عمان - ناجح حسن - «وليمة صيد» احدث افلام المخرج السوري نبيل المالح الذي غاب فترة ليست بالقصيرة عن السينما، فقد انتهى المالح منذ ثلاثة اشهر من تصوير عمله السينمائي الجديد الضخم الانتاج والذي حققه لحساب احدى جهات الانتاج السينمائي في بريطانيا واختار ممثلين من السينما البريطانية وعشرات الممثلين من سوريا ولبنان وصور الفيلم بأكمله ما بين سوريا ولبنان رغم حكايته التي تدور في لبنان، ولم يرغب المالح في اكثر من لقاء صحفي عرض فيه تجربته السينمائية الجديدة ان يقول الكثير عن مضمون فيلمه ريثما تبدأ اولى عروضه بالصالات البريطانية في الفترة القريبة القادمة، نظرا لما يشتمل عليه العمل من حبكة درامية صورت بقالب من البوليسي التشويقي المطعم باحداث عصيبة تعيشها منطقة الشرق الاوسط في اكثر من منحى سياسي واجتماعي وثقافي، والفيلم ناطق بأكمله باللغة الانجليزية.
مسيرة المخرج نبيل المالح المتميزة في السينما العربية الجديدة كانت قد تبلورت عقب عودته من دراسة الاخراج السينمائي في تشيكوسلوفاكيا (سابقا) وانجازاته لسلسلة من الافلام القصيرة: «ايقاع دمشقي»، «نابالم» اضافة الى عدد من الافلام الروائية الطويلة التي جابت اركان المعمورة وهي على التوالي: «الفهد» 1972، «غوار جيمس بوند» 1973، «السيد التقدمي» 1974، و«بقايا صور» 1980، و«كومبارس» الذي انجزه عام 1994.
يتناول فيلم «الفهد» حقبة زمنية عصيبة عاشتها سوريا في عهد الاقطاع من خلال نموذج الفلاح البسيط الذي تمرد دون وعي سياسي متكامل على سلطة الآغا، سليل الاستعمار ووريثة بالنهب والاستغلال، حيث يجد نفسه في مواجهة محتومة مع الدرك ورجال الاغا الاقطاعي ولا يسعه الا ان يمضي في هذه المواجهة التي هي محكومة بالفشل وبالتالي موته الاكيد، لان هذا هو قدر البطولة الفردية، وهكذا كان حين سيق البطل/الفلاح الذي يدعى (ابو علي - الفهد) بعد سلسلة من المطاردات والمواجهات الى حبل المشنقة كدلالة حتمية على مصير البطولة الفردية، لكن الأمل كان يكمن في عيون الجموع التي شهدت موته وربما هي تتهيأ لنهضتها القادمة التي لا بد منها.
شكل فيلم «الفهد» محاولة اولى لاقتراح شكل جديد من السينما السورية لها خصوصيتها وتمايزها، وحقق بذلك جملة من الاطراءات والاعجاب والجدل اضافة الى نيله اكثر من جائزة على مستوى التصوير والاخراج والتمثيل في مهرجانات عربية ودولية، الى جانب تحقيقه نجاحات واسعة على صعيد شباك التذاكر بخلاف مثيله من الافلام التي ينجزها القطاع العام.
يطرح فيلم «الفهد» المستمدة قصته من عمل ادبي كتبه الروائي حيدر حيدر.
حاز فيلم «الفهد» على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان دمشق الدولي لسينما الشباب عام (1972) مناصفة مع فيلم «وشمة» المغربي وجائزة تقديرية اخرى من مهرجان كارلو فيفاري بتشيكوسلوفاكيا في العام ذاته.
ويروي فيلم «السيد التقدمي» الذي حققه المالح عام 1974، عبر انتاج القطاع العام قصة صحفي شاب يسعى الى ادانة وفضح احد ابناء الطبقة الثرية المترفة الذين يدعون النضال والتقدمية، ويحاول الصحفي في سبيل ذلك الحصول على وثائق ادانة البرجوازي، فيلجأ الاخير الى توريط الصحفي في جريمة كان هو قد ارتكبها ويحاول بعد ذلك مساومة الصحفي لاعتقاده بوجود صور ووثائق تدينه لديه، يتمكن الصحفي بالتالي على الحصول على تلك الوثائق من سكرتيرة الرجل الانتهازي، اذ يلجأ الى خدعة تمكنه من الحصول على وثائق الادانة.
يبين فيلم «السيد التقدمي» فساد شريحة اجتماعية استأثرت بالنفوذ والسلطة من خلال ممارساتها الخاطئة دون ان يحدد البيئة او المجتمع الذي تنحدر منه، فالموضوع كان المخرج قد اقتبسه عن رواية اجنبية للكاتب موريس ويست تحمل عنوان «كشف الحقيقة» وكانت قد حولت في زمن سابق الى فيلم اجنبي.
ان قيمة فيلم «السيد التقدمي» تتأتى ليس من كونه عملا جريئا يفضح الفساد المستشري في التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بتفرعاتها ودلالاتها ومؤسساتها القائمة او من تميزه الفني وقدرته على التنبؤ والتواصل الفعال مع الواقع المعاصر فحسب، بل تكمن في محصلة كل هذه العناصر معا رغم سلبية الصورة، وذلك التوهج والاحساس بالأمل.
وتبدع كاميرا جورج لطفي الخوري في اقتناص لقطاتها بشكل متميز وآخاذ، واسهمت موسيقى سهيل عرفة بذكاء ملحوظ في اثراء بعض مواقف الفيلم بشكل درامي مقنع.
اثبت المالح ايضا بفيلمه هذا بانه موهبة سينمائية طيبة لما تحمله من قيمة فنية وفكرية استطاع من خلاله ان يجد مكانه اللائق من تطور مسيرة السينما السورية بشكل خاص والسينما البديلة عموما.
اما في فيلمه «بقايا صور» المأخوذة احداثه من عمل روائي بالعنوان ذاته للاديب السوري حنا مينة فهو غني في مناظره التي غطت بقعة واسعة من البيئة السورية في اجواء فترة تاريخية يؤلف فيها سينما خاصة، لغة واسلوبا. احداثه تسري داخل بيئة فلاحية بعيدا عن اجواء المدينة. ومحوره عائلة ريفية تجبرها ظروف الفقر والحالة الاجتماعية الصعبة في بدايات القرن الماضي الى الطواف والهجرة بحثا عن حياة افضل، هذه العائلة المكونة من اب وأم وثلاثة اولاد لم تعرف للراحة طعما او الاستقرار. لكنها فجأة تجد نفسها اسيرة لسطوة رموز الاقطاع وعنف السلطة مما يحدو بعائلها الى التمرد بحثا عن العدالة فيقف وحيدا اعزل معترضا لما يراه من واقع فاسد وبائس ويسقط منذ المواجهة الاولى لكن احد ابنائه جيل المستقبل لن يتوانى عن اخذ زمام المبادرة ليحمل عن والده امنيات الظروف القاسية وغير المنصفة.
يؤكد فيلم «بقايا صور» المشع باحداثه المتعاقبة وباجوائه المبهرة التي اقتضتها طبيعة الامكنة التي صور بها على قدرة مخرجه نبيل المالح كحرفي ماهر يمتلك ناصية التعبير بالصورة دون الكلمة ويصل في محاولته هذه الى ايجاد وتأليف اسلوبية خاصة بجرأته في تحويل رواية حنا مينة الى فيلم الذي لم يكن من الممكن ترجمته الى فيلم سينمائي بسهولة لعدم قابلية مضمونها وسردها غير القابلين للصياغة السينمائية هذا الى جانب عدم توفر اي شكل للبناء الدرامي في الرواية.
في فيلمه الاخير «كومبارس» (1994) يفجر نبيل المالح اقصى طاقاته السينمائية وليقدم منحى شديد الخصوصية ليعالج مشكلة اجتماعية او ثيمة انسانية تصلح للتعبير عن الانسان في اي وقت او اي زمان او مكان فكان بمثابة الخيط السري الذي يصل بدايات نهوض سينما المؤلف وولادتها فهو يسرد حالة من القهر الطافح لدى رجل وامرأة يجمعهما مكان واحد مثقل بالهيمنة والتسلط والذي لا يستطيعان مواجهته بفعل اي شيء سوى الانصياع او ربما الخضوع للظروف القاسية التي القت بظلالها على علاقاتهما لتساهم في عزلتهما في احدى الشقق التي تم الاستعانة بها من خلال صديق لقضاء برهة من الوقت، وتكون النتيجة شحنة اخرى اضافية من العذابات والقلق والهواجس التي يفرزها الواقع بسطوته امامهما ولتكتمل عليهما حلقة الحصار حتى في عزلتهما من خلال مجرى الحياة اليومية التي يكابدانها.
فالمكان المعزول الذي يضم شخصين حيث لا دور لهما سوى في تصوير الفراغ والعزلة وانعكاسات الاحداث واستطاع ان ينسج من علاقاتهما رؤية فكرية وفنية جريئة بخلق تكوين بصري ومشاهد بالغة الثراء في المكان الضيق، ومن اللحظات السينمائية البديعة، والتي تحمل ابداعا خاصا بنبيل المالح حين يمزج بين الواقع والخيال في لحظة واحدة وتكاملت عناصر الابداع مع الفهم العميق لبطليه تواصلت فيه لقطاته وتتابعت في ايقاع محكم، حافظ عليه طوال الفيلم بسلاسة، وتوظيف شريط الصوت بشكل خلاق ومبتكر سواء في المؤتمرات الصوتية او عبر صوت الراديو في بداية الفيلم.
المخرج نبيل المالح في افلامه مجتمعة التي حظيت باعجاب النقاد والجمهور على السواء يعد مدرسة حرفية على مستوى السيناريو والحوار والاخراج وهو ايضا من نماذج الابداع الحقيقي في السينما العربية.