وقعت الهند في الأسبوع الماضي صفقة قيمتها أربعون بليون دولار مع إيران تحصل بموجبها علي 7.5 مليون طن من الغاز المسال سنويا علي مدي 25 عاما ابتداء من عام 2009، إضافة إلي حصة 20 بالمائة في أعمال تطوير حقل يادافاران النفطي الضخم (أو ما يعني حصولها علي 60 ألف برميل يوميا من نفط هذا الحقل) و حصة مائة بالمائة في حقل جفير الذي ينتج نحو 300 ألف برميل يوميا.

و بهذه الصفقة تدخل الهند قطاع النفط و الغاز الإيراني كلاعب رئيسي و تعزز من مكانتها في أسواق النفط و الغاز العالمية، وتعطي في الوقت نفسه دفعة قوية لروابطها الثنائية المتشعبة مع إيران. هذه الروابط التي كانت محدودة جدا في زمن النظام الشاهنشاهي كنتيجة لتبني البلدين لسياسات ومواقف متعارضة من الحرب الباردة و قطبي الصراع الدولي والملفات الإقليمية الكثيرة مثل الصراع الهندي-الباكستاني و الصراع العربي-الإسرائيلي وامن الخليج، ثم سادتها الشكوك و التوجسات بفعل التوجهات الإسلامية الراديكالية للثورة الخمينية (رغم ارتياح نيودلهي لفك طهران تحالفاتها الاستراتيجية مع واشنطن و انتسابها لحركة عدم الانحياز و خروجها من حلف السينتو)، قبل أن تشهد تدريجيا نموا وازدهارا غير مسبوق منذ منتصف التسعينات من القرن المنصرم علي خلفية بعض المتغيرات الإقليمية و الدولية، بما في ذلك تبادل الزيارات علي مستوي القمة وإجراء المناورات البحرية المشتركة و تبادل المعلومات الاستخباراتية وتدريب الفنيين والعسكريين في المعاهد الهندية و تجديد الهنود للأسلحة الروسية القديمة ضمن ترسانة الجيش الإيراني.

و بطبيعة الحال فان إيران تحاول من خلال توطيد علاقاتها مع العملاقين الهندي و الصيني أن تكسر العزلة التي تحاول واشنطن فرضها عليها (ولاسيما منذ إدراجها ضمن دول محور الشر) وان تحصل منهما علي ما لا تستطيع الحصول من غيرهما من سلع و تقنيات و أسلحة، مستخدمة في ذلك إغراءات النفط و الغاز. أما الهند والصين اللتان تزداد حاجتهما يوما بعد يوم للطاقة بفعل ما تشهدانه من نمو وحراك اقتصادي مدهش فتسعيان من خلال تمتين روابطهما مع طهران إلي ضمان أمنيهما الاقتصادي في عالم يشهد منافسة حامية علي مصادر الطاقة.

انه باختصار تقاطع المصالح الذي فرض سياسات خارجية برغماتية و قرب ما بين الأضداد، و إلا كيف نفسر إعطاء دولة ذات نظام ثيولوجي إسلامي راديكالي كإيران الأولوية في علاقاتها الإقليمية للتعاون مع نظام ركيزته الأساسية العلمانية كالهند، أو دولة يحكمها نظام شيوعي مثل الصين، وقيام الأخيرتين بالشيء ذاته نحو الأولي.

يري المراقبون في الصفقة الإيرانية-الهندية الأخيرة ( رغم تأكيدات طرفيهما بأنها غير موجهة ضد أي طرف ثالث وان المصلحة الوطنية وحدها فرضتها) باعثا للقلق لدي أطراف دولية وإقليمية عديدة، خاصة في ظل ما عرف عن الإيرانيين من سعيهم إلي الحصول علي مكاسب استراتيجية و تقنية من وراء ما يمنحونه من صفقات للآخر وبالتالي احتمال وجود ملاحق سرية أو مقايضات غير معلنة. ولعل ما يزيد الأمر إثارة هو أن المشهد الراهن يتسم بجملة من العلاقات المعقدة و المتشابكة أو المتداخلة.

فأولا: لا يمكن للصفقة إلا وان تثير حساسية بكين، ليس فقط علي خلفية تنافسهما علي مصادر الطاقة العالمية، والتي نجد آخر تجلياتها في سباقيهما من اجل السيطرة علي حصص مجزية في شركة يوكوس النفطية الروسية التي بيعت في ديسمبر الماضي في مزاد غامض، وإنما أيضا بسبب التواجد القوي للصين في قطاع النفط و الغاز الإيراني. والجدير بالذكر أن طهران و بكين أبرمتا في مارس الماضي صفقة بقيمة مائة بليون دولار تقوم بموجبها الثانية بتطوير وإدارة و تملك 50 بالمائة من حقل يادافاران الإيراني و الحصول علي 10 ملايين طن من الغاز الإيراني المسال سنويا علي مدي ربع قرن. وتجري حاليا مفاوضات أخري لعقد صفقات نفطية جديدة بين البلدين بقيمة تتراوح ما بين 50 إلي 100 بليون دولار.

وثانيا: تثير الصفقة حساسية الولايات المتحدة في ظل سياستها الراهنة الرامية إلي تشديد الخناق علي طهران ومنعها من اقتناء كل ما يعزز قوة نظامها. ولعل ما يقلق واشنطن أكثر أن الطرف الآخر في الصفقة هي الهند التي تتميز بإمكانيات تكنولوجية وعسكرية و نووية معترف بها قد يتسرب بعضها إلي إيران علي هامش الصفقة أو كجزء منها. والأكثر إثارة أن هذا كله يجري في وقت بلغت فيه العلاقات الأمريكية-الهندية مرحلة غير مسبوقة من التعاون والتفاهم و الشراكة الاستراتيجية لكن مع شيء من الامتعاض من قبل نيودلهي حيال الدعم الأمريكي المتواصل للنظام الباكستاني تحت يافطة الحرب علي الإرهاب، وشيء من التحفظ إزاء تعامل واشنطن الفج مع بعض القضايا الإقليمية.

وثالثا: فان الصفقة لا بد و أن تثير إسرائيل التي تحتفظ منذ بعض الوقت بعلاقات تعاون امني و عسكري وتكنولوجي مع نيودلهي، فرضتها مصلحتهما المشتركة في مواجهة التيارات الأصولية الجهادية. ومبعث قلق إسرائيل هنا مشابه للقلق الأمريكي و يتمحور حول الخوف من تعزز قوة ونفوذ النظام الإيراني الذي تعتبره تل أبيب عدوا رئيسيا لها في المنطقة و محرضا ضدها و خطرا محتملا علي أمنها.

ورابعا: من الطبيعي أن تنظر باكستان إلي الصفقة بعين الريبة و الشك استنادا إلي قاعدة أن كل ما يعزز النفوذ الإقليمي لغريمتها الهندية و يمنحها الأفضلية هو بمثابة خسارة لها. لكن الخسارة هذه المرة أكثر ألما لأن المتسبب فيها دولة إسلامية كبيرة وجارة قريبة. والمعروف أن علاقات طهران بإسلام آباد لئن اتسمت ظاهريا بالهدوء والتعاون فان من مظاهرها الخفية انعدام الثقة كنتيجة للتباين المذهبي والتحالف العسكري الباكستاني-الأمريكي ناهيك عن دور باكستان القديم في خلق و دعم نظام طالبان الأفغاني المعادي للشيعة. و لا حاجة لنا هنا للتذكير بأن طهران وعلي خلفية هذه العوامل انفردت في منظمة المؤتمر الإسلامي وخارجها بمواقف إزاء قضية كشمير كانت اقرب إلي الرؤي الهندية منها إلي الرؤي الباكستانية، وهو ما ساهم في التقارب الهندي-الإيراني.

و أخيرا فقد تولد الصفقة و ما يحتمل أن يكون وراءها حالة من عدم الارتياح في دول منظومة التعاون الخليجي التي تستضيف نحو 3.5 مليون عامل هندي و ترتبط بعلاقات تاريخية طويلة مع الهند و تعمل لإطلاق منطقة تجارة حرة مع الأخيرة علي نحو ما اتفق عليه من خطوات اقتصادية تمهيدية في أغسطس الماضي، بل التي سمت كبري دولها (المملكة العربية السعودية) مؤخرا ولأول مرة في تاريخ سياساتها الخارجية الهند بالاسم كشريكة إلي جانب الصين في حماية امن منطقة الخليج. ذلك أن تحركات إيران لا تزال تثير قلق هذه الدول رغم كل التطورات الايجابية التي حدثت علي صعيد العلاقات البينية بسبب مواصلتها لاحتلال الجزر الإماراتية و مساعيها لامتلاك السلاح النووي و تدخلاتها في الشأن العراقي، ناهيك عن إثارتها من وقت إلي آخر لمسألة فارسية الخليج علي نحو ما حدث مؤخرا.

والسؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا العرض هو كيف ستتعامل نيودلهي مع مشهد كهذا بالغ التعقيد و تتشابك فيه علاقات ومصالح أطراف عدة. لا شك أن البرغماتية و المرونة التي تميزت بهما السياسة الخارجية الهندية هما اليوم أمام امتحان صعب. وسوف يكون مدهشا لو استطاعت الدبلوماسية الهندية أن تحصل علي كل ما تريد من كل الأطراف دون أن تغضب أحدا.

يقول الهنود في معرض ردهم علي ما أثارته صفقتهم الأخيرة مع إيران من قلق، انه كلما قوي حضورهم علي الساحة الإيرانية، ازدادت قدرتهم علي تليين مواقف النظام الإيراني و تحجيم اندفاعاته الخطرة من جهة وعلي تقريب وجهات النظر ما بين طهران و خصومها الإقليميين و الدوليين من جهة أخري. وهذه أيضا سوف تحسب للدبلوماسية الهندية كعمل مدهش لو استطاعت إثباتها عمليا.