استكملت حلقات زعامة محمود عباس على نحو هادئ. وأعلن الرجل، بعد اتضاح فوزه في انتخابات رئاسة السلطة الوطنية، انه سينتقل من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
ولقد خضعت هذه الجملة إلى تفسيرات متعددة. غير أن السياق الذي جاءت فيه، والمناخ الذي يحيط بها، لا يحتمل سوى تفسير واحد، وهو: الإصلاح، والتنمية، وفتح المسار السياسي.
ولقد حصل محمود عباس، على تفويض كاف لقيادة الجهاد الأكبر، ويتطلع إلى دعم أكثر وضوحا، من حركتي حماس والجهاد الإسلامي وباقي الفصائل، كي يلاقي شارون، مسلحا بالأوراق الكافية، التي تؤهله لمفاوضات فعالة، غير محفوفة بالشكوك حول قدرة الالتزام، وجدارة التمثيل.
ولا جدال في أن هنالك بوادر مشجعة حول تعاون بشروط، يتوقعه عباس من الفصائل، وهذه الشروط من النوع الموضوعي، الذي يخدم رئيس السلطة، قبل أن يشكل قيودا عليه، مثل حتمية التزام شارون بالتهدئة، ووقف جميع أنشطته العسكرية، وفي مقدمتها الاغتيالات والاجتياحات، إضافة إلى بلورة صيغة للمشاركة في صناعة القرارات الرئيسية.
ولا يجد محمود عباس صعوبة جدية في حواره مع الفصائل، وبلوغ تفاهمات واتفاقات معها، فللرجل باع طويل في هذا المجال، ويصر على اعتبار تجربته خلال فترة حكومته القصيرة، بأنها كانت ناجحة، بمعنى أنها قابلة للتكرار والإنضاج والتطوير، خاصة فيما يتصل بطريقة ومحتوى الحوار والاتفاق مع الجميع.
ومما يشجع عباس على التفاؤل بنجاح تجربته الجديدة مع الفصائل، انه يحاور من موقع مختلف عن موقعه في التجربة الأولى. فهو الآن رئيس المنظمة ورئيس السلطة، وهو كذلك المرحب به دوليا، على نحو يجدد الرهان على قدرته في تحقيق تقدم ما، في المجالين التنموي والسياسي.
ومعادلة عباس مع الفصائل، هي ذاتها مع باقي شرائح المجتمع الفلسطيني، فالرجل الذي جاء محمولا على أجنحة الأمل برفع المعاناة، يجد نفسه في وضع من يتعين عليه توفير الاستحقاقات، الكفيلة بإقناع الطرف الآخر، بتغيير سياساته تجاه الفلسطينيين ورفع هذا الجحيم عن مسار حياتهم اليومية، وليس سوى التهدئة ما يؤدي إلى هذا.
إن محمود عباس يدرك سر نجاحه، ويعرف أن الذين صوتوا له، هم الناس البسطاء العمال الذين ينتظرون فرص العمل، والمواطنون الذين فقدوا كل مقومات الحياة العادية، على مدى أربع سنوات خلت، والموظفون الذين يتطلعون إلى تنظيم أوضاعهم وحماية حقوقهم. أما الذين يكثرون الحديث عن الثوابت، فهم يعرفون من أعماقهم درجة التزام محمود عباس بها، وقد اختبر في ذلك، ومطلوب منهم أن يعرفوا بأنه من دون رفع المعاناة عن المواطن، فلن تكون الثوابت أكثر من شعار ينفع في مواسم الانتخابات.
وإذا كانت معادلة زعامة عباس، مع الفصائل وباقي شرائح المجتمع الفلسطيني، واضحة إلى هذا الحد، فإن ما يظل موضع قلق هو كيفية التعامل الإسرائيلي معه، فإن تكررت طريقة التعامل مثلما كانت عليه إبان حكومته قصيرة العمر، أي ان استمر شارون في لعبة الابتزاز والاعتصار والتعجيز، فلن يجد من محمود عباس إلا الصمود والعناد واستحالة الإذعان.
وينبغي ألا ننسى ظاهرة النقد الذاتي التي انتشرت عقب الإطاحة بحكومته، حيث الندم الأمريكي على السلبية، والندم الإسرائيلي، المناور أو الحقيقي، على عدم التعاون معه، والندم الفلسطيني على شده الى الوراء وإغراقه بالاتهامات، والتي كان أكثرها احتشاما انه «قرضاي».
ومن حق محمود عباس أن يراهن مرة أخرى، على تغيير في السياسات الأمريكية والإسرائيلية تجاهه. فإذا ما كان الحليفان الأزليان يريدان حقا، رؤية هدوء على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، ورؤية عملية سلام تبعث إلى الحياة، بعد غيبوبة جاوزت الأربع سنوات، وان لم يتعاونوا مع محمود عباس، فمع من سيتعاونون إذا. وإذا لم يفتحوا الأبواب المغلقة أمام رجل اوسلو وخارطة الطريق، ووقف عسكرة الانتفاضة، ورفض إطلاق الصواريخ.. الخ. فلمن سيفتحون الأبواب إذا؟.
لقد عاد محمود عباس إلى المسرح السياسي، وفق برنامج شديد الجرأة، وشديد الوضوح كذلك، وقد تعرض أثناء الحملة لانتقادات حادة، جراء وضوحه وملامسته الجريئة لأمور كان الاقتراب منها يعتبر من المحرمات.
عاد هذه المرة، ليس من موقع المفاوض، وإنما من موقع الرئيس صاحب القرار. وبصرف النظر عن كل الملاحظات التي أحاطت بانتخابه، ونسبة المشاركين أو المقاطعين، إلا انه يمتلك الآن، كل الشرعيات المطلوبة لرئيس الفلسطينيين، بما في ذلك احترام الجميع، المختلفين معه والمتفقين، على انه «الرئيس». وبقدر ما يبدو هذا القبول الجماعي قويا وداعما، بقدر ما يبدو محرجا للأمريكيين والإسرائيليين، اذا لم يقتنصوا الفرصة، ويصححوا خطيئة حصار عرفات ومقاطعتهم له، وإلغائه كشريك في العملية السياسية.
لقد ظهر هذه المرة شريك خال من كل الذرائع التي اخترعوها لعرفات ظلما وادعاء. فلنر، والمسألة لا تتجاوز الأيام، ما إذا كان التعامل سيكون جديا، أم أن الاسطوانة المعهودة ستدار من جديد، وساعتها لن يكون أمامنا إلا أخطر الاحتمالات وأسوأها على الجميع.