شادي عبود: تشهد مدينة صيدا الساحلية حركة بشرية لافتة ونشاطاً اقتصادياً مميزاً أيام الآحاد، حين تشرّع المدينة أسواقها أمام القادمين إليها من العاصمة بيروت ومن قرى الجوار المنتشرة في شرقها وجنوبها. الزائرون تجذبهم المدينة القديمة المتجاورة غرباً مع البحر ومعالم الآثار الكثيرة الموزعة في المنطقة. الأسواق الشعبية على أنواعها والحارات الأثرية وعشرات من المقاهي تنتشر في المكان جاعلة منه مركزاً اقتصادياً استقطابياً ومعلماً تراثياً وحضارياً مهماً للمدينة. صيدا لا تهدأ في نهاية الأسبوع، على عكس الكثير من المدن اللبنانية التي تغرق في النوم حتى ساعات متأخرة من النهار أو التي تتحوّل مدناً للأشباح بعد أن يرحل عنها الكثيرون من قاطنيها إلى خارج "أسوار الباطون" بغية تمضية أوقات مميزة في عطلة نهاية الأسبوع.
***
الصورة على الكورنيش البحري تشبه الكرنفال أو الاحتفال الصاخب. منذ ساعات الصباح الأولى يتقاطر بائعو الكعك والفول والذرة المشوييْن مع عرباتهم، يجولون الطريق الممتدّ من المسبح الشعبي في منطقة "القملة" حتى "الفواخير" حيث ينتهي الكورنيش الجديد. المقاهي تغصّ بالأفراد والعائلات الذين لا تزعجهم نفحة البرد التي يحملها الهواء البحري، يأكلون وجبة طعام أو يدخنون النارجيلة ويشربون القهوة. الهيمنة الذكورية على المقهى الصيداوي تسقط يوم الأحد عندما تجتاح الصبايا والنساء المقاعد والطاولات ليشاركن الرجال المكان والزمان. عشرات من السيارات الغريبة تنتشر في تلك المنطقة. سوق السمك الشعبي يعجّ بالناس منذ ساعات الفجر لشراء الأسماك الطازجة التي ينزلها الصيادون من مراكبهم إلى طاولات "الهناغرة" (تجار السمك). محال الفول داخل المدينة القديمة وعلى أطرافها الغربية، محال الحلويات الموزعة في كل أرجاء صيدا، أسواق الخضار والفواكه، محال الثياب والأقمشة، المقاهي والمنتزهات البحرية... كلها مجتمعة تشكل المرافق الحيوية الأبرز للتجارة الصيداوية ذي الأسعار البضائعية الزهيدة، وتراها الأعين في صور حيّة من يوميات المشهد النابض بعجقة الناس في أيام الآحاد.
الصيداويون يعرفون الغريب من لهجته. لكنتهم اللغوية والمفردات الخاصة التي يستعملونها تجعل منهم مجتمعاً صغيراً ذا خصائص وميزات مشتركة. العقلية التجارية هي أوّل ما تتشاركه العائلات الصيداوية قبل التقائها على عادات وتقاليد متشابهة. التجارة تشكل في حياتهم مصدر الحياة والاستمرارية. تفاعلهم الداخلي ضمن البوتقة الاجتماعية المحلية يخضع أحياناً كثيرة لمعادلات التجارة والاقتصاد. علاقتهم بالخارج تبقى متأثرة بالعقلية التاريخية التي تحتفي بالضيف وتحذر من الغريب. هذه الفوبيا النفسية الجماعية تجعل من هذه المدينة التجارية المنفتحة على البحر الأبيض المتوسط مجتمعاً محكوماً بالخوف من كلّ جديد وطارئ. التجارة هنا نادراً ما تغيّرت أنماطها وأنواعها. سلالات عائلية كثيرة مازالت تورّث أولادها وأحفادها المصالح التجارية التي عمل بها أجداد الأجداد. عدد قليل من الأشخاص تشجعوا وغامروا بتجارات جديدة تخطت حدود السوق المحلية، وبعضهم جمع منها ثروات طائلة. الصيداويون خبروا التجارة تاريخياً ونجحوا فيها أكثر من عملهم في زراعة الحمضيات وصيد السمك. أسواقهم تنتعش في بعض المناسبات (شهر رمضان ـ أعياد الفطر والأضحى والميلاد ـ في الصيف مع عودة المغتربين)، وتعاني من الجمود على مدى شهور كثيرة متأثرة بالأوضاع الاقتصادية التي تعيشها البلاد.
التجارة في تاريخ صيدا
إن أهمية الموقع الجغرافي لهذه المدينة والدور الذي لعبته في التاريخ الوسيط أتاحت لها أيام فخر الدين أن تصبح ميناء التجارة بين الغرب والشرق. فكانت السفن الغربية تأتي إليها من المدن الفرنسية والإيطالية محمّلة بالبضائع لتوزعها على أسواق الشرق وتحمل في الوقت ذاته البضائع الواردة براً لحملها على السفن من مينائها إلى الغرب. كانت خاناتها محطة الرحّالة والتجار الغربيين القادمين إليها لاستطلاع أسواق الشرق المزدهرة تجارياً في ذلك الوقت. ظلّت صيدا قروناً عدّة حبيسة أسوارها تفتح بواباتها صباحاً وتغلق على سكانها مساءً وعند إنشاء شارع الشاكرية خارج أسوارها في أواخر القرن التاسع عشر وتحديداً في العام 1882 فإنه ظلّ يمثل الشارع الرئيسي مدة ثلاثة أرباع القرن. وعندما شق شارع رياض الصلح عام 1950، بقي هو مركز الحركة التجارية وشريان المواصلات الرئيسي قبل أن تشهد المدينة في العصر الحديث حركة عمرانية نشطة أنشأت العشرات من الطرقات الداخلية أهمّها شارع رياض الصلح وبولفارين شرقي وغربي. خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبفضل اهتمام بعض القائمقامين بإصلاح طرقات المدينة وترميم المساجد وتوسيع شوارعها مثل شارع الشاكرية بعد فتح بوابة جديدة في سور المدينة تعرف ببوابة الشاكرية، أصبح هذا الشارع مركز الحركة والنشاط للمدينة فقامت عى جانبيه عشرات المحال الحديثة وثلاث مدارس (الفرير والأميركان والأسقفية الكاثوليكية) وأربعة فنادق (الزهور والمطران وزنتوت والوطن أنشئت أواخر العهد العثماني). ثم أنشء عدد من الفنادق الصغيرة التي عرفت بالنزل وقد أنشئت في الثالثينيات من القرن العشرين (أوتيل لبنان ونزل الشرق ونزل فينيقية) ومسجد (المجذوب والبراني) وكنسية (للكاثوليك) ومواقف للعربات ثم للسيارات المنطلقة في كل اتجاه واثنتين من أكبر مقاهي المدينة (الشاكرية والريفولي) كما ضمت الشوارع المتفرعة الحسبة القديمة والبريد والسراي القديم ومقبرة المدينة ومحال تجارية ومخازن عدة.
الأسواق التجارية اليوم
اليوم تغيّرت ملامح عمرانية في المنطقة من دون أن يتغيّر الدور التجاري البارز الذي مازال يلعبه شارع الشاكرية وامتداده الجنوبي (البوابة التحتا)، حتى القلعة البحرية على الرغم من نشوء شوارع تجارية صغيرة في أرجاء مختلفة من صيدا الكبرى. متحف الصابون (مصبنة عودة) أعيد ترميمه وأصبح معلماً أثرياً يزوره السائحون ويضمّ بالإضافة إلى المتحف مقهى ومحل لبيع التذكارات. سينما "الريفولي" تحوّلت مركزاً تجارياً لشركة باتا للأحذية، وسينما "الكابيتول" صارت متجراً لشركة عقيل أخوان. ومن جهة البحر نشأ عدد من المرافق التجارية مثل استراحة صيدا ومحال تجارية أخرى أكثرها حيوية "مطعم أبو رامي للفلافل" الذي لا تهدأ الحركة عنده ويقصده السائحون الأجانب وزوار المدينة. الشارع الرئيسي الذي يمتدّ من ساحة النجمة باتجاه الداخل حتى "قصر دبّانة" صار يشكل مع شوارعه الفرعية الموزعة باتجاه الشمال والجنوب، السوق الصيداوي الأساسي الذي تكثر فيه محال الثياب. أسواق أخرى أكثر قدماً كانت موجودة داخل المدينة القديمة مثل سوق النجارين، سوق "البازركان" (أي الثياب)، سوق اللحامين، سوق الخضار، سوق الكندرجية، سوق الحياكين، لم يبق منها اليوم إلا ثلاث (الذهب والثياب والنجارين) مازالت مقصداً للزبائن.
المدينة التاريخية والزائرون
يقصد صيدا أيام الآحاد زائرون من العاصمة بيروت ومن قرى شرق صيدا والجنوب. البيروتيون يغادرون العاصمة كعادتهم في نهاية كل أسبوع ويتوجهون إلى صيدا التي يصلونها في نصف ساعة لزيارة الأقارب والأصحاب، إذ إن صلات قربى تربط بين عددٍ من العائلات الصيداوية والبيروتية، أو يقصدون الأسواق للتبضع أو البحر والنهر صيفاً هرباً من شدّة القيظ أو يستمتعون في الربيع بعطر زهر الليمون الذي يغمر فضاء المدينة فيعبرونها باتجاه الجنوب. العلاقة بين صيدا وبيروت ضاربة في التاريخ، فهما مدينتان ساحليتان تجاريتان تسكنهما أغلبية سنية، جعل منهما موقعهما الجغرافي مركزين تجاريين مهمّين وأنشأت علاقة التبادل الاقتصادي بينهما علاقات اجتماعية وسياسية ومصالح اقتصادية مشتركة. أمّا قرى شرق صيدا ذات الغالبية المسيحية، فهي تابعة إدارياً لصيدا وتعتبر امتداداً طبيعياً لها وهي بقيت على علاقة تجارية ومهنية واجتماعية مع المدينة رغم النموّ الذي شهدته هذه القرى على الصعيد العمراني والاقتصادي والتربوي. من جهة أخرى أصبحت صيدا اليوم تشكل ممراً استراتيجياً لأبناء الجنوب القادمين إليه أو الخارجين منه، يعبرونها ويحطون رحالهم فيها لبعض الوقت قبل مغادرتها. هذه الفسيفساء المناطقية والطائفية التي تجتمع أيام الآحاد في صيدا تختلط مع أبناء المدينة ومع السائحين الأجانب الذين يجيئون إليها. حركة غير اعتيادية تدبّ في شرايين المدينة التاريخية فتستيقظ فيها معالمها التراثية والأثرية. وفود كثيرة تجتمع منذ الصباح على المداخل الغربية للمدينة التاريخية، يترجلون من الباصات الكبيرة التي تركن مقابل البحر قبل أن يتغلغلوا في مجموعات بشرية إلى داخلها بحثاً عن "الكنوز" والاسرار التي تختزنها منذ آلاف السنين. زيارة القلعة البرية وخان الإفرنج تعتبر من البديهيات بالنسبة لأي زائر بحيث أن للمعلمين غنى تاريخياً وهما ينتصبان واحد في البحر والثاني على الشريط الساحلي فينبّها العابرين لوجودهما. أماكن أخرى تتحوّل أيام الآحاد مراكز مقصودة من قبل السائحين مثل خان الرزّ، قصر دبانة، المسجد العمري الكبير، وعدد كبير من الحارات مثل حارة اليهود، القصّاص، المسالخية، زقزوق حمص، الزويتيني، حيث تنتشر فيها البيوت السكنية والمحال والزواريب ذو الهندسة العمرانية القديمة والتي شهدت أعمال إعادة ترميم لعدد كبير منها نفذها بنك عودة ومؤسسة الحريري. المدينة التاريخية يعتبرها الصيداويون من أقدم مدن حوض البحر المتوسط وأغناها، وهي صارت محطّ أنظار المستثمرين بعد سطوع نجمها في رمضان 2004 حيث شهدت مهرجانات يومية من السهر والسحور والحركة التجارية النشطة منحتها موقعاً متمايزاً بين مثيلاتها من المدن الساحلية اللبنانية لأنها مازالت محافظة عل طابعها الشرقي والتراثي ولم يلفها التغريب بعد. الحديث عن داون تاون صيدا7-7- أصبح اليوم أكثر جدية بالنسبة للمجتمع المحلي وللمتابعين للموضوع. الزيارات العديدة التي قام بها أشخاص يعتقد أنهم عملاء لشركات استثمارية أجنبية واللقاءات التي تمّت مع مالكي عقارات في المدينة التاريخية بالإضافة إلى الحركة العمرانية التي يشهدها المكان وخصوصاً واجهته البحرية (إعادة إعمار وترميم فندق القلعة ومشروع البولفار البحري) كلّها تنبئ بتغييرات وتحوّلات ليست بالبعيدة قد تطرأ على المدينة التاريخية، أول غيثها كان استشفاف لارتفاع مفاجئ في أسعار العقارات داخلها.
مقهى على الرصيف ..وفي البحر
عدد كبير من المقاهي الشعبية ينتشر بمحاذاة البحر ولكلّ منها روّاده وزائروه وسيرة ذاتية خاصة تتناقلها الألسن. بعضها يداوم فيها البحارة وصيادو الأسماك، وبعضها الآخر يقصدها العتالون والعاملون على ظهر السفن أو العاطلون عن العمل وأخرى للعاملين في شتى انواع المهن. عشرات المقاهي تتوزّع في أحياء المدينة التاريخية وعشرات أخريات تزنّرها وتتمدّد جنوباً وشمالاً. المقاهي الشعبية لها في الذاكرة المحلية الصيداوية مكانة مهمة حيث أنها شكلت في الخمسينيات حتى السبعينيات مراكز للعمل الحزبي والسياسي ومنطلقاً للتظاهرات الشعبية المطلبية والاحتجاجية، كما اعتبرت معقلاً ذكورياً وملتقى لرجال المدينة ومنبراً لقصص الحكواتي وأخباره. ورغم التغيرات التي طرأت على أنماط العمل والحياة في المدينة، بقي المقهى صامداً ومقصوداً من الناس في فترات زمنية مختلفة ولأغراض وغايات متنوّعة. 7-7-هذه العجقة مابتشوفها بالأيام العادية ونحنا ننتظر أيام الآحاد لأنو موسم لنا ولكثير من المصالح"، يعلق أبو العبد الصباغ على الحركة النشطة التي تدبّ يوم الأحد في صيدا. وأبو العبد هو صاحب أحد المقاهي الشعبية المطلة على البولفار البحري حيث اعتاد أن يقضي ساعات من وقته مع أصحابه يدخنون النراجيل ويتسامرون الأحاديث. المكان يتسع فضاؤه يوم الأحد فتنتشر المقاعد والطاولات على الرصيف المقابل للمقهى وفي الزاروب المجاورة له، ويتقاطر الزائرون إليه لشرب القهوة والشاي أو لاحتساء ترويقة الصباح التي يأتيهم النادل بها من عند بائع الفول أو خبّاز المناقيش. "أفتح المقهى منذ الصباح الباكر وأشرب فنجان الشاي مراقباً الناس القادمين إلى الأسواق الشعبية. البيارتة (أهل بيروت) وإخواننا المسيحيين يجولون في البلد، يتسوّقون ويتبضعون ثم يستريحون رجالاً ونساء في المقاهي أو على الكورنيش البحري خصوصاً في الأيام المشمسة. والأجانب أيضاَ يزورون المقهى لأن موقعه مطلّ على القلعة البحرية والميناء والطريق البحرية والأسعار فيه رخيصة وبتناسب كل الناس"، يروي أبو العبد. أما في الجهة المقابلة، فيعوم في البحر مقهى أو مطعم يعرف بـ "عوّامة القلعة" يتجاور مع مراكب النزهة البحرية التي تنقل الزائرين إلى جزيرة "الزيرة" أو تجول بهم في البحر. "العوّامة" عبارة عن مطعم بحريّ فريد من نوعه شيده أصحابه على مركب كبير وهو يظلّ راسياً قبالة الرصيف البحري. "صيدا تفتقد إلى المطاعم البحرية والقادمون إليها يستغربون غياب المطاعم وهي المعروفة بمدينة البحر والسمك" يشرح ابراهيم بوجي (وهو واحد من الشركاء في مشروع العوّامة) فكرة المشروع الذي انطلق في العام 2002. بجعة بيضاء كبيرة ومحنّطة تستقبل الزائرين على مدخل العوامة بعد عبورهم الجسر الخشبي الممتدّ فوق الماء، ومشاهد بحرية جميلة تختلط وتحيط بالمكان من جهاته الأربعة. بوجي يعتبر أن يوم الأحد هو أكثر الأيام حركة وربحاً بالنسبة لهم لأنّ العوّامة تعجّ قاعتها بالناس القادمين من كل حدبٍ وصوب في وقت الغداء، يقول: "صيدا كلها تعمل يوم الأحد: مطاعم الفول والأفران والمراكب السياحية والمقاهي وأسواق السمك والثياب والخضار واللحوم وغيرها... ونحن ننتظر هذا اليوم لنعوّض الجمود اللاحق بنا في أيام الأسبوع. العوّامة تستقطب زائرين من بيروت والمتن وكسروان والجنوب وأنا أستقبل دائماً سائحين من أستراليا وفرنسا فيها ثم أقودهم في جولة داخل المدينة القديمة".
مقهى على الرصيف وآخر في الماء، والعابرون إلى صيدا يزيّنون صباحها ويؤانسون مساءها، وهي المدينة الكنعانية المسترخية على شاطئ المتوسّط، لا تكلّ من ممارسة مزاجيتها البحرية واعتناقها لطقوس وعادات تجعل منها عالماً معقداً لكنّه جميل.