره أبلغه ضباط الجوازات أن مطار جدة أغلق أمام المعتمرين وهو إجراء طبيعي وعادي، لكن المفاجأة أن ضباط أمن الدولة الموجودين في المطار أبلغوا الشيخ عمر بضرورة السفر إلى أي بلد آخر، فاختار الخرطوم. ومن هناك بدأت رحلة السفر الطويل إلى الولايات المتحدة.