هاني يونس: إذا كان الإمام الأكبر د. محمد سيد طنطاوي, شيخ الأزهر الشريف, قد أعلن أن الشريعة الإسلامية لاتتعارض مع مبدأ زراعة الأعضاء, تبرعا من الأحياء, أو الأموات في ظل ضوابط اخلاقية, وإنسانية وتشريعية, بحيث تحافظ علي كرامة الإنسان, وحقه في الحياة, وألا تكون الأعضاء, مجالا للبيع والشراء, والتجارة.. إذا كان هذا الرمز الديني الكبير قد أعلن, منذ أيام في مؤتمر بجامعة الأزهر, أنه يجوز نقل عضو من جسد ميت إلي جسد حي بشرط أن يكون الميت قد أوصي بذلك قبل وفاته.. إذا كان الأمر كذلك فأين تكمن أسباب تأجيل صدور قانون نقل الأعضاء حتي الآن؟ وهل باتت القضية في ملعب الأطباء, يتقاذفها فريقان يتصارعان, بين الرفض والقبول, كل يبذل أقصي ما في وسعه لإيجاد الحجج التي تثبت صدق وجهة نظره, خاصة أن شيخ الأزهر أكد أنه إن لم تكن هناك وصية فالأمر متروك حينئذ للأطباء, فهم ذوو الاختصاص في هذا الموضوع؟ أم أن حبس القانون في ثلاجة مجلس الشوري منذ مايقرب من ثلاث سنوات له أبعاد أخري؟!
تحقيقات الجمعة حاولت الاقتراب من جبهتي الرفض والقبول, ناقشت حجج كل فريق, لعلها تكون النهاية لـ حدوتة نقل الأعضاء في مصر, التي تأرجحت فيها الآراء, وتاه الرأي العام بين مؤيد ومعارض, فلا تلبث القضية أن تهدأ حتي تعود إلي الاشتعال مرة أخري.. ولكن متي يتم الحسم؟ هذا هو السؤال!
قبل أن ندخل إلي حلبة صراع الأطباء استطلعنا رأي القانون في هذه القضية الشائكة, فأكد الدكتور أحمد العطار ـ أستاذ القانون الجنائي بجامعة عين شمس ـ أن موضوع بيع وزراعة الأعضاء يثير مشكلات قانونية عديدة, سواء من ناحية القانون المدني, أو من ناحية القانون الجنائي, وحتي أيضا من حيث المسئولية التأديبية للأطباء ممن يقوم بالعمليات في هذا المجال.. فمن وجهة نظر القانون الجنائي, فإنه لايجوز للأطباء أن يباشروا عمليات جراحية إلا وفقا لأصول المهنة, وأخلاقياتها, لأنه حتي تعد ممارسة العمل الطبي ضرورة, يجب ألا تكون هناك أضرار تلحق بأي من الطرفين وبالتالي فإذا قام الطبيب بنزع عضو من إنسان حي, ونقله إلي شخص في حاجة إلي هذا العضو كان العمل الأول جرحا متعمدا, وإذا ساءت حالة المريض تحققت مسئولية الطبيب علي أساس من الموت أو الجرح الذي أفضي إلي الموت, ومن وجهة نظر القانون المدني ـ يضيف د. أحمد العطار ـ فإن نقل الأعضاء يتم إما بالبيع, أو الهبة, فبخصوص البيع فقد طرح الموضوع في مؤتمرات دولية عديدة, وكان السؤال المطروح: هل يجوز للإنسان أن يبيع جزءا من جسده؟ فهناك رأي يتشدد لأن الجسم ليس بشئ قابل للاتجار فيه,
فإذا جري مخالفة ذلك جازت مساءلة البائع والمشتري معا, عن هذا الاتفاق المحرم, والمرفوض في قواعد البيع, وعلي العكس من ذلك ذهب البعض إلي إمكان بيع الأعضاء, ولكن بشروط أهمها ألا يترتب علي البيع ضرر محقق بالبائع, وأن يكون هناك قدر أدني من إمكان تواصل الحياة بعد البيع, وأن يكون في البيع فائدة محققة للمشتري, ويجب أن يقرر ذلك هيئة طبية من أطباء مشهور عنهم التمسك بالأخلاق, وهناك رأي ثالث يقول بأن البيع غير جائز, بينما تجوز الهبة, لأن الهبة تتفق أكثر مع قواعد الأخلاق.
ويشير د. أحمد العطار إلي أن القوانين لا تحسم الأمر تماما, فقد يتدخل المشرع بصورة منفردة بموجب نص, أو بضعة نصوص ليعالج حالة من الحالات, مثل جواز نقل القرنية بعد الوفاة مباشرة, فذلك جائز وفقا لأحكام القانون المصري, ولكننا كرجال قانون أصبحنا مطالبين ـ للأهمية القصوي- بإعداد منظومة متكاملة حول هذا الموضوع الذي يرتبط بأوليات وجود الانسان في الحياة.
*بداية هادئة
بطريقة هادئة أكد الدكتور علاء الدين القوصي ـ الأستاذ بكلية الطب, جامعة أسيوط ـ أنه في معظم بلاد العالم أصبح موضوع نقل الأعضاء وزراعتها موضوعا بسيطا, يجري بطريقة روتينية, مع التقدم العلمي والتقني, وتبسيط الإجراءات بجميع أنواعها, وفي كثير من بلاد العالم يوصي الإنسان قبل وفاته بموافقته علي التبرع بأحد, أو كل أعضاء جسمه, عند وفاته, ويتم إثبات ذلك في رخصة القيادة الخاصة به, أو في بطاقة يحتفظ بها بصفة مستمرة..
أما مصر فتعد من الدول غير المتقدمة في هذا المجال لعدة أسباب منها, أسباب تتعلق بالمسائل الشرعية, فمازال علماء ورجال الدين لهم آراء متعددة ومختلفة, في هذا الأمر, الذي يجب ألا ينظر إليه علي أنه موضوع واحد, لكنه موضوع متشعب, وله جوانبه العديدة, فيجب الاتفاق علي رأي واحد فيه بعد دراسته نقطة, نقطة, فمثلا الاتفاق بصفة نهائية علي تعريف عصري وشرعي ودقيق للموت, ثم الموقف من مسألة الموت الاكلينيكي, والموقف مما يذكره البعض من عدم جواز تبرع الانسان بما لا يملك. والمطلوب هنا أن نعهد بالأمر إلي لجنة أو هيئة دينية واحدة للبت النهائي في هذه القضية, ثم نقنن هذا الرأي بإصدار التشريعات اللازمة.
ويؤكد د. القوصي أنه نظرا لتلكئنا في إصدار التشريعات اللازمة فإن هذه الصناعة لم تتقدم عندنا بالقدر الكافي المطلوب, فمازلنا نفتقد الامكانات التقنية والبشرية اللازمة لهذه العملية المعقدة, ومازلنا نفتقد وجود الفريق العلمي والطبي المتكامل الذي يمكن أن يقوم بهذه العملية بنجاح, ومازلنا نفتقد إمكانات البحث العلمي الجيد, الذي يؤدي إلي تطوير وتحسين إجراء هذه العمليات بدقة مع ضمان أقل نسب للخسارة, ومازلنا نفتقد وسائل إنتاج الأدوية الحديثة التي تقلل من مشكلات وتوابع والآثار الجانبية لهذه العمليات المعقدة, وأخيرا مازلنا نفتقد وسائل المتابعة والرصد والتقييم لهذه العمليات.. والمطلوب هنا إنشاء معهد أو مركز أبحاث علي مستوي علمي عال لتطوير هذه العملية وفقا للأساليب العلمية المتبعة, مع تدريب عدد كاف من الأطباء والعلماء في التخصصات المختلفة علي جميع النواحي المتعلقة بهذه العمليات, عن طريق البعثات العلمية والتدريب العام المتخصص.
من جانبه شرح د, عادل فؤاد رمزي- أستاذ الجراحة بطب القاهرة- المقصود بنقل الأعضاء, بأنه الحل الدائم لفشل الأعضاء الحيوية النهائي وهذا إما أن يتم من الأحياء, بالنسبة للأعضاء المزدوجة, كالكلي, أو لنقل جزء من أعضاء, كفص كبد, أوبنكرياس بكل ما يمثله ذلك من مشكلات للمتبرع( وهذا مالايجب) والمستقبل, لاستعمال أجزاء من أعضاء ذات قنوات وأوعية دموية رفيعة, مما يؤدي إلي احتمال فشل نقل الأعضاء, ناهيك عن العدد القليل من الأعضاء المتاح من الأحياء, والذي لا يفي بالاحتياجات.
ويستطرد د. عادل فؤاد رمزي: أن نقل الأعضاء من المتوفين موتا اكلينيكيا,( موت جذع المخ) خاصة مرضي الحوادث, وإصابات المخ, ويوفر أعضاء متعددة للمحتاجين, وتستثني الأعضاء التناسلية لمنع اختلاط الانساب, وتحفظ هذه الأعضاء لمدد محدودة, بوسائل ومحاليل معينة, قبل نقلها.. مشيرا إلي أن مصر في حاجة ماسة إلي نقل الأعضاء لانتشار الهبوط الكلوي الذي يصيب200 من كل مليون نسمة سنويا, والهبوط الكبدي, نتيجة لالتهاب الكبد الفيروسي الذي يصيب10% من المصريين, بالإضافة إلي مرضي البلهارسيا, وكلاهما قد يؤدي إلي تليف الكبد, وهبوطه, ويصيب مرضي السكر ـ2 مليون مصري ـ كما تنتشر بين المصريين أمراض القلب والشرايين.
ويشير د. رمزي إلي أنه ليس هناك في الأفق بديل فعال سوي نقل أعضاء المتوفين حديثا, فهناك مشكلات في نقل الأعضاء من الحيوانات العليا حتي مع الهندسة الوراثية ـ كذلك فإن وسائل زرع الأنسجة, والخلايا الجذعية مازالت في الطور التجريبي, مضيفا أن المعارضين لنقل الأعضاء من المتوفين يخلطون بين الغيبوبة العميقة الناتجة عن هبوط وظائف المخ العليا, وموت جذع المخ الذي لا رجعة فيه, وهم لايعتمدون علي أساس علمي, إنما يخوضون في غياهب الموت, ولا أظنهم أكثر علما ودينا وفطنة, من كل العالم, فعلامات موت جذع المخ المتفق عليها عالميا هي فقدان كل الانعكاسات العصبية, وتوقف التنفس التلقائي, مما يستدعي وضع المريض علي جهاز تنفس صناعي, وانبساط موجات رسم المخ, وقد أجازت هيئة كبار العلماء السعودية عام1982 نقل الأعضاء من الموتي, وتباشر هذه العمليات في أغلب البلاد الإسلامية والعربية.
*الحكم يتفاوت
الدكتور محمد الجوادي- الأستاذ بكلية طب الزقازيق, ورئيس تحرير المجلة الطبية المصرية-يري أن قضية نقل الأعضاء يتفاوت فيها الحكم من الحلال المطلق, إلي الحلال المشكوك فيه, وصولا إلي التحريم المطلق, فالحلال المطلق نموذجه هو نقل القرنية من المتوفين حديثا, وهذا له قانون موجود منذ أوائل الستينيات, ولكن حدث منذ خمس سنوات ضجة حول نقل القرنية من أحد المتوفين بناء علي شكوي من أبنائه, وللأسف الشديد فإن بعض المسئولين في وزارة الصحة والجامعات, استسهلوا إغلاق بنوك العيون, وفتح الباب للسوق السوداء, مؤكدا أنه كان درسا كافيا لنا فيما يتعلق بأخذ الأمور بالعاطفة أو الكرامة, أو غيرها من الشعارات الرنانة, علي حساب إبصار المرضي.
أما الحرام المطلق الذي لايجدي فيه تحليل من أحد, فهو أن تربي أطفالا في مزارع إنسانية, لتذبحهم بعد حين, وتأخذ أعضاءهم كقطع غيار بشرية, أو أن تجري عمليات استنساخ لمثل هذا الغرض علي مستوي غير أخلاقي.
ومابين الحلال المطلق ونقيضه, اختلفت نظرة الأطباء أنفسهم, باعتبارهم بشرا لهم ضمير, وقلب, فطبيب الكلي الذي يعلم أن المتبرع يعاني مرضا كلويا, وأنه معرض بعد حين للفشل الكلوي, وعندئذ تصبح فرصته ضعيفة, لأنه ضحي بكليته من قبل, مثل هذا المريض يدفع طبيبه إلي التريث مرة, واثنتين وثلاثا, قبل أن يوافق علي أخذ كلية سليمة من الاحياء شخص آخر, هذا هو جوهر المشكلة في نقل الأعضاء.. إنها مسألة تخضع للضمير, وليس للفتوي.
الدكتور صالح بدير أستاذ جراحة العظام, وعميد قصر العيني السابق أكد أن هناك حفنة صغيرة من أساتذة التخدير هم الذين يقفون وراء تعطيل صدور قانون نقل الأعضاء, حيث إنهم يدعون أن وفاة جذع المخ ليست وفاة شرعية, ويقولون إن بعض الحالات النادرة جدا عادت للحياة مرة أخري بعد وفاة جذع المخ, ويتعجب من هذا, مؤكدا أنه مادام أكثر من طبيب قد حكموا بأن المريض توفي إكلينيكيا, فماذا يتبقي بعد؟
ويضيف أنه إذا أردنا أن تنجح عمليات نقل الأعضاء, فيجب أن يؤخذ العضو بعد فترة بسيطة جدا من الوفاة, فالقلب مازال ينبض, هنا تكون نسبة النجاح عالية, مؤكدا أن أهم الأعضاء التي تنقل في حالات موت جذع المخ, هي القلب, والرئتين, والكلي, والكبد, وكذلك الأمعاء, والطحال, أما الجلد والعظام, والقرنية, فيمكن نقلها بعد الوفاة التامة, وتوقف التنفس تماما, فالخلايا تظل حية لأكثر من24 ساعة.
*جبهة الرفض
قضية نقل الأعضاء من موتي جذع المخ, تواجه رفضا شديدا من عدد كبير من الأطباء, كونوا فيما بينهم جمعية تحت اسم الجمعية المصرية للأخلاقيات الطبية, برئاسة د. صفوت لطفي رئيس قسم التخدير والعناية المركزة السابق بطب القاهرة, الذي يرأس أيضا ما يمكن تسميته بجبهة رفض قانون نقل الأعضاء من موتي جذع المخ, بل إنهم لايعترفون أصلا بهذا المسمي, فقد أنشأوا جمعيتهم في الأساس لحماية مرضي الغيبوبة التي تسمي خطأ بموت المخ, من انتزاع أعضائهم, وقتلهم أحياء ومواجهة هذه الدعوة التي تدعو إلي تقنين هذه الجريمة في مصر.. ودأب أعضاء الجمعية علي جمع الحقائق العلمية والاسانيد الطبية, التي تؤكد حقيقة ماذهبوا إليه, بل انهم أكدوا أن هناك اعترافات كثيرة من أطباء أجانب باستمرار كل مظاهر الحياة, بما فيها استمرار الحمل, ونمو الجنين, وولادة طفل طبيعي في مرضي ما يسمي بموت المخ.
ويؤكد د. صفوت لطفي أن الجمعية تقوم بمتابعة أحدث الدراسات العالمية حول ما يسمي بموت المخ, التي تؤكد بطلان هذا المفهوم, وازدياد شدة المعارضة, واتساعها كل يوم, ومنها البحث المهم الذي نشرته مجلة التخدير البريطانية(B.J.A) في عدد مارس2004, تحت عنوان( حان الوقت لإعادة تقييم اختبارات موت جذع المخ في بريطانيا), وكذلك البحث الذي نشرته مجلة طب العناية المركزة الأمريكية الجزء(31) عام2003, صفحة(4) الذي يتضمن دراسة مهمة أجريت في جامعة تكساس لعشر حالات دفعة واحدة من النساء الحوامل اللاتي تم تشخيصهن موتا مخيا, ورغم ذلك فإن العناية الجادة بهن نجحت في إكمال الحمل في هذه الحالات, وضع أطفال طبيعيين بعد حمل وصل في بعض هذه الحالات إلي107 أيام.. وتدعو هذه الدراسة المهمة إلي البحث عن المزيد والجديد من وسائل العناية بموت المخ, ومدهم بأسباب الحياة, وهي بذلك تكشف خطورة الدوافع لدي من يزعمون أنهم موتي, للمسارعة إلي قتلهم, وانتزاع أعضائهم.
تجدر الإشارة إلي أن الجمعية المصرية للأخلاقيات الطبية تقدمت إلي مجلس الشعب قبيل نظر المشروع ببحث كامل يتضمن وجهة نظرها في القضية, مؤكدة أنها قامت بهذا تحذيرا من أخطر قانون يعرض علي مجلس الشعب, مستندة إلي بعض المحاذير في المشروع, منها, الاعتماد علي معلومات طبية خاطئة, ومضللة وإباحة قتل مرضي الغيبوبة العميقة, وكذلك الأخطار الأمنية المترتبة علي القانون, وعدم دستورية القانون, والمخاطر الأخلاقية, والاجتماعية لتنفيذه, وأسباب تحريم نقل وزراعة الأعضاء الآدمية.
** إلي هنا انتهت آراء الفريقين المتنازعين, وبقي علي الجميع أن ينتظر إسدال الستار علي هذه المسرحية الهزلية, التي أصبحت فصولها متتالية علي صفحات الجرائد والمجلات, لأبطال الفريقين, والجميع لا يعرف من منهم صاحب الحق, فمتي يصدر مجلس الشوري كلمته لتريح عقولنا من هذه المناقشات السفسطائية, فقضية نقل الأعضاء لم تعد تنتظر تأجيلا, وإنما تحتاج حسما!
التعليقات