كنت أحمل رأسي على كفي في مواجهة احتمالات الخطر. لم يكن أمامي خيار للرجوع عما انتويته، وفي الوقت نفسه كان حرصي بالغاً على التعبير عن مواقفي وأفكاري بوضوح. كنت أسير بين مطرقة الحكومة والأجهزة الأمنية المختلفة وتدابيرها الأمنية الصارمة، وسندان إخواني داخل الجماعات الإسلامية. فالأمن كان يتهمني بأني وسيط بين قيادات التنظيمات الدينية داخل السجون وكوادرها في الخارج. ومن جهة أخرى كنت أحاول اقناع زملائي في الجماعات بتجاوز خلافاتهم وتقبل فكرة مراجعة بعض القناعات.
كان وجود الشيخ عمر عبدالرحمن في مصر عاملاً مهماً في الحد من نزعات الشباب نحو الإندفاع غير المحسوب لذلك كان سفره إلى السودان ومنها إلى الولايات المتحدة بداية الانفلات خصوصاً مع تزايد التحرش الأمني. ففي الثاني من آب (أغسطس) عام 1990، كان الناطق باسم الجماعة الإسلامية وباسم عبدالرحمن الدكتور علاء محيي الدين ناطقاً رسمياً متوجهاً على قدميه الى منزله في شارع ترسا في منطقة الهرم اعترضته سيارة من دون لوحة أرقام وأطلق من فيها النار عليه فسقط قتيلا، واستولى الجناة على ما كان في حوزته من أوراق هوية. كان التخطيط مدروساً لاغتياله وعدم التعرف عليه ودفنه سراً.
وفي مساء اليوم نفسه اتصل بي الأخ صفوت عبد الغني أحد قيادات «الجماعة الإسلامية»، وكان فاراً من قرار باعتقاله. أبلغني بأن محيي الدين ربما اغتيل وطلب مني التأكد. اصطحبت المحامي إبراهيم علام، وتربطني به علاقة نسب، إلى شارع ترسا وعلمنا من بعض الموجودين أن الجثة نقلت إلى مستشفى «أم المصريين». توجهنا إلى مشرحة المستشفى وتأكدنا من ان جثة «الشخص المجهول» عائدة لمحيي الدين.
استشعرت ان شيئاً ما يدبر في الخفاء بعدما أدركت أن العامل في مشرحة المستشفى لا يعرف شيئاً عن صاحب الجثة، فتوجهت فوراً مع علام إلى نيابة الهرم والتقينا وكيل نيابة الهرم أيسر فؤاد وتقدمت بطلب رسمي لإثبات أن الجثة المذكورة للدكتور علاء محيي الدين. ولمحت في أقوالي إلى شكوك قوية بتورط أجهزة في الاغتيال. فيما كنا نتابع الإجراءات في نيابة الهرم اتصل بي أحد الزملاء المحامين الإسلاميين الذين توافدوا إلى المستشفى بعد علمهم بالحادث وأبلغني أن أشخاصاً حضروا لاستلام الجثة بزعم أنها لابنهم فطلبت منه الحؤول دون ذلك حتى وصولي. اتصلت بالمحامي سامح عاشور المحامي، وكان عضواً في مجلس نقابة المحامين وهو ابن عم الدكتور علاء محيي الدين، ليتوجه إلى المستشفى لإتمام الإجراءات. وصل عاشور إلى المستشفى وعندما علم هؤلاء بوجود عدد كبير من المحامين وإثبات سامح عاشور صلته بالمتوفي انطلقوا فارين.
كان هذا الحدث الشرارة التي انطلقت بعدها أمواج من العنف مع اعلان «الجماعة الإسلامية» عزمها على الثأر لمقتل محيي الدين. في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1990 كمنت مجموعة مسلحة تابعة للجماعة ضمت عناصر تلقت خبرات قتالية رفيعة في أفغانستان في جوار فندق سميراميس متربصة بموكب وزير الداخلية عبد الحليم موسى. كان الموكب قادماً من كوبري قصر النيل في الطريق المؤدي إلى الوزارة عندما انهمر الرصاص على الشخص الجالس داخل إحدى سيارات الموكب ظناً أنه وزير الداخلية، فإذا به الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب.
انطلقت موجة من العنف المجنون وسقط مئات القتلى من رجال الشرطة ومن الجماعات في سباق محموم. وتحملت مع العديد من الزملاء المحامين عبء الدفاع عن عناصر الجماعات في كل القضايا التي تنظرها المحاكم وحضور التحقيقات التي تجريها النيابة. ويبدو أن موقفي أثار حنق أجهزة الأمن ضدي فدبرت محاولات لقتلي أو لإرهابي. ففيما كنت أقود سيارتي فجر أحد الأيام متجهاً إلى مدينة الفيوم لحضور احدى الجلسات اكتشفت عدم وجود مكابح في سيارتي وتمكنت من السيطرة على السيارة. أبلغني الميكانيكي أن أجهزة الفرامل كلها نزعت بفعل فاعل. في مرة أخرى أشعل مجهولون النار بسيارتي. وعلى رغم أنني تقدمت ببلاغات إلى النيابة وقتها إلا أنني حتى الآن لم أتلق أي نتائج للتحقيق.
كل هذه الإجواء المتشنجة لم تمنعني من الاستمرار في الدفاع عن أبناء التيار الاسلامي وانتظار الفرصة المناسبة لوقف النزيف الدامي. وفيما كنا نقوم بواجب الدفاع عن المتهمين في قضية اغتيال رفعت المحجوب طلبت من الدكتور محمد سليم العوا توظيف علاقاته مع بعض المسؤولين لإجراء حوار يخفف الاحتقان ويوقف دوامة العنف.
اتصل بي في حزيران (يونيو) 1993 الصحافي محمد اسماعيل، وكان مقرباً من الشيخ محمد متولي الشعراوي، وأبلغني بعزم بعض الشخصيات الدينية والسياسية على التدخل لحقن الدماء، وفي مقدمها الشيخ الشعراوي والشيخ محمد الغزالي والدكتور العوا والاستاذ فهمي هويدي، وأن هناك اتفاقاً على ضرورة وجودي معهم باعتباري مقرباً من قادة الجماعات الإسلامية. لم أتردد في قبول المهمة وذهبت في الموعد المحدد إلى مقر «جمعية الحق» التي يرأسها الدكتور سيد رزق الطويل. لمست في ذلك اللقاء أن الأماني كانت أكبر من المطروح فعلاً، وأدركت أن النيات الطيبة لا تكفي وحدها لتحقيق الأهداف المطلوبة. وجدت على الطاولة نفراً من العلماء والمفكرين الذين انتدبوا لهذه المهمة الخطيرة، ومعهم عدد كبير من الصحافيي، فأدركت أن المساعي لن يكتب لها التوفيق. أبلغني الحاضرون أنهم التقوا وزير الداخلية عبد الحليم موسى وعرضوا عليه مهمتهم وأنه رحب بذلك، وطلبوا مني زيارة قيادات الجماعات الإسلامية في السجون وتقصي وجهة نظرهم كان الشيخ الغزالي متخوفاً من ردة فعل قادة الجماعات الإسلامية لأن التجربة السابقة كانت سلبية عندما توجه مع الشيخ الشعراوي إلى السجون لعقد ندوة مع الشباب هناك فأداروا ظهورهم ورفضوا التحاور معهما. زرت كرم زهدي وناجح إبراهيم وعبود الزمر وصفوت عبد الغني وممدوح علي يوسف وضياء الدين فاروق خلف في سجن طرة، وأبلغتهم بمهمة العلماء ورغبتهم، وحملت رسالة خطية من الاخوة أبدوا فيها تجاوباً كبيراً مع تحرك العلماء.
كان الضخ الإعلامي الواسع الذي تعامل مع فكرة وساطة العلماء من أهم أسباب إجهاضها. كما ردد بعض الاخوة في دوائر «الجماعة الإسلامية» أنني كنت أحد أسباب إفشال جهود الوساطة بمبالغتي في التعاطي الإعلامي مما أثار حفيظة القيادة السياسية فاتخذوا قراراً بإقالتي من دور الوسيط، وهو اتهام غير صحيح لأنني لم أكلف من اللجنة ولم يتصل من محمد اسماعيل إلا بعد الإعلان عبر صحف عدة عن فكرة اللجنة وطبيعة عملها وبعد مقابلة نحو 18 شخصية من أعضائها مع وزير الداخلية ومساعد مدير مباحث أمن الدولة في ذلك الوقت اللواء مصطفى عبد القادر، ولم أحضر غير اجتماع وحيد في مقر جمعية «دعوة الحق».

*نداء وقف العنف
استوعبت تماماً أخطاء وساطة لجنة العلماء في 1993، وفيما كنت أترافع في قضية تنظيم أسوان الذي اتهمت فيه مجموعة من أبناء «الجماعة الإسلامية» في مقدمهم أميرها في أسوان خالد إبراهيم الذي يعد أحد تلامذتي ممن تلقوا الأفكار الأولية عني وتربطني به صلات شخصية وعائلية، ناديت بضرورة المصالحة. طلب إبراهيم إلقاء كلمة في المحكمة فوافق رئيس محكمة أمن الدولة العليا المستشار صلاح بدور. تحدث إبراهيم حديثاً متوازناً، وناشد إخوانه في الجماعات الإسلامية وقف العمليات المسلحة من طرف واحد. أحدثت مرافعتي وكلمة خالد إبراهيم ضجة كبيرة، وعملت على بلورة ما طرحناه في تلك الجلسة في مبادرة محددة المعالم وأصدرت بياناً صحافياً طالبت فيه قادة الجماعات الإسلامية في الداخل والخارج بوقف كل العمليات المسلحة لمدة عام، بإعلان أحادي الجانب، وتحدثت عن الأخطار التي تحدق بأمتنا العربية والإسلامية وفي مقدمها مخالب الثالوث المتآمر الصهيونية والصليبية والشيوعية. كنت أعتمد في تحركاتي على وسائل الإعلام لأنه صعب عليّ أن أتواصل معهم عبر وسائل اتصالات ثابتة. كنت أدرك خطورة الدور الذي اخترته، لذلك لجأت دوماً إلى وسائل الإعلام وأطلقت من خلالها رسائلي وأفكاري لأجهض أي تلفيقات قد تلجأ إليها السلطات الأمنية. وعندما استرجع تلك المحطات المهمة أدرك صواب تلك السياسة، فكثيراً ما اتهمتني أجهزة الأمن في حقب مختلفة بالتورط في نقل التكليفات بين قادة التنظيمات الدينية وكوادرهم، بل وتم إنتاج فيلم سينمائي شهير لتخريب الدور الذي أقوم به.
مرت الأيام الأولى من دون صدور أي ردود فعل سواء من السلطات الرسمية أو من قادة التنظيمات المعنيين بالرسالة، وكنت أعتبر ذلك في حد ذاته تقدماً ملحوظاً. لكن رد الفعل الأول جاء من صديقي القديم الدكتور أيمن الظواهري، زعيم جماعة «الجهاد»، وكان يقيم آنذاك في أفغانستان اذ أصدر بياناً عنوانه «اتق الله يا منتصر» طلب فيه مني التوقف عن تثبيط المجاهدين. ثم أعلنت «الجماعة الإسلامية» تحفظها عما نادى به خالد إبراهيم. وجاء بعد ذلك تصريح وزير الداخلية اللواء حسن الألفي باللاءات الشهيرة «لا تفاوض.. لا حوار.. لا وساطة مع المتطرفين»، ووصفت الأجهزة الأمنية ما طرحناه أنا وخالد إبراهيم بأنه كان بترتيب مع إخواننا قادة «الجماعة الإسلامية» داخل السجن.
في مطلع العام 1997 توجهت إلى لندن بدعوة من حركة «المجاهدون». وأتاحت لي الإقامة في منزل عادل عبد المجيد فرصة اللقاء مع شخصيات عدة من أصدقاء الدرب في مصر مثل هاني السباعي ومحمد المقري وغيرهم، اضافة الى شخصيات اسلامية عربية مثل الدكتور محمد سرور زين العابدين والأخ أبو قتادة الفلسطيني، كما التقيت شخصيات تعنى بالعمل الحقوقي مثل عزام التميمي وزرت مقر منظمة العفو الدولية والتقيت مسؤولين بارزين فيها. تلقيت في لندن مكالمة هاتفية من الظواهري سألني فيها عن أسباب إطلاق نداء وقف العنف، وأدركت أنه يود الاطمئنان الى مرجعيتي الفكرية ومنطلقاتي الشرعية، فاستطردت في شرح الظروف والملابسات التي أفرزها مناخ وقف العنف في الحالة الاجتماعية المصرية من كافة الوجوه، وان أهم الأسباب التي حملتني على ضرورة التدخل حال الانفصام التي بدأت تتنامى داخل عقول المتلقين - وأعني بهم الناس وهم الرافد الأساسي لأي حركة دعوية - واضطرابهم إزاء ما يحدث من عنف مجنون. كما اتصل بي الأخ أسامة رشدي وهو قيادي في «الجماعة الإسلامية» كان يقيم في هولندا متسائلاً عما أعنيه بقولي «اعتماد استراتيجية جديدة تتواءم مع طبيعة المرحلة»، وهل هذا دين جديد؟
كنت أحاول أن ألقي حجراً في الماء الراكد على رغم أن الأحداث كانت متلاطمة متدافعة والدماء تنزف غزيرة. تفهم الظواهري وجهة نظري لكنه لم يقتنع بالطبع، واستغرب أسامة رشدي وآخرون من زملائه الذين يقيمون في المنافي الأوروبية طرحي على رغم استنارتهم. وتلقيت أثناء وجودي في لندن في آذار (مارس) 1997 احتجاجات عدة من إخوة ينتمون الى فصائل متعددة داخل الحركة الجهادية على طرحي.

*توثيق وثائق
كنت وصلت لتوي إلى قاعة المحاكمات الكبرى في منطقة الهايكستب شرق القاهرة، حيث تنظر المحكمة العسكرية العليا في أولى جلسات واحدة من القضايا التي عرفت إعلامياً بقضية «الاغتيالات الكبرى» في الخامس من تموز (يوليو) عام 1997. بمجرد دخولي إلى ساحة المحكمة ناداني من داخل قفص الاتهام شاب يدعى محمد عبد العليم المحكوم في قضية سابقة والمسجون في ليمان طرة حيث تقبع القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد. بادلته التحية فأبلغني أنه سيتلو بياناً مهماً من هؤلاء القادة المشايخ وأنهم يريدون مني توثيقه في وسائل الإعلام، والأهم توثيق صحة محتوياته لدى إخوانهم من قادة الجماعة خارج مصر.
بدأت وقائع الجلسة ولم تكد المحكمة تثبت حضور المتهمين حتى طلب عبد العليم الكلمة، وتلا بياناً من قيادة الجماعة الإسلامية في سجن طرة، تعلن فيه وقف العمليات المسلحة داخل مصر وخارجها من طرف واحد. كانت هذه أولى المهمات التي اضطلعت بها في الترويج لمبادرة الجماعة. وهكذا استمرت الحال في أيام المحاكمات التالية فكان عبد العليم يلقي بياناً مقتضباً جديداً يبين فيه موقف الجماعة من قضية معينة ثم يسلمني البيان المخطوط لأتابع الترويج له في لقاءاتي وحواراتي وأحاديثي الإذاعية.
كانت جلسات المحاكمة في تلك القضية ولقاءاتي المستمرة بمندوب القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية محمد عبد العليم كافية لتحقيق التواصل بيني وبينهم. غير أن انتهاء القضية فرض الذهاب إلى السجن لمقابلتهم في صورة دورية وفق المعطيات التي كانت تجري على أرض الواقع وحاجة هؤلاء القادة السجناء إلى وسيط ينقل آراءهم لزملائهم في الخارج ويكون محل ثقة. وهكذا تتابعت زيارتي الى سجن طرة وفي بعض الأحيان كان يرافقني الأخ المهندس صلاح هاشم، أحد أبرز مؤسسي الجماعة مطلع السبعينات في جامعة أسيوط. كان القصد توثيق نداءات القيادات التاريخية ونزع صفة الإكراه عنها بخاصة لدى زملائهم وإخوانهم فضلاً عن المراقبين والمتابعين لشأن الحركات الإسلامية والجهادية.
وعلى رغم ذلك شكك رفاعي طه في صحة ما حملناه عن السجناء واتصل بي يوماً من خارج مصر وطلب مني توصيل رسالة منه للإخوة داخل سجن طره، جاء فيها «هل يعقل أن ننتظر حلاً من إخواننا هؤلاء الذين عافاهم الله تعالى من كل تكليف شرعي متعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، بل رفع الله عنهم الحرج في كل ما لا يستطيعونه من فروض الأعيان، وهم تحت أيدي أعداء الله تعالى، وأصبحت اجتماعاتهم مع المهندس صلاح هاشم تعقد بحضور منتصر الزيات وضباط الأمن؟ وهل نستطيع أن نطمئن إطمئناناً حقيقياً على صحة وسلامة ما ينقل عنهم أو عن الشيخ صلاح ومنتصر عبر اتصالات هي في الأعم الأغلب تحت أعين النظام؟ وإذا سلمنا أن ما يقولونه يعنونه ألا يصح لنا أن نخالفهم في الاجتهاد؟».

*بن لادن
عندما أعلن أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في شباط (فبراير) 1997 وثيقة تأسيس «الجبهة الإسلامية لجهاد اليهود والصليبيين»، أرسل كرم زهدي في طلبي لزيارته في سجن طرة وحمّلني رسالة خطية طلب توصيلها إلى رفاعي طه جاء فيها «إننا ومن خلال عِشرة العمر ما اعتدنا منك إلا أنك أول من ينزل عن رأيه لرأي إخوانه وأول من يلين إذا عزوا عليه وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتطاوع ولا نختلف ولذلك فقد عز علينا أن تبادر بمخالفة إجماع الإخوة هنا وكأنما تتهمنا جميعاً بالاتفاق على القصور في الفهم وسوء التقدير وقد عهدناك من أكثرنا اهتماماً بترسيخ القواعد التنظيمية وكثيراً ما عانينا من مبالغاتك في هذا الشأن».
وتطرق كرم زهدي في رسالته الخطية إلى الغرض الرئيسي من رسالته قائلاً «الأغرب من ذلك أن تعارض برغبتك المنفردة أمر أميرنا وشيخنا الدكتور عمر شاقاً عصا الطاعة ومتجاهلاً حقه عليك وعلينا بتنفيذ أمره الذي أعلنه صراحة من خلال البيان المنشور على لسانه، والحق أن هذا التجاهل الغريب قد تكرر في هذه الأيام أكثر من مرة وأبرزه ما نشرته الصحف عن بيان منسوب إليك حول جبهة مع بعض الجماعات المجهولة ثم هذا البيان العنتري الذي أعلن الحرب على أميركا وأفتى بتلك الفتوى الغريبة بقتل الأميركان ولا ندري من الذي اتخذ قرار الانضمام وما هي صلاحياته لتنفيذ هذا القرار متجاهلاً كل المستويات التنظيمية التي لا ينبغي تجاوزها عن تقرير مثل هذا القرار». وأنهى زهدي رسالته بـ«اننا جميعاً هنا ودون استثناء لا نوافق على هذه الجبهة ولا على البيان الذي أصدرته لأسباب شرعية وتنظيمية واستراتيجية أظنها لا تخفى عليك».
والحقيقة أن رفاعي طه استجاب لما طلبه منه إخوانه وأصدر بياناً فسر فيه اللبس الذي ارتبط بما نشر عن توقيعه على وثيقة «الجبهة الإسلامية» وأن الموافقة تحصلت منه هاتفياً على بيان يتعلق بنصرة الشعب العراقي والتنديد بالحرب الأميركية على العراق.
وفيما كنا نسابق الزمن من أجل تحقيق التواصل بين الإخوة الذين أطلقوا مبادرة وقف العمليات القتالية من داخل سجن طرة وإخوانهم الموجودين خارج البلاد وتقريب وجهات النظر برسائل مكوكية وقع «الزلزال»، وأعني به الهجوم داخل معبد حتشبسوت في الأقصر ضد عدد كبير من السياح الأجانب قتلاً وذبحاً وتمثيلاً بالجثث. وكانت المفاجأة الصادمة في اعلان رفاعي طه مسؤولية الجماعة الإسلامية عن الحادث. ودخلنا في سباق آخر مع الزمن لتلافي الآثار السلبية للحادث وعدم انفجار الموقف.
أعلنت اعتزالي العمل العام احتجاجاً على الحادث وقررت عدم العودة الى مهماتي مرة أخرى إلا بموقف واضح من مجلس شورى الجماعة في الخارج من قرار وقف العمليات المسلحة داخل مصر وخارجها، حتى كان البيان الذي وصلني عبر الفاكس ويحمل قراراً من مجلس شورى الجماعة يوافق بالإجماع على مبادرة وقف العمليات القتالية في آذار (مارس) 9991. توج هذا البيان نشاطات مكثفة قمنا بها واتصالات متنوعة مع كل الأطراف، الأمر الذي دفع قيادات الجماعة الإسلامية إلى إرسال رسالة إلى الأخ رفاعي طه يعربون فيها عن غبطتهم لموقفه. لكن طه أتحفنا برسالة من بين ما جاء فيها: «كان أقصى ما كنت أتوقعه أننا سنوقف العمليات محاولين استثمار فترة المواجهة مساومين على عدم إعادتها مع التنويه أننا قادرون على ذلك من باب أن الحرب خدعة (...) فارق كبير بين الانسحاب المنظم الذي يكون الغرض منه التحيز إلى فئة أو وقت آخر أو حتى تعديل المسار واستراتيجية العمل والمواجهة، وبين حرق الأوراق وما يبدو أنه استسلام لقدرات الخصم». ولخص طه وجهة نظره التي تقوم على أن القادة السجناء لم يحسنوا قيادة الجماعة، وأنهى رسالته قائلاً: «حاولتم أن تقودوا الجماعة من خلف الأسوار في كل كبيرة وصغيرة، وأصدقكم القول نصحا لله تعالى، لقد أثبتت التجربة فشل ذلك تماما، ولو منحتم إخوانكم فرصة للقيادة كان يمكن أن يكون عندكم الآن جيل قيادي قادر على اتخاذ القرار في الحرب و السلم والبناء».
على رغم أن مصطفى حمزة أصبح رئيساً لمجلس شورى الجماعة إلا أنه كان يشعر دائماً بتراجعه أمام رفاعي طه، فالأخير له كاريزما وتأثير قوي، اذ انه من القيادات المؤسسة منذ السبعينات، فضلاً عن تحمله المسؤولية منذ الإفراج عنه العام 5891، وهو ما يشكل حاجزاً نفسياً يعطل قدرات حمزة على مواجهته. كان حمزة يطلب إطلاق صلاحياته للتصرف بدلاً من إلزامه بالعودة إلى القادة السجناء في كل مرة يريد اتخاذ القرار في أحد الأمور، كان البعض يرى ضرورة اتخاذ قرار بفصل رفاعي طه من صفوف الجماعة للقضاء على أي مشروعية له في تحركاته التي يناهض بها رؤية قادة الجماعة فيما عارضت هذا الاتجاه غالبية أعضاء مجلس الشورى داخل سجن طرة، ومعهم المهندس صلاح هاشم. أرسل مصطفى حمزة (أبو حازم) رسالة في 1002 يطلب مني أن أنقل إلى الأخوة في سجن طرة «إن تعليق مشكلة أبو ياسر بهذه الصورة النادرة في تاريخ الحركة الإسلامية سيجرنا إلى شلل وإلى ضعف في الأداء يعجب له الآخرون ناهيك عن المشاكل الخطيرة المترتبة على ذلك».
كانت هذه هي الأجواء التي تسيطر على الأحداث في تلك الفترة، وكنت أشعر بالازمة أكثر من أي شخص. كنت أشعر بالاختناق والاحباط في آخر لقاء لي بالاخ كرم زهدي في سجن طرة لتلقي رده وإخوانه على الرسائل التي سلمت اليهم في زيارة سابقة.
بادرني زهدي على غير المتوقع بعتاب وطلب توضيح لبعض الأمور التي وردت على لساني في حوار أجرته معي مجلة «الأهرام الرياضي» في عددين متتاليين، الواقعة الأولى: أني ذكرت في الحوار أن الجماعة الإسلامية سبق أن أقالتني من كوني وسيطاً بينها وبين الشعراوي والغزالي وآخرين لأني رفضت أن أكون مجرد «ريكوردر»، وقال كرم أن السبب في إقالتي أن القنصل الأميركي في القاهرة زارني في مكتبي وقتها وحضر طرفاً من المقابلة الأخ المحامي عبد الحارث مدني الذي توفي فور القبض عليه في نيسان (ابريل) 1994، وظل المسؤول الاميركي يسأل عن أمور تخص الجماعة الإسلامية ورؤاها السياسية والعقائدية من دون أن أكلف نفسي عناء إبلاغ الإخوة في السجن بما حدث في حين أنني أبلغت الأخ عباس شنن وهو من قادة تنظيم «الجهاد» بما دار أثناء زيارتي له في السجن. فاجأتني طريقة حديث الأخ كرم وحاولت أن أفهمه أن ذلك غير وارد ولا يستساغ أن أتعمد إخبار عباس شنن، وهو من قيادات الجهاد، ولا أخبر أحداً من الجماعة وإني لا أتذكر الآن على وجه الدقة ماذا جرى لأن الواقعة قديمة لكني أتذكر أنني أبلغت الأخ صفوت عبد الغني لأني كنت على اتصال به.
ثم تطرق كرم زهدي إلى فقرة أخرى من الحوار وهي تتعلق بما نسب لي فيه من أنني اطالب بمحاكمة الذين تسببوا في مذابح عام 1981 عندما اقتحموا مديرية الامن في أسيوط. نفيت أن أكون قد ذكرت هذا الكلام وقلت له ربما أساء الصحافي عرض الفكرة.
وقال زهدي أنهم يرون أنني السبب في فشل الوساطة التي عرضها العلماء عام 1993 لأني أخذت الصحافيين معي إلى وزارة الداخلية لحضور الاجتماع، فقلت له ان ذلك غير مقصود على الإطلاق، وأنا حضرت اجتماعاً وحيداً في جمعية دعوة الحق ووجدت الصحافيين في الاجتماع وأن الصحافي محمد اسماعيل كان يدير المسألة بتفويض من الشيخ الشعراوي. ثم تطرق زهدي إلى أنني كنت دائماً أزور الشيخ عبود وطارق الزمر وقيادات الجهاد فيما لا أقوم بزيارة قادة الجماعة وأنني أتعمد تسريب بعض المعلومات إلى وسائل الإعلام مما يترتب عليه عدم الإفراج عن حمدي عبد الرحمن أو أسامة حافظ حتى لا يسرقا مني الأضواء فاحتججت على ذلك ورفضته شكلاً وموضوعاً. خرجت من الزيارة بقناعة أنها الأخيرة وقد كانت فعلاً.