الغرب بغياب السياسة الحقيقية في المنطقة العربية, وغياب دور الاحزاب في الشارع العربي, ويتهموننا بأن البرلمانات العربية لا تؤدي الدور المطلوب منها, وان معظمها "مسيّس"؟ إلا أنني قد أرى أن في ذلك الكثير من التهجم والظلم, على حقيقة حال المنطقة العربية, وإجحافاً في حق الشعوب. فحقيقة... قد تكون شعوبنا تصوت بنسبة 99.9 في المئة لرؤسائها, وحقيقة... قد يكون بعض البرلمانات ومجالس الشورى في البلاد العربية بالتعيين, إلا أنها في الحقيقة تنجز!.. وقد يكون ايضاً بعض برلمانيينا العرب, هم انفسهم, من يقترح على ابن الحاكم ان يأخذ الحكم بعد أبيه, إلا انه قد يكون فعلاً اكثر الناس في تلك البلاد أهلاً للرئاسة!
أقول ذلك ونحن نعيش في مدينة الرياض هذه الأيام انتخابات المجالس البلدية, حيث ان اكثر المواطنين لم يحرك ساكناً للمشاركة في هذه الانتخابات, التي استثنت النساء, وستأتي بخمسين في المئة من اعضائها بالتعيين... وأنا هنا لا أعني ان الاقبال على المشاركة في الانتخابات البلدية كان ضعيفاً بسبب استثناء النساء, فالانتخابات في مجالس غرف التجارة والصناعة لم تستثن النساء, ولم يكن هناك حضور نسائي كذلك... ولكن الحقيقة التي لا يريد البعض ان يعرفها هي ان الشارع العربي برمته لم يعد يؤثر فيه "البنج الموضعي", فلقد تسمم جسده من البنج, بسبب الجرعات الكبيرة من المخدر, التي تشرَّب جسده الكثير منها, فالمسكنات السياسية والاجتماعية أصبحت كالمسكنات الطبية للصداع والقولون, والمسكنات التي لحقت مرارة الشعوب العربية قبل ان تنفجر... أشبعت جسده تخديراً... وجعلت من نماذجنا الحزبية "ما يضحك ويحزن" في الوقت نفسه.
ففي مطبوعة مصرية تكلمت احدى الكاتبات عن ظهور حزب جديداً أسمته "حزب الصابون", ذاك الحزب الذي يجوب مندوبوه الشوارع والاحياء الشعبية باحثين عن مواطنين يحتفظون بأكياس فارغة لإحدى ماركات الصابون, ليمنحوهم عنها جوائز من ذهب! وهذا فعلاً, كما تقول الكاتبة, نجاح كبير فشلت الاحزاب في منحه للناس... وفي الرياض سأستحدث أول حزب سعودي وأسمّيه "حزب الكلينكس", فإن كنت من سكان العاصمة فستلاحظ انك عندما تقف عند اشارات المرور, تظن انك في بلد فقير بسبب كمية الشحاذين الذين سيرتمون على سيارتك... اما "حزب الكلينكس" هذا فهو الفرع الراقي من الشحاذة بالبلد, وهو فرع من التكتلات الجديدة التي ظهرت تجوب البلاد العربية, وأجندة هذا الحزب تنص على انك إما أن تشتري علب كلينكس بعشرة ريالات او تصلح باب سيارتك بألفي ريال؟؟ وهذه - اذا نظرنا الى الجانب السياسي الصحي منها - بادرة تبشر بأن هناك رؤية سياسية, وجنوداً يقفون خلفها, وعند اشارات المرور, مخلصي الأمانة ينفذون الأجندة السياسية الخاصة بهم.
اما الحزب الآخر الذي أبشركم به فهو "حزب مثقفي البلاط", فهؤلاء تجدهم في الطائرات الخاصة, وفي مقاهي العواصم الدولية مثل باريس ولندن وكان, يجالسون كبار القوم ويتحدثون مثل المهرجين... وهذا تكتل آخر يبيع الوطن من اجل كسب الجيب, ككاتب من بلد عربي, هو اليوم في أمسّ الحاجة (لرجاله(, تجده يكتب عن مقابلة أجراها مع احدى الشخصيات, نشرها, كسلسلة من الحلقات في مجلة الكترونية معروفة, تكلم فيها عن رجل في آخر الثمانينات من العمر, له طبعاً علاقاته, ومكانة مهمة في البلاد, أجرى اكثر من خمس عمليات في القلب والكبد والكلى لإنقاذ حياته, ونشرت هذه المقابلة تحت عنوان اختاره الكاتب ليفرح الشيخ "شاب في الثمانين" يصفه فيها بالشباب والقوة والنشاط, وكأنه يروج له لتزويجه عروساً رابعة! وهذا ما يريد ان يسمعه رجل مثل هذا الكهل, من خلال هذا القلم المعروض للبيع... وهذه حال بعض مثقفينا الكتّاب للأسف, فبدلاً من ان يستعمل قلمه ليجنده وراء فكر لوطنه الذي يحتاجه اليوم, تجده في بلد الجوار يجنده لمصالحه المادية فوق كل شيء.
"حزب الشحاذين" هذا الذي أتكلم عنه لن تجدوه سادتي عند اشارات المرور, ولا في طريقكم الى بيوتكم, وبالتأكيد هم لن يعرضوا عليكم علب الكلينكس ولن يهشموا أبواب سياراتكم, لأن بعضهم اليوم يسكن القصور, والبعض الآخر منهم يصل ببساطة لأهل القرار, ولكنك قد تجد واحداً او اثنين ما زالا يتسكعان على جادة الطريق او على جادة صفحات الجرائد... بحثاً عن الاستفادة الفورية!
لا داعي للقلق قرائي, فهذا جزء من التخبط بين ظلمات التخلف المقنع والفقر المدقع, وسبب حقيقي لانصراف الأبناء عن العمل السياسي, والعزوف عن العمل العام وتحمل المسؤولية... وشعور بعض النخب المثقفة والطبقة المتوسطة باليأس, هذه النخب التي كانت هي دائماً من يحمل راية التنوير والحرية في تاريخ الشعوب... ولكن من يراقب العالم, وكيف يمكن ان تتهاوى فيه قيم الحضارة بسرعة جارفة, مثل تهاوي سمعة ومكانة دولة عربية عظيمة, انهارت في أيام معدودة, وتنكر لها اصحابها ولعنها اعداؤها, بسبب ديكتاتور واحد, وبسبب سياسات لا تعرف كيف تكون عظيمة من دون تجييش الشحاذين... ومن المؤسف والمحزن انها دائماً هي الشعوب التي تدفع ثمن فاتورة أخطاء من يصلون الى الكراسي... ويا خوفي من الثمن!