معظم الأنظمة العربية تحكم، ربما منذ انقلاباتها "المظفرة"، أو سيادتها "التاريخية" (الوراثية) بالعصبية الطائفية، والمذهبية، أو القبلية والعائلية، وراء شعارات عريضة، قومية، أو ايديولوجية، أو "ثورية"، أو حزبية مموهة. وهذا شيء قد يستغربه "بعض" الناس، ويتواطأ معه البعض الآخر، وينفيه عدد لا بأس به من المتعاطفين مع هذه الأنظمة، أو من المرتهنين بها.
ولو تمعنّا قليلاً بواقع الفكر العربي واليساري والاشتراكي والليبرالي وصولاً إلى الكراسي الموروثة بالحق العائلي أو "الالهي"، لهالنا أن نجد أنه كلما تكاثرت الشعارات القومية، والثورية، (والعلمانية) تنامى انتشار الطائفية في القواعد وعند شرائح واسعة من الناس، وغلبت مشاعر المناطقية والأنساب، على الانتماءات الوطنية والقومية التي تلصقها بعض الأنظمة ببياناتها وأناشيدها ومؤتمراتها وندواتها. والسؤال الكبير: كيف يمكن أن نفسِّر تراجع المد القومي منذ تسلّم أهل القومية الحكم؟ وكيف يمكن أن نفسّر تراجع العلمانية بوصول "العلمانيين" إلى السلطة؟ وكيف تفككت الأحزاب والنقابات، عندما تسنمت بعض الأحزاب المقادير والأقدار؟ وكيف تلاشى الحس الثوري أمام ثورية اللغة التي يرددها أهل الثورة؟ بل وكيف صارت عبارة "القومية" و"العروبة"، و"الانتماء"، و"التقدمية" وحتى اليسارية، لدى الأجيال الجديدة، وكأنها مزحة سمجة، أو لعنة لازبة؟
بل وكيف بات يتم تصنيف هذا النظام أو ذاك من خارج قاموسه، المتداول، فيُنعَت بألقاب طائفية أو مذهبية، وهو الذي يفترض أنه "ربّى" هذه "الأشبال" على الأفكار المدنية والتقدمية التي تقوم أصلاً على العقلانية النقدية، والاعتراض المتصل.
نطرح مثل هذه التساؤلات لأننا نعيش اليوم في بلد اسمه لبنان، صيغت فيه العروبة الحضارية والديموقراطية، والنفحات الثورية، واليسارية التاريخية، والطليعية وها هو، ومنذ اندلاع الحروب عليه وتحت مسميات "مُطّردة"، موضوع في رأس لائحة "البلدان" الطائفية. وباسمها ومن خلالها يستباح كل شيء فيه: اقتصاده، نظامه، ناسه، قوانينه، انتخاباته، قضاؤه، دستوره، مجتمعه. "كل شيء طائفي في لبنان"، (يقولون) إذاً كل شيء مستباح. ومنتهك، وعليه فأنتم، ولأنعم "طائفيون" مذهبيون أبديدن: فليس لكم إلا أن تكونوا على حافة حروب طائفية دائمة تفرزونها من دون أن تعرفوا أحياناً (جيناتكم طائفية)، وتصنعونها أحياناً بأنفسكم (من دون أي تدخل خارجي إلا اللهم لحمايتكم من أنفسكم الأمّارة بالمذهبية والشرور والفساد والقتل). فأنتم، ولو كوّنتم مجتمعاً مدنياً مرموقاً، وطالبتم بالديموقراطية، وتحدثتم بالعلمانية، وناضلتم من أجل التحرير، والحرية، فأنتم لا تستحقون إلا ما أنتم عليه: الطائفية، باعتبار أنكم حالة "شاذة" في هذا العالم العربي الذي يتدفق بالعلمانية والديموقراطية والمساواة وحتى الثورية!
فإذا شئتم تأليف حكومة، فعليكم أن ترفعوا من وتيرة الطائفية. وإذا شئتم قانون انتخابات عادلاً، فعليكم أن تسعّروا النبرة الطائفية لتنال كل طائفة حقوقها كاملة في هذه الانتخابات. وإذا شئتم تنظيم مظاهرة، فمن شروطها الأولى أن تكون "مذهبية" لتقف في مواجهتها تظاهرة مذهبية أخرى. وإذا شئتم أن تتحدثوا عن يسار أو عن يمين، فمن متطلبات هذا الكلام أن يكون اليسار واليمين طائفيين حتى ينسجما مع المحيط السائد. وإذا جاهرتم بوجود مجتمع مدني (والمجتمعات العربية كلها مدنية في ظل الأنظمة الأمنية!) فعليكم أن تصنعوا مجتمعاً مدنياً طائفياً تكون أدواته النقابية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاعلامية طائفية. فما المانع أن يكون لكل طائفة نقابتها. ولكل طائفة صحيفتها. ولكل طائفة فضائيتها... ولكل طائفة حزبها. أما ما يشذ عن هذه الوشائج، فيعني أنه يهدد الأمن الوطني، ووحدة البلد وهويته وخصوصيته ويخدم مخططات العدو المتربص بنا. أما مَنْ يحاول كسر هذه الكانتونيات ويسعى، حتى بمسعى "طائفي" إلى توحيد الطوائف، فيعني ذلك ارتكاب الكبائر والصغائر. فعلى كل طائفة أن تبقى وحدها، وعلى استنفار ضد الطائفة الأخرى. وعلى شفير "حرب" لا يعرف إلا "الآلهة" متى تندلع! أي كونوا "شعوباً" طائفية... ولا تكونوا حتى شعباً طائفياً واحداً.
كونوا قبائل وعشائر وعائلات ولا تكونوا قبيلة أو عشيرة أو عائلة واحدة. كونوا أغناماً ونعاجاً موسومة متفرقة، ولكن حذار أن تكونوا حتى قطيعاً واحداً، إلا استثناء، عندما يكون الراعي واحداً، والعصا واحدة، والكلأ مشروطاً بالطاعة (الحيوانية) والغياب "النباني".
أخطر ما يجري الآن في لبنان بالنسبة للرعيان وعصيّهم ان القطعان تعلن "التمرد". تلتم على انفسها في ما يشبه التوحيد، وتضم أحياناً "نفحات" يسارية معها! فيا للهول! فـ"صمت الحملان" يجهر بالحرية، والديموقراطية، ويشذّ عن قطعان الأنظمة الصامتة أبداً!
و"صمت الحملان" ينتفض لصمته. فيا للهول!
إذاً فلنُهوِّل على الحملان بذئاب الحروب والعصي والكلأ والعشب والماء!
فلنهوِّل على هذه الحملان "الصارخة"، لعلها تعود إلى طاعتها الصامتة، وخضوعها الصامت وغيابها الصامت، وموتها الصامت!
هذه هي الحكاية!