تملك نصوص القانون ولاتستطيع أن تطبقه وإن طبقته فبمعايير مزدوجة والأمثلة واضحة وصارخة لكن ليس هذا مكانه ووقته. والواقع أن هناك ملاحظات أساسية كشف عنها أضخم زلزال منذ اربعين عاما تتعرض له المنطقة وتوابعه وموجات المد البحري الناجمة عنه والتي عرفت بالتسونامي وهي سلسلة من موجات المد العارمة التي انتقلت لآلاف الكيلومترات خلال ساعات قليلة مخلفة وراءها دمارا شاملا وأرقاما من الضحايا تقترب من مائة وستين الفا وما زالت قابلة للزيادة.
أولى هذه الملاحظات يتعلق بمساعدات الدول المانحة، فمؤتمر جنيف الذي عقد تحت اشراف الامم المتحدة لتجسيد الوعود بتقديم هبات وتنسيق اندفاع التضامن وحضره اكثر من 250 مندوبا عن البلدان المنكوبة والحكومات المانحة والمنظمات الانسانية كان لإضفاء صفة رسمية على وعودها بتقديم مساعدة وإتخاذ التزامات ملموسة تترافق مع مهل محددة، خاصة وأن هذه الدول المانحة لم تحدد بعد موعدا للافراج عن المبالغ التي وعدت بها والتي تتجاوز خمسة مليارات دولار، وكانت الأمم المتحدة قد طلبت وبصفة عاجلة في مؤتمر جاكرتا، 977 مليون دولار لمساعدة خمسة ملايين شخص خلال ستة اشهر في المناطق المنكوبة بالاضافة إلى 17 مليار دولار لتمويل عملياتها الانسانية الاخرى في العالم في 2005 التي يستفيد منها 26 مليون شخص.
الإشكالية ليست في التعهدات ولكن في تنفيذ الالتزامات فالمنظمات الانسانية تتخوف من تقلص عمليات الدفع، حين تنحسر أخبار الكارثة وهناك للأسف تجارب سابقة في مثل هذه المواقف. على سبيل المثال أين التعهدات الدولية بإعادة إعمار العراق؟! وأين التعهدات الأخرى بدعم الفلسطينيين الذين يعيشون ربما تحت خط الفقر نتيجة سياسات الاغلاق وحصار الاقتصاد الفلسطيني؟! ثم أين أيضا برامج دعم التنمية في افريقيا ومناطق كثيرة جدا من العالم تعاني إنحسارا في التنمية وتخلفا في مستوى المعيشة.
الم يحن الوقت في إطار فرصة الأمم المتحدة الذهبية لاستعادة دورها أن تشمل الاصلاحات التي تعتزم إجراءها على هيكل المنظمة الدولية ومؤسساتها وأن تتبنى آلية جديدة ترسي بها قاعدة مهمة في النظام العالمي تتعلق بالتنمية في المناطق الفقيرة في العالم تشمل توفير الماء النقي والكهرباء والتعليم والصحة والمساعدة في إزالة الالغام من مناطق الصراع؟!.
الملاحظة الثانية تتعلق باقتصاديات الدول الآسيوية المتضررة، فقد كشف تقرير دولي عن حجم الخسائر المتوقعة في اقتصاديات هذه الدول، والتي قد تزيد على عشرة مليارات يورو (136 مليار دولار) بحسب تقدير مبدئي لشركة مونيخ ري أكبر شركة لإعادة التأمين في العالم مما سيؤدي إلى تغيير الأولويات الاقتصادية لهذه الدول بعد الدمار الهائل الذي لحق بأجزاء غير قليلة من البنية الاساسية خاصة في قطاعي السياحة والصيد والذي ستنعكس تداعياته على السياسة المالية للدول المنكوبة بحسب خبراء الاقتصاد الذين يضعون تايلند وسريلانكا في مقدمة المتضررين إثر تعرضهما للضربة الأسوأ بعد تدمير بنية صناعة السياحة الحيوية والنامية لديهما إضافة إلى الأثر النفسي للسياح على المدى البعيد.
هذه النقطة ترتبط بمخاوف أخرى عن تأخير بدء إعادة الاعمار، فالمحادثات بين البنك الدولي وحكومات الدول المتضررة لتقييم الاحتياجات قيد الانعقاد. والسؤال ما هو الوقت الذي سيستغرقه التقييم؟ وما هي الشروط السياسية في مثل هذه الظروف؟ وماذا أيضا عن ديون هذه الدول الذي يتأرجح الحديث فيها بين الإلغاء والشطب والتأجيل؟ فنادي باريس يتفق على تجميد هذه الديون ويتحدث عن اتفاق يدخل حيز التنفيذ فورا وينطبق فقط على تلك الدول التي تريد قبوله.
أين هذا من الإلغاء الكامل والفوري وغير المشروط للديون الخارجية للبلدان الاحدى عشرة التي تضررت من تسونامي الذي أكده في بيان اقتراح المنتدى الاجتماعي العالمي 2005 والتي تبلغ 272 مليار دولار ولأندونيسيا وحدها مديونية ب130 مليار دولار.الملاحظة الثالثة تتعلق بالبعد السياسي لمشكلات عرقية تعاني منها بعض الدول المتضررة وتحديدا اندونسيا وسريلانكا وتتهددهما أجواء من التوتر المتصاعد بين الحكومة والمتمردين قد تؤثر بالطبع على تقويض جهود الإغاثة فيهما.ففي سيريلانكا حذر نمور التاميل من عواقب وخيمة إذا لم ينسحب جنود الحكومة من مخيمات الإغاثة.
كما يواصلون الاحتجاج على أن المعونات التي أرسلت للمناطق التي يسيطرون عليها قليلة وهو الشئ الذي تنفيه الحكومة.
أما في أندونيسيا فهناك تبادل للاتهامات بين الحكومة وحركة آتشيه الانفصالية بشن هجمات على الطرف الآخر تسبب في تراجع الآمال في إندونيسيا بأن تمهد الكارثة الطريق لإيجاد حل للنزاع الانفصالي طويل الأمد بإقليم آتشيه.وهو ما حدا باندونيسيا بوضع قيود على حركة وتنقلات عمال الاغاثة الدولية في مناطق الاقليم المضطرب نظرا لمخاوف حكومية من تعرضهم لعمليات قتل يحتاجها المتمردون ــ على حد تعبير الحكومة ــ لإثارة الانتباه.الملاحظة الأخيرة تتعلق بمدى تراجع إجراءات الأمن والسلامة التي تنبه لها العالم بعد أن اجتاحت الامواج العارمة في سبع ساعات فقط نطاقا يمتد بمساحة4500 كيلومتر في سواحل المحيط الهندي منطلقة بسرعة 800 كيلومتر في الساعة وبفاصل 5 إلى 40 دقيقة للموجة الواحدة عن الأخرى دون أن يكون هناك أدنى إنذار.والواقع أن التجربة اليابانية في هذا المجال هي الأقرب إلى التطبيق، فاليابان تمتلك خبرة هائلة في التعامل مع موجات المد البحري الناشئة عن الزلازل «تسونامي«، وهو مصطلح ياباني الأصل والمنشأ وتأخذ الياباني مخاطر التعرض لتسونامي مأخذ الجد الكامل.
فاليابان لديها ستة مراكز إقليمية متصلة بـ300 جهاز استشعار موزعة في أنحاء الجزر اليابانية، وتشمل 80 معدة استشعار طافية تقدم معلوماتها على مدار الساعة وفي حال حدوث مد زلزالي، فإن هيئة الارصاد تصدر إنذارا خلال ثلاث دقائق من تحديد طبيعته. ويتم بث الانذار على جميع الاذاعات والقنوات التلفزيونية، وفي حالة الضرورة يتم إصدار أوامر بالاجلاء. وتهدف هيئة الارصاد من ذلك إلى إصدار تحذير للمواطنين قبل 10 دقائق على الاقل لاخلاء المنطقة المعنية.
وتعتبر شبكة المعدات والتجهيزات لدى هيئة الارصاد اليابانية متطورة للغاية حتى أنها يمكنها التنبؤ بارتفاع وسرعة واتجاه وموعد وصول أي تسونامي يحتمل أن تضرب الشواطئ اليابانية
ويضاف إلى نظام الانذار المبكر المتطور هذا قوانين البناء الصارمة الجديدة للحماية ضد أي تسونامي أو زلازل، والتخطيط الجيد لمواجهة الكوارث والذي ساعد حتى الان في تقليص عدد الضحايا من اليابانيين في مثل هذه الظروف.
لكن المشكلة في الكلفة العالية التي تصل إلى 20 مليون دولار، لا تمثل عبئا على اليابان لامقارنة بدول جنوب آسيا الفقيرة ومع ذلك تم بالفعل وضع اطار عمل لنظام انذار من موجات المد ولكن التحدى الاكبر هووصول التحذير للمناطق النائية والاكثر عرضة للخطر وهو برنامج تبنته الأمم المتحدة في مؤتمر عقد في موريشيوس.
والواقع أن المنظمة الدولية تمتلك نظام اتصال عالمي يمكن استخدامه الان في توجيه تحذيرات من موجات المد الى المحيط الهندي وأماكن اخرى وأن نظام الانذار من الاعاصير الموجودة في المنطقة يمكن تعديله بسهوله للانذار من موجات المد.لكن من السابق لأوانه تقييم تكلفة نظام انذار عالمي والجدول الزمني لتنفيذه.