سيشهد العراق اغرب عملية سياسية من نوعها في العصر الحديث، إن تمت، ولا اقول نجحت، الانتخابات العامة في نهاية هذا الشهر. ان العملية ليست فقط غريبة على العراقيين بعد قرابة خمسين سنة من غيابها بغياب الدستور والحياة السياسية ومسلسل الحروب والعهود العسكرية والفاشية والديكتاتورية بل لأنها محفوفة بالمخاطر والتعقيدات من النواحي الامنية والسياسية والاجتماعية وحتى الفكرية الداخلية في ظل الوجود الاجنبي في شوارع العراق! ناهيكم عن حجم التحديات التي يصادفها العراقيون دوليا وعربيا واقليميا سواء كانوا من ابناء الداخل او من ابناء الشتات. وسيكون العراقيون عند مفترق طرق صعب للغاية ربما تفكّر فيه ثلة من الناس الذين لهم خبرتهم بالشأن العراقي وتاريخه المليء بالفراغات والمواقف والاحداث الساخنة والملتهبة فضلا عن غيبوبة الاعلام العراقي، وتخديرات الاعلاميات العربية المضادة وتوحشها ضد اي عملية سياسية معّقدة ومجرّدة في آن واحد، عند بدايات القرن الحادي والعشرين! واعتقد ان اثمانا غالية تنتظر العراقيين يقدمونها من اجل تحولاتهم التاريخية.

ان العراقيين منقسمون اليوم سياسيا على انفسهم ليس الى قسمين اثنين فقط بين مؤيد خانع للواقع ومندفع في عربته المشروخة او بين معارض متوحش ضده متحدٍ له حتى باسلحته البيضاء! بل انهم – كما ارى – ومن دون اي تصنيفات عرقية او مذهبية او طائفية او دينية، ينقسمون اربعة اقسام متباينة على اشد ما يكون التباين، وهي التي يمثلها: 1) الموافقون على الانتخابات العامة والحريصون على اجرائها، 2) الموافقون عليها ولكن تمنعهم الاوضاع والخوف من التهديدات وافتقاد الامن، 3) المعارضون ليس للعملية الانتخابية بحد ذاتها، بل هم من الرافضين لكل الواقع بسبب الاحتلال، 4) اما القسم الاخير، فهم من الملايين المغيّبين الذين لا يدرون من الامر شيئا، ولم يسمعوا به ولا يريدون سماع اي شيء منه سواء كانوا في اعماق المدن الكبرى والصغرى ام في الارياف القريبة والبعيدة.

وعليه، فان مجرد ثلاثة اسابيع تفصلنا عن موعد الانتخابات العامة في العراق، ولا يوجد اي مناخ سياسي لتأقلم العراقيين معه ولا اي برنامج دعائي يحفزهم للمشاركة الحية بهذه العملية في الداخل والخارج. ولا توجد اي تقديرات او حتى تكهنات ولا أي استطلاعات للرأي او انشطة وفاعليات للمرشّحين في جولاتهم على كل الناخبين في ارجاء العراق الفسيحة، ولا اي ترتيبات – من طرف آخر - لتصويت العراقيين في المنفى. اذ يكفي ان نعلم بأن تقديرات شبه مؤكدة تقول بوجود ربع مليون عراقي يعيشون في بريطانيا التي تضم أكبر جاليات عراقية وان هناك تقديرات تقول بأن اربعة ملايين عراقي واكثر ينتشرون في اصقاع الارض، اي ان شعبا كاملا منفيا له الحق في ان يكون ناخبا اسوة بغيره في الداخل.

انها عملية اعتبرها من اكثر العمليات السياسية الانتخابية غرابة في التاريخ الحديث، ستكلف العراقيين نحو 50 مليون جنيه استرليني (اي ما يقارب المئة مليون دولار اميركي) تنفق على الانتخابات العامة. انها اخطر مرحلة، اذ سيمر العراق والعراقيون في اليومين الاخيرين من هذا الشهر بنفق صعب جدا لا يستطيع احد ان يتكّهن بنتائجه التي يخشاها كل العراقيين على انفسهم وحياتهم، وخصوصا اولئك الذين يعيشون في مدن واحياء ومناطق غير مأمونة في انحاء العراق.

ان ما يهم فعلا توضيحه هنا ليس رأي المندفعين لاجراء الانتخابات، والحق كل الحق معهم باعتبارها بداية حقيقية للعراق الجديد وإن جرت في ظل الاحتلال وتحت حراب القوات الاميركية، فالمسألة قد غدت مسألة حياة او موت، مسألة التزام بالخطوة الاولى من دون توقف، وهي مسألة انتقلت من تراتبية عادية الى حملة تحدٍ، ليس ضد من يؤمن بها وبدستوريتها ويريد ارجاءها بسبب ارتهان ارادته واستلاب رأيه والقبض على انفاسه، بل من قبل من لم يؤمن بها اصلا ويعارضها بالضد، ويعتبرها اميركية الشكل والمحتوى. ان الاستجابة للتحدي لا يقضي ان تؤجل الانتخابات لأن التأجيل سيفسر مباشرة انه انتصار للارهاب.

ان جملة من التيارات السياسية الدينية والمذهبية والقومية والبعثية والناصرية وبقايا نظام صدام حسين ترفض الانتخابات اصلا باعتبارها ثمرة من ثمرات الاحتلال، وبطبيعة الحال هي لا تمثّل الغالبية من العراقيين الذين يطمحون للدخول في عملية سياسية. في حين تبلور رأي آخر يقول بتأجيل الانتخابات الى حين ويمثّل هذا الرأي اكثر من تيار سياسي، فيه ليبراليون وقوميون واسلاميون، وله مسوغاته التي تبرر عملية التأجيل وخصوصا الظروف الامنية التي يمر بها العراق اليوم. واجد أن هذا "الرأي" هو المتأرجح الوحيد بين قبول الانتخابات وتأجيلها وخصوصا بعد بروزه اثر الاجتماع الذي عقده الدكتور عدنان الباجه جي في بيته ببغداد وشاركته قوى سياسية مختلفة ضمنها اياد علاوي وجماعته. واذا كان نصير الجادرجي قد رفض الترشيح بناء على هذا السبب مع دخول حزبه الانتخابات، فان الباجه جي لم يصدر عنه حتى اليوم ما يفيد بالانسحاب من العملية الانتخابية، ولكنه لم يزل ينادي بالتأجيل. وعملية التردد هذه تزحف على كل من ينادي بالتأجيل مرة وبالقبول مرة اخرى، ومنهم حزب "عراقيون" للشيخ غازي الياور وجماعة "اعيان العراق" للسيد اياد جمال الدين وجماعة "الملكية الدستورية" للشريف علي بن الحسين وغيرهم... في حين تمضي غالبية الاحزاب السياسية بالاسراع في عملية الانتخابات مع اقتناع كامل باهميتها ليس من اجل مستقبل الاوضاع بل من اجل احراز الانتصار على الارهاب مشاركين الاجندة الاميركية واصرار الرئيس جورج بوش على الانتخابات، علما بأن الاخير قد اعترف بأن اربع محافظات تعاني من أسوأ الظروف المأسوية وانعدام الغطاء الامني فيها.

ان اوجها عديدة تمثل الغرابة الحقيقية في هذه الانتخابات، منها: انها الاولى بعد قرابة نصف قرن شهد العراق خلاله حكومات غير منتخبة البتة، وانها تجري تحت وصاية الامم المتحدة وفي ظل غطاء عسكري من اميركا وحلفائها، وأنها تأتي في ظل انقسام ديني واضح لا ينكره أحد فالمرجعية الشيعية تبارك بشدة اجراء الانتخابات وعلماء الدين السنة يرفضونها، والشاب مقتدى الصدر ينكرها في ظل الحراب الاميركية وجماعاته مشاركة فيها! انها عملية تأتي والرأي العام العراقي منقسم على نفسه، ويا للاسف، بين ثلاثة اتجاهات في مجموعات واحزاب وتيارات وهيئات سياسية وطائفية ودينية وعشائرية معا، وانها انتخابات ستمر ولا يمكن التكهن بنتائجها سلبا كانت ام ايجابا، فهناك من يقول إن الكارثة والانقسام والحرب الداخلية تنتظر العراق والعراقيين ان جرت الانتخابات، وهناك من يقول ان العراق سيخرج منها منتصرا وسيدخل اهله جنات عدن!!

واذا سألني أحدكم عن رؤيتي المتواضعة الى هذه العملية، فأقول بأن العراقيين يسعون جميعا اليوم لامتلاك ارادتهم، كل بالطريقة التي يريدها ولكنهم امام خيارين احلاهما مر، علما بأنه لا يمكن ارجاع القديم الى قدمه لمن يرفض العملية السياسية. أولهما الاستجابة للتحدي التاريخي الذي يفرضه الواقع المؤلم باجراء الانتخابات ودفع الاثمان الباهظة التي ستترتب عليها داخليا واقليميا وعربيا ودوليا، وثانيهما تأجيل العملية الى أمد زمني لا يعرف اهل العراق كيفية التصرف بشأنه وابقاء الحالة على ما هي عليه!

ونخشى ان يدخل العراق بهذه العملية او بتأجيلها زمنا مأسويا جديدا، خصوصا اننا بدأنا نشهد انشقاقات في البنية الداخلية التي كانت تغذيها اطراف عدة ولم تزل، وانني مقتنع تماما بأن الوجوه التي عرفناها ستتكرر ولكن بالبسة من نوع آخر! ان العراقيين ينتظرون فجرا آمنا جديدا، وان تبدأ مرحلة نظيفة جديدة، وان تأتي وجوه نزيهة وطنية جديدة، وان تتبلور ارادة عراقية صلبة جديدة، وان تكون العملية سياسية حقيقية لا مزيفة ولا مصبوغة بالطائفية ولا بالعشائرية ولا بالشوفينية. وليعلم الجميع بأن اي طرف او ملة او جماعة إن تملكها الاحساس بالغبن والتهميش في مجتمع غير متكافىء المعادلة كالعراق، فثمة مشكلات مزمنة ستبقى سكينا في خاصرة العراق! وسابقى اردد: هل هناك اغرب من عملية سياسية كهذه في تاريخ العالم؟؟


مؤرخ وأكاديمي عراقي مقيم بين كندا والامارات