في شهر يوليو من عام 2003 ، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" في صفحتها الأولى، قصة ينفطر لها القلب عن امرأة عراقية تدعى جومانا ميخائيل حنا، تحت عنوان " شهادة امرأة عراقية على نظام الرعب". حكت جومانا في تلك القصة كيف أنها اعتقلت زورا وبهتانا، وكيف تعرضت للتعذيب وسوء المعاملة من قبل زبانية نظام صدام حسين، بما في ذلك امتهان كرامتها، والاعتداء عليها جنسيا. ومن أشكال التعذيب النفسي الفظ التي قالت إنها تعرضت لها، إجبارها على مشاهدة جثة زوجها التي وضعت لها داخل زنزانتها الضيقة المكتظة أصلا. وقد جعلت هذه القصة من المرأة المذكورة، رمزا حيا ومجسدا لمعارض مملكة الرعب التي أنشأها نظام صدام حسين. وخلال مدة اعتقالها قالت: إنها شهدت بين ما شهدته، تعرض الكثيرات من بنات جنسها للتعذيب حتى الموت، على أيدي قتلة وزبانية صدام حسين، ومن ثم دفنهن في مقابر جماعية، حفرت لهن خارج أسوار السجن.
وعلى إثر انهيار ذلك النظام المرعب، اصطحب صحافي الـ"واشنطن بوست"، الذي أعد المادة الصحافية المذكورة، معه هذه المعتقلة العراقية السابقة، في جولة داخل سجن "الكلاب السايبة"، في إشارة عامية عراقية إلى الكلاب الضالة. وقد استخدم بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع الأميركي، وأحد أبرز مهندسي ودعاة الحرب على العراق، القصة نفسها، في الدفع والزحف بجيش بلاده نحو بغداد. ليس ذلك فحسب، بل وقع عدد من محققي الأمم المتحدة المحترفين، بمن فيهم أطباء واختصاصيون نفسيون، ومحققون من الشرطة، وبول بريمير رئيس سلطة الاحتلال المؤقتة السابق في العراق وغيرهم، على ما قالته المعتقلة العراقية، عن أنها كانت قد اعتقلت نتيجة لغضب عدي صدام حسين من زواجها برجل ليس من أصل عراقي.
هذا وقد اتسمت شهادات وإفادات بعض المحققين بالكثير من الدرامية والانفعال والمبالغة من شاكلة: "لقد سبق لي أن حققت في 70 دولة من دول العالم حول ما ارتكب فيها من جرائم وفظائع، بيد أنني أقول لكم هنا: إن شهادات هذه المرأة، تعد الأكثر مصداقية ومأساوية، بين كل ما سمعته في حياتي المهنية على الإطلاق". كانت تلك هي إفادة دونالد كامبل، قاضي محكمة نيوجيرسي العليا. وقد سبق له أن عمل مستشارا قانونيا أول، لسلطة التحالف المؤقتة في بغداد. وقد كان كامبل بين زمرة عدد كبير من المحققين الأميركيين، المتحمسين للتحقيق والنظر في حكاية المرأة العراقية المشار إليها. ولكن يا للحسرة! فقد كشفت مجلة "سكوير" في عددها الأخير الصادر في شهر يناير الجاري،عن أن كل القصة التي حكتها المرأة العراقية المذكورة، لم تكن سوى حكاية من نسج الخيال والفبركة.
كما اتضح أنه لم يكن هناك زوج ميت، وإنما صديق، أسهم بدوره في فبركة ونسج كل تلك القصة. واتضح أيضا أن اعتقالها تم بسبب ممارسة الدعارة، وأن احتجازها في السجن لم يدم لأكثر من بضعة أسابيع، استجابة لشكوى أمها وطلبها من الشرطة، تلقين ابنتها درسا من دروس السلوك والأدب. وبحسب الرواية المنسوبة لمجلة "سكوير" فإنه لم تكن هناك أي علامات على جسم المرأة ، تدل على تعرضها لتعذيب بدني، إلا أن سلطة الاحتلال أوعزت للطبيب العراقي الذي فحصها، بأن يذكر في تقريره الطبي عنها ما جاء في روايتها هي، من ادعاءات حول تعرضها للتعذيب البدني. وبعض هذه القصة، يبدو أكثر رقيا في خياله الفني، من بعض القصص والروايات الأدبية.
رجوعا إلى مقال المجلة المذكورة الذي حمل عنوان "الحلم الأميركي" قالت المرأة نفسها لأحد أطبائها: إن آرنولد شوارزينجر، حاكم ولاية كاليفورنيا وزوجته، التقياها في الشارع العام في مدينة لوس أنجلوس، وسلماها شيكا بمبلغ 20 ألف دولار، إلا أن إحدى المنظمات الخيرية الكنسية التي كانت ترعاها في كاليفورنيا، صادرت ذلك الشيك وأخذته منها على الفور. وقد افتضح أمر هذه الرواية الأخيرة عندما اتصل الطبيب المعالج، بمكتب شوارزينجر، بقصد التحقق من مدى صحة تلك الرواية. وتوصلت المجلة إلى استنتاج مفاده أن الكثيرين من الأطباء الذين هبوا لمعالجة المرأة المذكورة، لاحظوا أنها تسرد قصصا خيالية متوهمة، لكن وعلى الرغم من ذلك، لم يوضع حد لهذا الخيال الأدبي الخصب، ومضت القصة باتجاه التحول إلى خرافة شائعة.
ومن بين ما افتضح من أمر تلك الرواية، إفادتها بحصولها على درجة علمية في المحاسبة من جامعة أوكسفورد، إذ تبين عدم وجود درجة كهذه أصلا، ضمن البرامج الأكاديمية التي تدرسها جامعة أوكسفورد. وتابعت المرأة المضللة إرسال مئات الدولارات الأميركية التي جمعتها نتيجة للتعاطف معها، من قبل المنظمات الخيرية التابعة لمجموعة الكنائس الأميركية، إلى صديقها في العراق. كما اتضح أن جومانا كانت قد استضيفت تحت إلحاح المحقق الصحافي المتحمس لقصتها، في أحد قصور صدام حسين المكيفة الهواء، وأتيحت لها فرصة الاستمتاع بكل امتيازات ومباهج الحياة في القصور الرئاسية الفخمة، بينما كانت هي منشغلة بنسج خيالها وبناء حبكتها القصصية، أسبوعا تلو الآخر. وعلى لسانها هي، قالت: إن الأسابيع التي قضتها هناك كانت ممتعة، وإنه جرت معاملتها كما لو كانت أميرة من الأميرات، فقد حظيت بقدر كبير من اهتمام رئيس سلطة التحالف المؤقتة بول بريمر، الذي أمر باستخلاص قصتها ونشرها للجمهور الأميركي. ومن هناك، تم ترحيلها جوا هي وولداها، إلى ولاية كاليفورنيا على نفقة الحكومة الأميركية، حيث تقضي بعض الوقت قبل عودتها إلى العراق. وأفادت مجلة "سكوير" بأن فاتورة هاتفها الشهرية، تتجاوز الألف دولار، بسبب حديثها المستمر مع صديقها في العراق. وعلى الرغم من بدء افتضاح القصة، إلا أنها اتخذت من المقالة التي نشرتها عنها صحيفة "واشنطن بوست"، أداة لجمع المزيد من الأموال والتبرعات من المنظمات الخيرية والجمعيات الكنسية، دون أن يحرك أي من المسؤولين ساكنا، لوقف هذا النزيف والتلفيق.
وبالطبع فإن هناك سؤالا واحدا محيرا، هو كيف يفوت على الصحافيين والمحققين الأميركيين كل هذا التزييف، وكيف تنطلي عليهم تلفيقات هذه المرأة المضللة؟ وهل معرفة هؤلاء بالواقع العربي، على كل هذا القدر من الضحالة التي أعمتهم عن التمييز بين الآلاف من الضحايا الحقيقيين الذين ذاقوا مر العذاب في ظل نظام صدام حسين، وهذه المرأة الزائفة الكذوب؟
وتثير الإجابات الكثير من الضيق والأسى، بقدر ما أثارته عملية خداع الذات، التي مارستها الإدارة الأميركية كلها على نفسها. وعلى سبيل المثال، كيف فات على المحققين، بمن فيهم محققو الشرطة، أن هذه المرأة تخرجت من جامعة أوكسفورد كما ادعت، في الوقت الذي تجد فيه صعوبة كبيرة في التحدث باللغة الإنجليزية، ناهيك عن كتابتها؟ نطرح هذا السؤال على افتراض أن ملاحظة كهذه، لن تفوت حتى على أصغر المحققين وأدناهم موهبة وقدرة على الملاحظة. وكيف فات على صحافي كبير، ينتمي إلى واحدة من كبريات الصحف الأميركية، أن يتأكد من قصة هذه المرأة بطرح ما تقوله على مترجمين عراقيين، فيسهل عليهم اصطياد مثل هذه الأكاذيب؟ إن المرء ليجد نفسه مرغما على التشكيك في مدى مصداقية الصحافة الأميركية في نقلها وتحقيقاتها عن العالم العربي.
وبالقدر ذاته، يدهش المرء كثيرا لمدى خداع وتلفيق أولئك المسؤولين الأميركيين، الذين هندسوا مبررات شن الحرب على العراق. ومن عجب أن ينسج كل من بريمر وولفوفيتز –رغم كل ما يتمتعان به من ذكاء- على مثل هذه القصص الميتة الواهية، وأمامهما آلاف القصص الحقيقية لضحايا التعذيب، في مملكة الرعب التي أقامها صدام حسين. من المؤسف حقا أن مثل هذا السلوك، يؤثر سلبا على ما تتبناه أميركا وتدعو إليه من مشروعات تستهدف نشر الديموقراطية، أينما كانت هذه المشروعات واتجهت. وهل أدرك المسؤولون الذين صدقوا هذه القصة، وحثوا على نشرها، أنهم بفعلتهم هذه، قد أثاروا شعورا لدى أولئك العراقيين الذين تجرعوا ويلات العذاب في ظل النظام السابق، بأنهم خدعوا ثانية، وأنهم أسيئت معاملتهم مرة أخرى؟