سعيد اللاوندي: ليس خافيا أنه منذ وقوع أحداث‏11‏ سبتمبر‏2001‏ الارهابية في امريكا اصبحت منطقة الشرق الأوسط‏(‏ وخصوصا المنطقة العربية‏)‏ تحتل رأس الأجندة الدولية سيما بعد ان صورتها واشنطن وكأنها‏(‏ معمل لتفريخ الإرهابيين‏!)‏ وكل ما يحدث فيها من قلاقل يؤثر بالضرورة سلبا علي الأمن القومي الأمريكي‏(‏ والعالمي‏).‏
‏..‏ وكان طبيعيا من هذا المنظور ان تمطر سماء المنطقة مبادرات من كل لون وصنف فأمريكا تقدمت برؤية خاصة تزعم انها تريد‏(‏ دمقرطة‏)‏ المنطقة‏,‏ وتضع حدا للديكتاتوريات التي تملأ الدنيا طغيانا وجورا فيها‏..‏ ولم تتقاعس أوروبا عن تقديم مبادرتها الخاصة التي تنافس المبادرة الأمريكية وتهدف الي وضع خريطة طريق نحو الاصلاح‏..‏ وبين المبادرتين الأمريكية والأوروبية امتلأت الأرض العربية بمبادرات شتي تتفق في شيء واحد هو رفض الاصلاح القادم من الخارج‏,‏ والحديث عن ضرورة اعادة ترتيب البيت العربي من الداخل‏,‏ والاعتماد علي عناصر القوة الكامنة فيه‏..‏ وطرحت أكثر من دولة رؤيتها للإصلاح السياسي والاقتصادي‏..‏ وثار جدل كبير لم يتوقف حتي اليوم
‏..‏ في هذه الأجواء الاقليمية والدولية التي لاهم فيها سوي حديث الاصلاح يصدر باللغة الفرنسية كتاب تحديات العالم العربي ليضيف مياها جديدة تجري في النهر العربي‏,‏ وهو عبارة عن خلاصة أفكار ناقشتها ندوة دولية نظمها مركز العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس بالتعاون مع معهد العالم العربي في الصيف الماضي وشارك فيها رهط من رجال الفكر والسياسة والاستراتيجيا من فرنسا والمنطقة العربية‏.‏
يقع الكتاب في نحو‏287‏ صفحة من القطع المتوسط واشرف علي مادته العلمية باسكال بونيفاس مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية والمعروف بنزاهته العلمية والاكاديمية وله اكثر من‏40‏ كتابا منها كتاب إرادة العجز وكتاب دروس‏11‏ سبتمبر وكتاب فرنسا والامبراطورية وكتاب من يجرؤ علي نقد اسرائيل وقد اثار الكتاب الاخير لغطا واسعا في الأوساط الفرنسية والأوروبية لانه يلامس حدودا غير مسبوقة‏(‏ أو بالاحري غير مأهولة‏)‏ تتعلق بالدولة العبرية‏,‏ ومعاداة السامية‏,‏ ونفوذ اللوبي اليهودي في فرنسا‏..‏ ولقي بونيفاس ـ بسبب هذا الكتاب ـ عنتا شديدا‏,‏ فوصلته رسائل بريدية والكترونية تحمل اهانات وشتائم وتهديدات بالقتل وواجه ضغوطا في العمل‏..‏
أيا كان الأمر‏,‏ فالثابت ان باسكال يونيفاس هو من الباحثين القلائل الذين ينظرون الي المنطقة العربية نظرة محايدة ويسعي جاهدا عبر كل انتاجه العلمي ان يكون موضوعيا وواقعيا في أن واحد‏,‏ ولاينكر جبروت الدولة العظمي‏(‏ أمريكا‏)‏ لكنه يري ان فرنسا وأوروبا يمكن ان تلعبا دورا يعيد التوازن الي العلاقات الدولية‏..‏ ويرفض التعامل مع العالم العربي علي انه مجرد قطعة عقارية مؤكدا انه يمور بأحداث جسام‏,‏ وتطلعات تعانق السماء‏..‏ ومن هنا كان هو صاحب فكرة الندوة التي أصبحت كتابا والتي تبحث في التحديات التي يواجهها العرب في السياسة والاقتصاد‏,‏ والاجتماع خصوصا في عصر تطغي عليه آليات العولمة المتوحشة وتحكمه‏(‏ شئنا أم أبينا‏)‏ معادلات نظرية صدام الحضارات كما شرحها المفكر الأمريكي صموئيل هينتنجتون‏.‏

*العرب وأوروبا
يضم الكتاب جملة من المحاور لعل أهمها من وجهة نظري العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والعالم العربي وعلاقة الديمقراطية بالتحديات الاجتماعية‏,‏ وكذلك الامن القومي وعلاقته بالتحديات الاستراتيجية‏..‏ ولقد أفرد الكتاب فصلا عن حوار الحضارات وتلاقح الثقافات وكأنه بذلك يرد علي نظرية صدام الحضارات التي أثارت ولاتزال جدلا واسعا في كافة الأوساط الثقافية والسياسية‏.‏ ‏..‏ وانطلاقا من أجواء العولمة التي أصبحت ـ حسبما يبدو ـ وكأنها قدرا محتوما خصص الكتاب أحد فصوله للحديث عن التحديات الاقتصادية في ضوء معطيات الجغرافيا السياسية الخاصة بالمنطقة‏..‏
‏..‏ وبعد حديث طويل عن العقبات التي تعترض مسيرة الدول العربية والتي لايمكن تبرئة أمريكا منها‏!‏ يسهب الكتاب في الحديث عن التحدي الثقافي ربما لأن معهد العالم العربي المشارك في تنظيم الندوة يولي الثقافة‏(‏ بمعناها الشامل‏)‏ اهمية خاصة‏,‏ وربما لأن نظرية صدام الحضارات أصبحت عنوانا للعصر الذي نحياه منذ سقوط حائط برلين في‏9‏ نوفمبر‏1989‏ وانفراد امريكا بالقرار الدولي‏..‏ أيا كان الأمر يتساءل الكتاب عن الرهانات التي تحكم أي حوار حقيقي يمكن ان يدور حول الثقافات‏,‏ ولم يستبعد المعطيات المتوسطية باعتبار ان أوروبا تهتم بالبعد المتوسطي للدول العربية وتؤمن ان هذا البحر يجب ان يكون بحيرة سلام‏,‏ وتنتهي اسطورته كعائق طبيعي ليتحول الي اداة تواصل بحرية وثقافية
‏..‏ ولاينسي ان يشير الي جملة الخصائص التي تشترك فيها الدول المشاطئة للمتوسط‏(‏ شمالا وجنوبا‏)..‏ ويرجح الكتاب دون مواربة فكرة حوار الثقافات‏(‏ لاتصادمها‏)‏ ويرفض منطق آلية‏(‏ أو ميكانيكية‏)‏ العلاقات الثقافية بمعني انها إما ان تكون في حالة حوار أو ان تكون في حالة تصادم‏..‏ فهذا الفصل التعسفي ينفي مفهوم التطور وينسف مفهوم التداخل الحضاري لاغيا في النهاية مفهوم التاريخ‏!‏ ولهذا خطورته اللامحدودة علي حاضر ومستقبل المنطقة العربية والمتوسطية باعتبار ان حوض المتوسط ليس أكثر من بوتقة انصهرت فيها الثقافات وتفاعلت عبر أحقاب زمنية متتالية‏..‏
ويضع الكتاب يده بقوة علي موطن الداء في المرحلة الراهنة فيذكر ان سعي الولايات المتحدة الي فرض قيمها وانماطها السلوكية والثقافية علي الدول الأخري وخصوصا الدول العربية حتي خلال مشاريعها الخاصة بالدمقرطة‏,‏ والشرق الأوسط الكبير هو سلوك يتنافي مع مبدأ الحوار والديمقراطية‏..‏ ولعل هذا ما تترجمه بجلاء مفاهيم العولمة علي الطريقة الأمريكية‏..‏ فكل شيء يجب ان يكون مصبوغا بصبغة أمريكية‏..‏ ولامجال للحديث عن رؤية أخري أو طريقة تفكير أخري‏..‏ فالأنماط الثقافية الأمريكية هي المظلة التي يجب ان تمتد فوق رؤوس الجميع‏..‏ وهذا معناه ان الصيغة التي ستحكم العلاقات الدولية ستكون‏(‏ صيغة الثقافة الغالبة‏)‏ في مواجهة‏(‏ الثقافة المغلوبة‏)..‏ الأولي تفرض نفسها‏,‏ والثانية لاتملك سوي الامتثال‏..‏

*الإصلاح السياسي
ويطرح الكتاب حلا لهذا المأزق يتحدد بشيئين الأول هو التعددية والاصلاح السياسي بمعناه العام والشامل‏,‏ والثاني هو حرية الفكر والتعبير‏.‏ وينصح بأن ينفتح العالم العربي علي العوالم الاخري دون أدني حساسيات فالثقافات لا تندثر ولكن تتشكل مع بعضها البعض لتكون ضمن المدخلات الاساسية للثقافة العالمية‏..‏ ‏..‏ واستطرادا‏,‏ يشرح الكتاب تداعيات الصدام بين الثقافات ليخلص الي ان هناك شكلين من العلاقة‏,‏ الأول هو التصادم الذي لامناص منه‏,‏ والثاني هو التعايش بين الثقافات مرجحا بالطبع‏,‏ الشكل الثاني الذي لايخلو من أية توترات‏,‏ ويعتبر جسرا للتواصل الثقافي والفكري‏.‏
وربما اتساقا مع هذا الطرح الحضاري‏,‏ يلفت الكتاب الانتباه الي سؤال يشغل الأوساط الاكاديمية هو‏:‏ هل يمكن الحديث عن حضارة اسلامية؟ يستمد السؤال أهميته انطلاقا من العصر الذهبي الذي عاشته هذه الحضارة بين القرنين الثامن والثاني عشر وصولا الي تجلياتها الثقافية في القرن التاسع عشر‏..‏ وفي ثنايا الكتاب نضع ايدينا علي مبررات طرح هذا السؤال وهي غياب ـ الي حد ما ـ القواسم المشتركة التي تربط الشعوب الاسلامية ببعضها البعض رغم الوجدانيات والروحانيات الكثيرة التي تغلف حياتها‏..‏ ومعلوم ان القواسم المشتركة الغائبة ـ والتي يستهدفها السؤال ـ تتعلق بأمور رمادية تعكسها النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المبرر الثاني يتعلق بالتصريحات الجامدة لمفهوم الحضارة‏..‏
أخطر ما في هذه القضية ـ السجالية ان هناك قناعة يبرزها الكتاب هي ان الشعوب الاسلامية يخلو نظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من كل ما من شأنه ان يكرس صفتها كحضارة واحدة‏,‏ أو كحضارة اسلامية علي وجه الخصوص‏..‏ وينتقل الكتاب بعد ذلك للحديث عن صدمة العولمة التي همشت الاسهامات العربية في الحضارة الانسانية‏..‏ فالمعلوماتية والتقنيات الحديثة التي تعتبر العنوان الأبرز للعولمة أو الامركة‏(‏ لافرق‏)‏ يصعب الحديث عن دور عربي فيها اللهم الادور المتلقي‏..‏ ولعل الأخطر في هذا الحال ـ هو التأثير السلبي الذي تمارسه العولمة المتوحشة علي النخب الثقافية والفكرية التي تجد نفسها في النهاية محاصرة بطبقة رجال الاعمال التي قفزت لتحتل واجهة الاحداث‏,‏ وتقود القاطرة السياسية‏..‏
ثم يتحول الناس بعد ذلك اما الي مؤيدين لمسيرة العولمة أو الي رافضين يحلو للبعض ان يطلق عليهم اسم الشيوعين الجدد نظرا لأنهم يناصبون العولمة الامركة العداء‏.‏

*جدار عازل
ويذكر الكتاب ان هذه النخب تجد نفسها امام تحد كبير ويقع في خلدها انها اشبه بالمسجون الذي يفصله عن العالم الخارجي جدار عازل‏..‏ ويصبح الهاجس والحالة هذه كيفية تحطيمه والخروج من حالة الافلاس التي تغلف حياتها‏..‏ المهم في هذه الظروف ان يتحقق الحوار مع الاخر‏,‏ لكن لايغيب عن الاذهان ان شرط اقامة الحوار ـ أي حوار ـ هو ان يكون هناك شعور بالندية مع الطرف المتحاور معه‏..‏ ‏..‏ وفي ظل الشعور بالتهميش والهوان والانكسار الذي تطفح به الروح العربية‏,‏ سوف يكون صعبا بل مستحيلا اقامة هذا الحوار المنشود‏..‏ ويلفت الكتاب الانتباه الي ان اقالة الواقع العربي من عثرته يحدده نوعان من الاسهام‏,‏ النوع الأول يجب ان تضطلع به الدول الغنية‏,‏ والثاني تنهض به المنظمات الدولية‏..‏ لكن السؤال‏:‏
‏*‏ هل في زمن الهيمنة الأمريكية يمكن ان تقوم المنظمات الدولية بأي دور ثقافي أو سياسي؟‏.‏
الاجابة التي تفرضها الوقائع المعايشة ستكون بالنفي لان تقزيم المنظمات الدولية والاقليمية هي سياسة امريكية لاتغيب علي لبيب‏!‏ ‏..‏ وكان طبيعيا ان يخصص الكتاب فصولا كاملة لقضايا لاتقل أهمية عن التحدي التضامني مثل التحدي الاقتصادي الذي يضم جملة عناصر منها مشكلة المياه‏(‏ مياه الشرب‏)‏ وظاهرة التصحر‏,‏ والمشكلة الديموغرافية‏.‏

*العنف والعنف المضاد
ولم ينس الكتاب ان يشير الي أزمة السلام في المنطقة العربية بالنظر الي احداث العنف ـ والعنف المضاد سواء في فلسطين المحتلة أو العراق‏,‏ وتأثير ذلك علي التوازن الجيوستراتيجي‏..‏ ثم يعرج علي الشراكة الأورومتوسطية‏,‏ كما تحددها عملية برشلونة التي يمر اليوم عشر سنوات علي انطلاقها ليرسم دوائر التعاون السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي تربط شمال المتوسط بجنوبه‏.‏ ‏..‏ ويشير ـ في الوقت نفسه ـ الي الازمات العربية التي يحصرها في البطالة والأمية وتهميش دور النساء‏,‏ ثم نقص الاستثمار وغياب الحريات وزيادة الفقر‏.‏ ‏..‏ ويطرح الكتاب اشكالا مختلفة للتعاون مع الاتحاد الأوروبي مؤكدا انها قد تكون الخطوة الأولي في طريق الألف ميل وصولا الي تجاوز الأزمات‏,‏ واحلال الرفاهية والاستقرار في المنطقة الممتدة جنوب الشاطيء المتوسط‏..‏
يبقي اخيرا ان نذكر ان كتاب‏(‏ تحديات العالم العربي‏)‏ قد نجح في تشخيص الأمراض التي يعاني منها الجسد العربي‏,‏ انما الطروحات الخاصة بالعلاج فلم تخرج عن كونها رؤي اكاديمية خاصة لاتنهض لتشكل روشتة علاج ناجعة وحسبها انها جملة من الاجتهادات التي قد تصلح عتبة أولي في طريق اعادة ترتيب البيت العربي من الداخل بارادة عربية خالصة بعيدا عن منطق العصا والجزرة التي برع فيها احفاد العم سام منذ ان عقدت لهم قيادة العالم قبل اقل من عقدين من الزمان‏.‏