ما أسهل تفاؤل العواصم الغربية بأي تطور سياسي في الشرق الاوسط يعزز آمالها بتقبل شعوب المنطقة لأولوية التطبيق الديمقراطي في أنظمتها على تحرير اراضيها المحتلة. فمنذ مطلع العام الحالي، والمتتبع لمناخات الاعلام الغربي لا يسعه الا ان يلاحظ شيوع:
ـ تفاؤل «ببداية جديدة» في العلاقات الفلسطينية ـ الاسرائيلية بمجرد انتهاء الانتخابات الفلسطينية بسلام، وفوز ابو مازن برئاسة السلطة الفلسطينية.
ـ تفاؤل بنجاح مساعي ارييل شارون في تشكيل حكومة ائتلافية تأخذ على عاتقها تنفيذ «خطة الفصل» في قطاع غزة.
ـ تفاؤل، أميركي بشكل خاص، بإمكان إجراء انتخابات عراقية «بمن حضر» من الناخبين، وفتح صفحة جديدة في العراق ايضا.
... شيئا فشيئا يُحشر الجسم العربي في الشرق الاوسط في اللباس الديمقراطي المفصل على مقاسه، ويتحول «السلام الاميركي» الى أمر واقع لا يعكر استقراره سوى فجوة مزارع شبعا (التي ينفذ منها «حزب الله» اللبناني ليذكر بأولوية التحرير على الديمقراطية)، وجبهة«المثلث السني» في العراق (التي تنشط على ساحتها حركة تمرد مسلحة لتذكر بأن ديمقراطية العراق، كديمقراطية لبنان، توافقية قبل ان تكون عددية).
يبدو الاعلام الغربي اليوم وكأنه ينهل من رومانسية الشعار الشرقي: «تفاءلوا بالخير... تجدوه». ولكن التركيز المفرط على الديمقراطية يوحي بأن الغرب، والادارة الاميركية تحديدا، أكثر اهتماما بما تحققه من نجاحات إجرائية (انتخابات فلسطين، وربما لاحقا العراق)، مما يمكن ان تحسمه هذه الانتخابات من أزمات إقليمية، فالأهم من «تطمين» الفلسطينيين على مستقبل نظامهم السياسي، «تطمينهم» على مستقبل دولتهم الموعودة، والأهم من تكليف الجنرال تومي فرانكس نشر الديمقراطية في العراق، التشديد على ضرورة الحفاظ على وحدة الكيان العراقي، خصوصا أن الإصرار على موعد انتخاباته يلقي عليه أعباء مذهبية وإثنية وإقليمية يكاد ينوء بحملها.
باختصار، الانتخابات التشريعية في فلسطين والعراق، على أهميتها، مجرد محطتين على مسيرة تحديد هوية النظام السياسي فيهما قبل أن تكونا استحقاقا مصيريا لتقرير مستقبل الشعبين الفلسطيني والعراقي، الخارج حتى الآن، عن متناول إرادتهما المستقلة.
في لبنان فقط، يمكن اعتبار العملية الانتخابية الموعودة في مايو (أيار) 2005، استحقاقا مصيريا قد يترتب عليه تحديد نهائي لعلاقة الكيان اللبناني بجارته، سورية، واستطرادا لدور الدولة اللبنانية في محيطها العربي، خصوصا أن الاصطفافات السياسية الراهنة (بين معارضة وموالاة)، تشير الى أن هذه الانتخابات ستكون، قبل اي اعتبار داخلي آخر، استفتاء على القرار الدولي 1559، وهو استفتاء بات محتما بعد أن صدرت «كلمة السر» من الموقف السوري ـ اللبناني منه، وفحواها أن لبنان «يعترض» على القرار من دون أن «ينكره».
في هذا الإطار، قد تكون انتخابات لبنان المقبلة أول انتخابات لتحديد هوية الوطن، يخوضها اللبنانيون، الأمر الذي يبرز ليس فقط ضرورة إجرائها بنزاهة وحرية كاملتين ـ في حال تجاوز عقدة تقسيم الدوائر بنجاح ـ بل ايضا أهمية ارتقاء الناخب اللبناني الى مستوى تحديات المرحلة، وفي مقدمتها تحدي الفصل الدقيق بين مفهوم اتفاق الطائف للبنان كوطن عربي نهائي لكل أبنائه، وطرح «الوجود السوري» لسقف آخر لعروبة لبنان، هو الولاء للنظام القائم في دمشق.