منذ أن وقع الزلزال الكبير في المحيط الهندي، والكرة الأرضية تتأرجح كما يتأرجح "رقاص" الساعة. فالعلماء لا يستبعدون أن تكون الأرض قد انحرفت عن محورها، مما قد يؤدي إلى تعديل في الوقت وإلى تغيير في المناخ. ولكن ما لا يستبعده أحد هو أن مواقف ومعادلات سياسية كثيرة قد تغيرت أو هي على وشك أن تتغير. لقد اطلق الزلزال سلسلة من الأمواج العاتية - التسونامي- التي أغرقت إقليم أتشيه في جزيرة سومطرة الإندونيسية. ولم تفرق في ذلك بين انفصالي ووحدوي. كما أغرقت مناطق واسعة من سريلانكا دون أن تقف عند حدود معسكرات نمور التاميل الانفصالية ومواقع القوات الحكومية. ولم توفر جنوب تايلاند حيث الصراع الاسلامي - البوذي أوقع مئات الضحايا من المسلمين في الأشهر القليلة الماضية. ولكن بعد أن انحسرت هذه الأمواج جرفت معها أسس الحروب الأهلية في جنوب آسيا، التي أسفرت في العقود الماضية عن خسائر بشرية فادحة، فالمصالحات الوطنية باتت قاب قوسين أو أدنى.
ففي إندونيسيا نجد أن اقليم اتشيه في شمال غرب سومطرة كان الأكثر تضرراً، إذ إن مركز الزلازل كان الأقرب إليه. وقد أعادت أمواج تسونامي التي اجتاحت هذا الاقليم إلى الأذهان صورة هيروشيما بعد قصفها بالقنبلة النووية الأميركية. كما أدت هذه الفاجعة الإنسانية ( أكثر من 150 ألف ضحية ) إلى أمرين أساسيين : الأمر الأول انكفاء الحركة الانفصالية في الاقليم والتي كانت قد نشطت بعد انفصال تيمور الشرقية وإعلانها دولة مستقلة عن إندونيسيا، والأمر الثاني هو مبادرة الحكومة المركزية إلى مساعدة المنكوبين متجاوزة التوترات التي تسببت بها سنوات طويلة من التمرد المسلح.
فعلى الرغم من أن سكان الاقليم - خلافاً لسكان تيمور الشرقية - جميعهم من المسلمين، إلا أن حركتهم الانفصالية قامت على أساس الشعور بالحرمان من ثروتهم النفطية، مما يضطرهم إلى العيش على الصيد البحري، والزراعة، والهجرة إلى جارتهم ماليزيا. إن إعادة بناء اقليم اتشيه توفر فرصة الآن لإعادة بناء الوحدة الوطنية الإندونيسية، بعد أن بدا وكأن هذه الدولة الاسلامية الكبرى التي تتألف من ارخبيل من مئات الجزر معرضة لخطر التمزق.
ولعل أهم المساعدات الخارجية التي تلقتها إندونيسيا جاءت من أستراليا، الدولة البحرية المجاورة التي سقط لها في "بالي" الإندونيسية حوالى 100 ضحية في عمل ارهابي قام به إرهابيون "باسم الإسلام" ؟!. ومنذ ذلك الوقت أصبح الإندونيسي زائراً غير مرغوب به في أستراليا، بل إن الحكومة الأسترالية ذهبت الى حد التهديد على لسان رئيس حكومتها جون هوارد بأنها مضطرة للذهاب حتى الى داخل الدول المجاورة لها لمنع وصول الإرهابيين إليها. ورغم أن هذا التهديد أقلق عدة دول آسيوية على سيادتها الوطنية، إلا انه كان يستهدف إندونيسيا في الدرجة الأولى، الأمر الذي أدى إلى تدهور غير مسبوق في العلاقات بين الدولتين.
ومن الواضح الآن أن الكارثة الاخيرة طوت تلك الصفحات، بما فيها صفحة تورط أستراليا في دعم وتشجيع حركة الانفصال في تيمور الشرقية، وفتحت صفحة جديدة لا بد من أن تنعكس بصورة ايجابية على العلاقات بين كافة دول جنوب شرق آسيا.

إن دور الكوارث الطبيعية في تغيير مجرى الأحداث، وفي إعادة صناعة التاريخ على النحو الذي يجري الآن، ليس بالأمر الجديد ، ففي شهر ابريل عام 1815 انفجر في إندونيسيا بركان تامبورا وكان الأضخم والأعنف في التاريخ الحديث، حيث أدى انفجار هذا البركان إلى تصاعد كميات من الغبار التي عمت العالم كله تقريباً، وحجبت الشمس لفترات طويلة مما أدى إلى هبوط الحرارة الى درجات لا سابق لها، فكان شتاء ذلك العام الأشد برودة وظلاماً في العصر الحديث. إن إلقاء الولايات المتحدة الأميركية القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناكازاكي في اليابان في شهر أغسطس عام 1945، وضع نهاية للحرب العالمية الثانية، ونصب الولايات المتحدة زعيمة على عالم ما بعد الحرب. وكان تمرد الاتحاد السوفييتي على هذه الزعامة الحافز وراء تسلحه النووي. ورغم سقوط الكرملين في عام 1989 وانتهاء الحرب الباردة لمصلحة واشنطن، فإن القاعدة المستمرة منذ ناكازاكي وهيروشيما هي وضع دول العالم أمام خيارين أحلاهما مر، إما أن تخضع للهيمنة الأميركية الجديدة أو أن تتوقع مصيراً كاليابان بالأمس... وكالعراق اليوم.
يبقى أن صناعة الكارثة لأهداف سياسية، أو تحت عوامل سياسية شيء، وصناعتها لأهداف دينية وتحت تأثير معتقدات دينية شيء آخر. من ذلك مثلاً أن الخلفية الدينية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط تتعمد جر المنطقة والعالم إلى كارثة "هرمجيدونية" تكون المدخل إلى خلاص العالم، وإلى سيادة العدالة والسلام فيه لمدة ألف عام. قبل الرئيس الحالي جورج بوش كان الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريجان من المؤمنين بهذه النظرية التي يبشر بها قساوسة اليمين الانجيلي في الولايات المتحدة أمثال جيري فولويل، وبات روبرتسون، وهول ليندسي، وفرانكلين غراهام، وسواهم من المقربين إلى الرئيس الأميركي. يعتقد هؤلاء بأن ثمة سيناريو إلهياً لنهاية الزمن، وأن على الانسان أن يعمل على تحقيق هذا السيناريو لا أن ينتظر حدوثه، وأن الله يختار شعباً ممن يشاء من شعوب العالم للقيام بهذه المهمة الإلهية من خلال تمكينه من القوة العسكرية والاقتصادية والمعنوية. إن هذا الاعتقاد يعكسه ما يرد في خطابات الرئيس جورج بوش من أن الولايات المتحدة تخوض الحرب على العراق تنفيذاً لمهمة إلهية، وإنها تعمل من اجل تحقيق العدالة المطلقة في أفغانستان، وللتغلب على محور الشر ولرفع راية الحق.
وتقع الكارثة التي حلت بالعراق في اطار هذا المنطق الهرمجيدوني لتحقيق نبوءات دينية - توراتية تتعلق بسيناريو نهاية الزمن، كما وضعه فيلسوف هذه الحركة الدينية الاميركية جون نلسون داربي والذي تبناه تلميذه سكوفيلد في كتابه الذي صدر في عام 1903 والذي يعرف بـ"إنجيل سكوفيلد". إن التكامل بين ما تتمتع به الولايات المتحدة من قوى لم يسبق أن عرفتها دولة من قبل في تاريخ الانسانية، وبين هيمنة هذا الفكر الديني على صناعة القرار الأميركي في الشرق الأوسط ، يمكن أن يؤدي إلى انفجار أشد فظاعة من انفجار بركان كراكاتوا ومن قبله بركان تامبورا... وحتى من مأساة هيروشيما وناكازاكي!.
هل يكون للكارثة الانسانية الرهيبة التي عصفت بالدول الآسيوية دور في تصحيح مسيرة الحرب ضد الإرهاب؟. لقد قضت أمواج التسونامي على عشرات الآلاف من المسلمين والمسيحيين والهندوس والبوذيين، وابتلعت الآلاف من الآسيويين والغربيين على حد سواء، ودمرت مساجد وكنائس ومعابد، ثم ان المساعدات الانقاذية التي تدفقت على الدول المنكوبة جاءت من مختلف أنحاء العالم ، ومن حكومات ومؤسسات أهلية، حتى أن جنود الأسطول الأميركي السابع في المحيط الهادي من اليابان حتى الخليج العربي لم يكونوا موضع ترحيب، كما هم في إندونيسيا حيث يقومون بأعمال انسانية هي موضع تقدير وامتنان (على عكس ما تقوم به القوات الأميركية في العراق مثلاً).
إن النكبة التي لم تميز بين دين وآخر، وبين ثقافة وأخرى، والمشاعر الانسانية الانقاذية التي لم تقف عند حدود التباينات الحضارية والمسافات الجغرافية، اسقطتا عملياً شعارات تقسيم العالم إلى فسطاطين- كفر وايمان- كما اسقطتا شعارات تصنيف العالم إلى معسكرين شر وخير. لقد كانت هذه الشعارات تعبيراً عن الزلزال الإرهابي الذي ضرب الولايات المتحدة في 11 سبتمبر عام 2001، والذي اطلق موجات من التسونامي العسكرية والسياسية اجتاحت القيم الانسانية والقوانين الدولية التي توافقت عليها المجتمعات الانسانية بعد كفاح طويل ومرير، إلا أن ما يجري اليوم في آسيا من معاناة ومن تعاون انقاذي لا سابق لأي منهما في التاريخ المعاصر، يعيد رسم صورة العالم على اساس وحدة العائلة الانسانية، ووحدة مصير هذه العائلة في قرية كونية واحدة، فالكارثة الرهيبة التي حلت بآسيا هي من الضخامة بحيث انها لا بد من أن تعيد صناعة التاريخ.. ليس سلبياً فقط ، وإنما ايجابياً أيضاً. وفي ذلك تعويض للضحايا ومواساة للمنكوبين.