قبل منتصف الليل بدقائق شعر أن نهايته اقتربت.. سمع خطوات أحذية الجنود الثقيلة تهز «الطرقة» المظلمة المؤدية الى زنزانته.. أعقبها صرير المفاتيح في البوابة الحديدية.. وعلى الضوء الباهت رأى فرقة الإعدام أمامه.. فهب واقفا دون أن ينطق بكلمة واحدة.. قال له رئيس المحكمة العسكرية:
بعد قليل سينفذ فيك حكم الإعدام شنقا حتى الموت.. ارتد ملابسك .. ثم تراجع الى الخلف قليلا ليفسح الطريق الى حاخام دمشق العجوز بظهره المنحني ولحيته البيضاء وصوته المخنوق كي يبدأ صلاته.
خرج موكب إعدام الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين في سجن المزة في حراسة مشددة الى قلب دمشق.. حيث يقف عمود الشنق منذ سنوات طويلة.. ليتسلمه جلاد سوريا.. أبو سليم الذي كان في انتظاره.. وبعد 90 ثانية جرى كل شئ.. كسرت رقبته.. وتدلى رأسه على صدره.. وصعدت روحه الى السماء.. كان ذلك في الساعة الثالثة والنصف وخمس دقائق من صباح يوم 18 مايو 1965.
بعد نصف دقيقة تقدم رئيس المحكمة العسكرية ليعلق على الكيس الأبيض الذي غطى جسم الجاسوس الإسرائيلي ورقة بيضاء كبيرة كتب عليها بحروف بارزة منطوق الحكم: إلياهو بن شاؤل كوهين حكم عليه بالإعدام باسم الشعب العربي السوري بتهمة الدخول الى المناطق العسكرية المغلقة وتسليم العدو أسرارا عسكرية .
. وبعد نحو أربعين سنة على ذلك المشهد وبالتحديد منذ عدة أيام قريبة مضت.. تقدمت إسرائيل بالطلب رقم خمسمئة لتسليم رفاته.. لكن.. للمرة الخمسمئة أيضا رفض الطلب.
إن قصة إيلي كوهين.. هي واحدة من أغرب قصص الجاسوسية وأكثرها إثارة.. فقد نجح ذلك الرجل الذي ولد في مصر وعاش فيها حتى سن الثانية والثلاثين في أن يخترق السلطة الحاكمة في سوريا.. ويكون واحدا من رجالها.. بما في ذلك رئيس الجمهورية في منتصف الستينيات الجنرال أمين الحافظ.. إنه رأفت الهجان على الطريقة الإسرائيلية.. لكن.. مع فارق واحد.. أن رأفت الهجان لم يكشف.. وبقي حتى دفن في مصر نموذجا للعمل السري المثالي.
لقد عاش إيلي كوهين في الاسكندرية وتعلم في مدارسها وجامعاتها في وقت كان فيه اليهود يعيشون بيننا في أمان ويصل عددهم الى 300 ألف نسمة ويسيطرون على أنشطة تجارية مختلفة.. وكان من الممكن أن يبقوا كذلك لولا أنهم راحوا يعملون سرا لصالح اسرائيل.. جمعوا التبرعات من أجلها.. ونظموا عملية الهجرة اليها.. ولم يترددوا في القيام بعمليات التخريب السياسية ضد بريطانيا أحيانا.. مثل عملية اغتيال اللورد موين في عام 1944.. وضد مصر أحيانا.. مثل عملية لافون في عام 1954.
اعتقل إيلي كوهين أكثر من مرة.. لكنه استطاع النجاة.. وقد أصر على البقاء في مصر رغم ما يتعرض له من متاعب حتى ينهي مهمته المكلف بها.. وهي تهريب ما تبقى من اليهود المصريين الى اسرائيل عبر عواصم أوروبية مختلفة.. وفي نهاية عام 1956 ترك مصر بالطريقة نفسها.. الحصول على جوازات سفر غربية.. والرشوة المالية والجنسية.
في إسرائيل عمل مترجما في أرشيف الجرائد بوزارة الدفاع.. فقد كان يجيد الفرنسية والعربية والعبرية والإنجليزية.. لكنه.. كان يشعر بأنه يضيع وقته في مثل هذا العمل.. ويتحرق شوقا للعمل السري..
وعرض مواهبه على رؤسائه.. وبعد طول صبر استجابوا.. ووضعوه بين يدي ضابط تدريب محترف يسمونه الدرويش.. أجرى له الفحوص الطبية والنفسية والبدنية والعصبية.. وكانت النتائج لصالحه.. ثم نزل به الى ميدان التجربة.. وتقمص شخصية سائح فرنسي من أصل مصري اسمه مارسيل كوان..
ووضع تحت المراقبة كي يعرفوا كيف سيتصرف؟.. ونجح في كل الاختبارات.. واقتنعت المخابرات الإسرائيلية بأن من الممكن زرعه في أي عاصمة عربية بدون شخصية سائح بل بشخصية مواطن عربي.. فمظهره الخارجي يدل على ذلك ولهجته العربية صحيحة.
في خريف عام 1960 بدأ الدرويش في تجهيزه واعداد هويته الجديدة.. أرسله الى الشيخ محمد سلمان في الناصرة بصفته طالبا في الجامعة العبرية يجري بحثا عن الإسلام.. كان قد تعلم الصلوات الخمس.. وحفظ بعض آيات القرآن.. وحمل معه مصحفا بصورة دائمة.. واختير له اسما جديدا هو كمال ثابت أمين.. ابن إحدى العائلات السورية المهاجرة الى الأرجنتين والذي يرغب في العودة الى وطنه الأم.
بعد سنة تقريبا هبط إيلي كوهين باسمه الجديد الى بيونس أيرس بعد أن توقف عدة أيام في زيورخ والتقى بمدير محطة الموساد هناك الذي أسس له مكتبا للاستيراد والتصدير يضاعف من تخفيه.. وأعطاه قائمة بأسماء عرب في الأرجنتين وعنوان نادي الإسلام.. حيث يلتقي المهاجرون الشرقيون فيه.. كانت مهمته في بيونس أيرس أن يحصل على رسائل توصية من السوريين هناك تساعده عند سفره الى دمشق.
في نادي الإسلام تعرف على عبداللطيف الخشن محرر مجلة أسبوعية اسمها العالم العربي وقوى صلته به حتى وعده برسائل التوصية التي يريدها إذا ما قرر العودة الى سوريا.. وفي يوم من الأيام قابل الجنرال أمين الحافظ الذي كان ملحقا عسكريا في السفارة السورية..
وفي هذه المقابلة بدا متحمسا لحزب البعث باعتباره الحزب الوحيد الذي سيعيد أمجاد بلاده.. وفي تلك المقابلة لم يعرف أمين الحافظ أنه فيما بعد سيجد نفسه رئيسا للجمهورية وسيجد بالقرب منه أخطر جاسوس إسرائيلي زرعته الموساد.
بعد ستة شهور حصل إيلي كوهين على تأشيرة دخول سوريا ومصر ولبنان دون مشاكل.. وخلال تلك الفترة التي قضاها في المهجر كان يرسل برسائله الى زوجته ناديا عبر محطة الموساد في زيورخ التي عاد اليها في طريقه الى اسرائيل قبل أن تبدأ مهمته الحقيقية في سوريا.. وفي اسرائيل دربوه على الأعمال الخفية.
. وطرق القتل العنيفة.. وكيفية إرسال واستقبال الرسائل بالشفرة.. وحمل معه خلاطا كهربائيا كان في قاعدته جهاز الإرسال.. وسافر الى ميونخ هذه المرة ومنها الى بيروت على ظهر السفينة ستوريا وكانت معه قائمة بأسماء ركابها.. ومنهم الشيخ مجد الأرض.. وهو من العائلات العريقة في دمشق.. وقد تعرف عليه.. وأقنعه بدخوله سوريا بسيارته البيجو الجديدة التي كانت معه في مخزن السفينة بعد أن أصبحا صديقين خلال الرحلة.
بسهولة شديدة دخل سوريا من الحدود اللبنانية البرية بعد يوم قضاه في بيروت هو والشيخ مجد الأرض الذي كان مولعا بالسهر وحياة الليل.. كان يوم 10 يناير 1962 هو يومه الأول في دمشق..
وعلى الفور راح يبحث عن شقة تكون قريبة من مقر قيادة الأركان السورية لتكون سكنا ومقرا لشركته التي ستصدر المنتجات السورية الى أوروبا والمهجر.. ونجح في الحصول عليها في حي أبي رومانة.. حيث القيادة.. والبنوك.. والسفارات الأجنبية ومن بينها السفارة الهندية.
تعرف إيلي كوهين بسرعة مذهلة على عدد من الشخصيات السورية المهمة.. ضابط في الجيش اسمه معز زهر الدين.. عمه كان رئيس الأركان عبدالكريم زهر الدين.. وقد ساعده على زيارة المناطق العسكرية المغلقة بدعوة رغبته في رؤية العدو الصهيوني.. وجورج سيف وهو من كبار موظفي وزارة الإعلام ومسئول عن الإذاعة والتليفزيون..
وهو ما أتاح له دخول الاحتفالات والمؤتمرات دون عوائق.. وهو أيضا الذي أعاد الجسور بينه وبين أمين الحافظ بعد عودته من الأرجنتين.. لكن.. شيئا ما فتح أمامه الباب ليدخل منه كل ما لم يتخيل من الشخصيات السورية المهمة.. لقد طلب منه جورج سيف أن ينظم حفلات خاصة حمراء يحضرها الكولونيل سليم حاطوم مع بعض الفتيات..
وسرعان ما أصبحت مثل هذه السهرات اعتيادية كل أسبوعين على الأقل.. ومع الخمر والنساء والموسيقى كانت الملابس تخلع.. والقيود تكسر.. والأسرار تعلن دون حذر.. بما في ذلك أسرار ما يجري من صراعات على السلطة.. وكان ذلك يصل الى إسرائيل أولا بأول..
بواسطة جهاز الإرسال غالبا.. وبواسطة التقارير المباشرة أحيانا.. فقد سافر الى زيورخ ومنها الى تل أبيب أكثر من مرة.. بدعوى الترويج للمصنوعات السورية في أوروبا.
في 8 مارس 1963 وقع إنقلاب عسكري بقيادة زياد الحريري وتولي أمين الحافظ وزارة الداخلية وأصبح مسئولا عن المخابرات الداخلية.. وفيما بعد برق نجمه وعين رئيسا لمجلس الرئاسة السورية.. وهكذا.. جرف التيار إيلي كوهين الى صفوف كبار المسئولين في سوريا.. ومنهم الكولونيل صلاح ظلي الذي انضم لشلة السهرات.. والذي قدر له أن يكون رئيسا للمحكمة العسكرية التي حاكمت إيلي كوهين بعد كشفه.
هناك أكثر من رواية لكشفه.. الأولى أن المصريين تعرفوا عليه من صورة نشرت له.. وعرفوا من ملفاتهم القديمة إنه إيلي كوهين.. والثانية هي الأكثر شيوعا فتؤكد أن القبض عليه جرى بعد أن اشتكت السفارة الهندية القريبة من بيته من التشويش على إرسالها.. فطلبت المخابرات السورية من السوفييت أن يبيعوا لها جهازاً خاصاً يتعقب التشويش..
وبعد وصول الجهاز جرى إطفاء النور عن الحي فلم تبق سوى الإشارات التي يرسلها جهاز إيلي كوهين وكان لحسن الحظ يعمل بالبطارية وليس بالكهرباء.. وصعدت مجموعة القبض عليه برئاسة الكولونيل أحمد سويداني لتضبطه متلبسا وهو يرسل تقريره بعد حفل صاخب كان فيه بعض المسئولين.. وبجوار جهاز الإرسال كان التقرير المكتوب بخط يده كما هو.
كان ذلك في الساعة الثامنة من صباح يوم الخميس 8 يناير عام 1965.. لتنتهي القصة بإعدامه.. ولكن.. لايزال الفصل الأخير فيها مفتوحا.. وهو الحصول على رفاته.