عندما كان جزء من لبنان خاضعاً للاحتلال الاسرائيلي, لم يعلُ صوت جدي يقول إن الانتخابات لا تجري في ظل الاحتلال. ذاك أن التعويض عن الاحتلال, ممثلاً بالحكم السوري وبتعزيزه بتغطية برلمانية, بدا أقوى من الاعتراض عليه.
وفي فلسطين, كاد المعترضون على الانتخاب في ظل الاحتلال أن يصير لهم صوت وموقع لولا خصوصية ذاك الوضع واستثنائيته. فـ"فتح" تريد الانتخابات, وهي من لا يمكن الطعن في تمثيلها للوطنية الفلسطينية, فيما "حماس", المقاطعة, مثخنة بالجراح عاجزة عن تعميم موقعها وتصليب ارادة شعبية من حوله. فوق هذا, دخلت الانتفاضة, بعد قرابة خمسة أعوام, عنق زجاجة خانقاً, وغدا البحث مُلحاً عن وسائل أخرى للتدخل في الشأن العام. فكيف وأن دمشق, صاحبة الطريقة الشهيرة في المزاودة على الفلسطينيين, وتعليمهم ما هو الجائز لهم وما هو غير الجائز, بدأت مكرهةً تتراجع عن طريقتها؟
يتبدى, تالياً, ان شعار "لا انتخابات في ظل الاحتلال" ينطوي على شيء من الزغل إن لم يكن الوحل. لكن الاصرار عليه لا يمكن تفسيره بالانتهازية وحدها, ولا حتى بدوران المعارضات المشرقية في فلك التثاؤب الامبراطوري السوري. فهناك عنصران آخران كامنان في الموقف ذي اللفظية الراديكالية:
الأول, ان النظرية القائلة بأن الانتخابات توصل أكثريات مناهضة لأميركا واسرائيل لم تثبت جدواها. صحيح ان الأكثريات الشعبية مناهضة لأميركا واسرائيل, إلا أن تركيز الانتخابات على قضايا محددة, وطنية ومحلية, وإدخال التعاطي مع الاحتلال في قنوات السياسات البرلمانية... هذه كلها عطلت التأويل السابق البالغ العمومية والخطابية.
والثاني, ان من خصوصيات الاحتلالات الراهنة اعتمادها الآلية الانتخابية وإلا فتعايشها معها. ففي فلسطين, وقبلها أفغانستان, وكذلك في لبنان التسعينات, كان الاحتلال, رغم كل ما يقال بحق في بشاعاته, أقرب الى التسهيل الانتخابي منه الى التعقيد. تتخلل الأمر, بطبيعة الحال, ضغوط وتأثيرات ومداخلات, إلا أن هذا أقل ما يمكن توقعه في واقع احتلالي يصير بموجبه "الخارج" أحد عناصر الداخل.
ويوفر العراق الحقل الأخصب في التعبير عن الموقف الرفضي هذا. فـ"مقاومته" لا تزال في عنفوانها وهي, على عكس فلسطين, ترتكز الى جماعة أهلية وطائفية تعيش على منطقة جغرافية متصلة. كذلك, وعلى عكس لبنان, فإن الولايات المتحدة, لا سورية, هي الطرف المستفيد من إضفاء الشرعية على الوضع القائم. أما سورية, لا الولايات المتحدة ولا حتى إيران, فهي الطرف الذي يستفيد من نزع كل شرعية عن ذاك الوضع.
أما وقد قيل هذا, فإنه لا يعفي من النقد الحاد للنظرية الراديكالية المضادة التي يراد تجريبها في العراق أيضاً. فهي, معطوفة على النقد الأميركي للا ديموقراطية الوضع العربي, تكاد ترهن الانتخاب بالاحتلال وتنشىء علاقة من التعادل بينهما. والى طابعها المبالَغ فيه, فإن النظرية المذكورة "تسهو" عن الشرط المسبق لكل انتخابات, أي الوضع الأمني المستقر ولو نسبياً. فإذا كان الإصرار على اجرائها محكوماً بانسحاب أميركي كالذي أشارت اليه "نيويورك تايمز" وألمح اليه كولن باول, بتنا أمام كارثة فعلية يتمهّد عبرها الطريق من حكم سني الى حكم شيعي, وربما الى حرب/ حروب أهلية مفتوحة.
فلا الاحتلالات, بالتالي, السبب الأول المانع للانتخابات, ولا هو أيضاً السبب الأول الموجب لها. وأمام العراق خصوصاً, ينبغي الرجوع الى العراقيين تاريخاً وتراكيب وعلاقات. هنا أصل الموضوع.