أشاد زعماء العالم والعديد من المعلقين بانتصار محمود عباس (أبو مازن) في الانتخابات الفلسطينية التي جرت يوم 9 الجاري ووصفوه بأنه «انتصار للسلام». ولعل هذا الحكم مبالغ جدا بالتفاؤل إذ ما زلنا في الأيام الأولى، وكل ما فعلته الانتخابات هو تكريس الخيار الفلسطيني لشخصية تواجه أرييل شارون في صراع الإرادات المقبل الذي يرجح أن يكون بنفس الضراوة والمكر اللذين عهدناهما في تاريخ النزاع العربي الإسرائيلي الطويل.
فأبو مازن (69 عاما) وأرييل شارون (77 عاما) يحومان حول بعضهما بعضا كمصارعين يابانيين عجوزين من جماعة السومو، قبل أن يحتدما في ما هو بالتأكيد آخر معركة كبرى في تاريخ كل منهما.
ومن حقهما قبل دخول الحلبة أن يتبادلا المزاح ويتحدثا هاتفيا ويرتبا اللقاءات بينهما، بل أن يتوصلا إلى بعض الاتفاقات لأن أهدافهما متكاملة على المدى القصير. لكن هذه الأهداف تتعارض تماما على المدى البعيد، وحينئذ سيكون الصراع حتى الموت وليس بمقدور أحد أن يتنبأ بنتيجته.
أهداف الطرفين على المدى القريب: بالنسبة لشارون هذه الأهداف معروفة تماما. اثنان منهما على وجه الخصوص كانا ولا يزالان موضع نقاش على أوسع نطاق. فهو أولا يريد وقف الهجمات الفلسطينية على الإسرائيليين. ذلك أن العمليات الانتحارية وصواريخ القسام المصنوعة محليا والمفتقرة إلى الدقة تركت آثارا سيكولوجية وسياسية في إسرائيل أكثر بكثير من الأضرار التي سببتها فعلا. إذ أنها نالت من سمعة شارون باعتباره «سيد الأمن»، وحطمت معنويات وادعاءات إسرائيل بأنها الدولة العظمى في الشرق الأوسط. كل ذلك أصبح أمرا لا يحتمل بالنسبة لشارون.
ورغم استخدامه كل ما في ترسانته من أسلحة فتاكة (الاغتيالات وتدمير المنازل وتجريف البساتين والتوقيف العشوائي والحواجز المهينة وجدار العار الخ)، أخفق شارون على مدى الأربع سنوات الماضية في إجبار الفلسطينيين على الاستسلام دون قيد أو شرط. بل، على العكس، فالعديد من الفلسطينيين ما زالوا، مدفوعين باليأس، يريدون مواصلة القتال حتى لو ضحّوا بحياتهم.
لذلك نرى شارون اليوم مستعدا لاستئناف «التعاون الأمني» مع أبو مازن، أي ما معناه باختصار مساعدته على القضاء على حماس وسواها من الجماعات المقاتلة. و بعبارة أخرى فإن شارون مستعد الآن للحصول على مساعدة «الشريك» الفلسطيني كي يضمن أمن الإسرائيليين ويدفع الثمن (إطلاق سراح بعض السجناء، وإزالة بعض الحواجز، والسماح لعناصر الأمن الفلسطيني المسلح بالطواف في المدن الفلسطينية والسماح للفلسطينيين ببعض التنفس).
أما هدف شارون الثاني على المدى القصير فهو تنفيذ خطته بالانسحاب من غزة، الأمر الذي يعتبره أساسيا لتحقيق البرنامج الصهيوني. وهو يعلم (كما يعلم كل الإسرائيليين العقلاء) بأن تواجد 8 آلاف مستوطن إسرائيلي في بحر يشتمل على مليون وثلاثمائة ألف فلسطيني يعانون الفقر المدقع أمر يصعب تبريره أو الدفاع عنه. وهو فوق ذلك كله يهدد مخططات إسرائيل التوسعية في الضفة الغربية.
وبالرغم من صياح المستوطنين وسواهم من المتدينين المتطرفين واتهامهم شارون بالخيانة وتهديدهم بالعصيان بل بأعمال عنف ضد الدولة، فإن شارون يعلم بأنه لا بد أن يواجه هؤلاء ويهزمهم. ولكي ينقذ خطة الانسحاب من غزة جازف بخلق انقسام في صفوف ليكود وجاء بحزب العمل لينضم إلى تحالفه وأبدى استعداده لتنسيق الانسحاب من غزة مع السلطة الفلسطينية. وهذه البادرة الأخيرة تعتبر في تفكير شارون تنازلا مهماً.
ذلك أنه كان يريد الانسحاب أحاديا بحتاً، أي دون أن يعني مطلقا أنه إشارة لبدء التفاوض مع الفلسطينيين أو تكليفهم بأي دور في الموضوع. أما الآن فهو يبدي استعداده للتعاون مع «الشريك» الفلسطيني، وهو موقف أكثر ليونة من شأنه أن يرضي أميركا والأوروبيين ومصر ويرضي بصورة خاصة (في نظر شارون) الحاخام أوفاديا يوسف، رئيس حزب شاس الأرثوذوكسي الذي طالب بأن يكون الانسحاب من غزة نتيجة تفاوض والذي يضم حزبه 11 عضوا في الكنيست يحرص شارون على إضافتهم إلى تحالفه الهش.
وأما بالنسبة لرئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن، فإن الأهداف على المدى القصير تبدو متواضعة. فهو يريد قبل كل شيء تحسين الأحوال البالغة الصعوبة التي يعيش فيها الفلسطينيون. فهم يعانون حالة تقرب من المجاعة، ويطالبون بالطعام، لا سيما وأن البطالة بلغت نسبتها القصوى. ولا يستطيع الفلسطيني التجول بأمان دون أن يتعرض للموت على يد قناص إسرائيلي أو دبابة أو شظية قنبلة في أي زاوية وأي طريق. لقد تهدم المجتمع الفلسطيني تماما.
ولكي يدفع شارون إلى التساهل (ورغبة في كسب التأييد الدولي) تعهد أو مازن بوضع حد لـ«فوضى السلاح» وأن يصلح أحوال البيت الفلسطيني ويوحّد الأجهزة الأمنية المتعددة وأن يقنع المقاتلين بوقف «الانتفاضة المسلحة»، في الوقت الحاضر على الأقل.
وبتعبير آخر، فإن أبو مازن يريد للفلسطينيين أن يعطوا صورة شعب مسؤول يتجنب العنف ويتمسك بالديموقراطية ويستحق أن يُقبل به كشريك سواء بالنسبة لإسرائيل أم على الصعيد الدولي. وها هو ذا قد كوفئ على موقفه هذا بدعوته لزيارة البيت الأبيض.
ولطالما آمن أبو مازن بأن استخدام السلاح ضد إسرائيل المتفوقة جدا أمر يشبه الانتحار، وبأن تغيير السياسة الإسرائيلية لا بد أن يأتي من الداخل. وهو قد دخل في حوار هادئ مع أنصار السلام في إسرائيل ومع رجال من اليسار كيوسي بيلين لأنه لا يعتقد بأن الفلسطينيين سينالون شيئا على يد شارون واليمين الإسرائيلي.
أما في خصوص المأزق على المدى البعيد، فقد كتب كاتب إسرائيلي ذات مرة أن أهداف شارون الاستراتيجية هي احتلال الضفة الغربية ومنع قيام دولة فلسطينية، وأما «الباقي فليس سوى تكتيك». وهذا ولا شك صحيح إذ ليس في ذهن شارون أي أفق سياسي سوى الانسحاب من غزة وبعض التعاون الأمني مع الفلسطينيين.
وكما أتيح مؤخرا لتوني بلير أن يعرف، حين حاول إقناع شارون بأهمية المؤتمر الدولي الذي دعا إليه في لندن، فقد رفض شارون رفضا باتا حضور المؤتمر أو أي تفاوض حول مسائل «الوضع النهائي». وهو لا يريد أن يسمع شيئا حول القدس أو الحدود أو اللاجئين. وهو بدلا من ذلك يتحدث بغموض عن «ترتيبات» بشأن التعايش الإسرائيلي الفلسطيني على المدى البعيد، وهو ما يفسره معظم المراقبين بأنه يعني توسيع الاستيطان واستكمال بناء الجدار العازل وحصر الفلسطينيين في مدنهم الرئيسية السبع التي يأمل أن تكون حياتهم فيها من الصعوبة بحيث يختار معظمهم الهجرة. وبعبارة أخرى، فإن مشروعه يقوم على تقسيم الضفة الغربية وحصول إسرائيل منها على حصة الأسد. وفي نهاية المطاف، يعود الحديث عن «الخيار الأردني» الذي يعني ضم بقايا من فلسطين إلى المملكة الهاشمية.
وأما أبو مازن فإن رؤيته على المدى البعيد مختلفة جداً. فهدفه إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وحل عادل لقضية اللاجئين. وهو يريد مفاوضات جدية لحل النزاع نهائيا في حين يريد شارون تفادي أي مفاوضات كي يكسب الوقت بانتظار المزيد من التوسع.
وينشد شارون عون الرئيس الأميركي جورج بوش لإجبار الفلسطينيين على القبول بتدابير وترتيبات مؤقتة تعطيهم في النتيجة القليل القليل أو لا شيء مطلقاً. أما أبو مازن فينشد مساعدة بوش في ضمان قيام دولة فلسطينية مستقلة وديموقراطية تكون قابلة للحياة، حسب ما تحدث بوش نفسه.
وأغلب ظني أن أبو مازن يتطلع إلى ما بعد شارون، وإلى احتمال حدوث تطور في الرأي العام الإسرائيلي. فهو أصغر من شارون بثماني سنوات وهذه في السياسة تعتبر زمنا طويلا. فحين يتم الانسحاب من غزة ويهزم المستوطنون المتطرفون نهائيا، وحين يعود اليسار الإسرائيلي إلى تنظيم صفوفه وتكتيلها، وحين تطمئن أكثرية الإسرائيليين بعد فترة من الهدوء وتدرك بأن أمنها على المدى البعيد إنما يكمن في إقامة علاقات طيبة مع الفلسطينيين، مسالمة ومزدهرة وديمقراطية، عندئذ يمكن، في اعتقاده، أن تصبح الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة واقعا ملموسا.ً
ولا بد للرئيس بوش (ولجماعة ليكود في إدارته) أن يدركوا بأنهم إذا ما فشلوا في تحقيق أفق سياسي، وإذا ما فوّتوا الفرصة وسمحوا لشارون أن يفرض شروطه، فعندها لا بد من نشوب انتفاضة ثالثة قد تكون أشد بأسا على إسرائيل وأميركا من سابقتها.