قفز دور ما يسمى بـ(علماء الدين) إلى مقدمة قائمة الشواخص الفاعلة سياسياً واجتماعياً في العراق بعد سقوط النظام السابق الذي اعتاد على أن يخصهم بسياسة ضاغطة ودقيقة المعالم تهدف إلى تهميشهم في حالة، وعزلهم في الحالة الثانية. بيد أن فتح الأبواب على مصراعيها لهذه الفئة المهمة من المجتمع وظهور أصوات فاعلة لم تكن معروفة من ذي قبل قد أثر بقوة لا بأس بها في عدد من المستجدات والمتغيرات التي لابد وأن تؤثر على تشكيل صورة البلد اللاحقة من ناحية، كما أنها لابد وأن تستقي ألوانها وخطوطها الرئيسية من ملامح وتراث الفترة السابقة. لذا تستحق هذه الفئة من المواطنين الرصد والدراسة بعناية نظراً لما يمكن أن تلعبه من دور شديد الحساسية في تقرير الأنماط السلوكية لفئات اجتماعية كبيرة لا ترى في سواها قيادة للدين والدولة.
ولكن قبل مراجعة دور هذه الفئة المهمة، على المرء أن يلاحظ بأن كبار المجتهدين والفقهاء في العراق غالباً ما كانوا يعترضون على إطلاق تسمية رجال الدين عليهم، ذلك أنهم يؤكدون بأن الإسلام ليس فيه رجال دين، وإن هذه التسمية أو الصفة إنما هي من آثار محاكاة وتطبيق الفكر الغربي المسيحي الذي يعتبر الدين مؤسسة والقائمين على العبادات وإدارة الكنائس والأديرة رجال دين بضمن بنية هرمية يمتطيها البابا وكبار الكرادلة والأساقفة. يؤكد كبار الفقهاء والمجتهدين بأنهم ليسوا علماء الدين بهذا المعنى المستعار من الغرب، وإنما هم فئة يمكن أن تسمى بـ(العلماء) نظراً لتبحرهم في العلوم الدينية من التفسير والدراسات القرآنية إلى علوم السنة وسواها من العلوم الإسلامية الأخرى التي تؤهلهم للإفتاء وللإجتهاد ولإصدار الأحكام في حدود المقبول في التقليد الروحي والفقهي المتوارث.
هذا من الناحية الفقهية والتاريخية صحيح. ولكن ما حدث بعد سقوط النظام السابق يشير إلى عملية مأسسة كتل من علماء الدين بضمن نوع من التحالفات أو التفاهمات التي يراد لها أن تلعب دوراً سياسياً وإجتماعياً واضحاً وطويل الأمد. تتبلور هذه الظاهرة منذ اليوم الأول بعد سقوط النظام على نحو إيجابي من ناحية، وسلبي، من الناحية الثانية. لقد لعب عدد من شباب هذه الفئة ، وبمشورة كبار العلماء، أدواراً طيبة تستحق الإطراء والإحترام على سبيل منع أو الحد من ظاهرة الفرهود (لاحظ كتاب The Farhoud of Baghdad الصادر أواسط القرن الماضي للمزيد من المعلومات حول عمليات السلب والنهب التي خُصّ بها اليهود) التي طالت مؤسسات الدولة والدوائر الحكومية، بدون تمييز بين بيوت المسؤولين السابقين وبيوت العلم، بين دوائر الأجهزة الأمنية ودوائر النفوس والتسجيل العقاري. ولن يبالغ المرء إذا ما تكهن بأنه لولا تدخل بعض علماء الدين المبدئيين وتنقلهم عبر الشوارع مع مكبرات الصوت لدعوة البسطاء إلى وقف عمليات السلب والنهب، لكانت هذه العمليات قد تفاقمت لتشمل مساكن المواطنين الأبرياء المسالمين. لذا إستحق هذا الموقف الإسلامي والوطني كل الإحترام والتقدير. كما إنهم يستحقون ماهو أكثر من ذلك حيث إستشعروا، مع سقوط النظام السابق، إحتمالات إندلاع حرب أهلية إرتدادية للإنتقام مما كان يعانيه علماء الدين الكبار في المدن الدينية المقدسة، في الكاظمية والنجف وسامراء وكربلاء، من بطش وتنكيل، لجم وبتر. لقد كان العقل، في هذه المناسبة، هو السائد، الأمر الذي جعلهم قادة حقيقيين وطبيعيين، عبر تعريفهم الرفيع لدورهم الإجتماعي من خلال مثل هذه المبادئ المبتناة على الوحدة الوطنية وعلى التئام صف المسلمين بإختلاف مذاهبهم ومشاربهم وإنتماءاتهم للمدارس الفقهية الإسلامية العتيدة.
بيد أن الإنقلاب كان هائلاً والإرتجاج إرتدادياً جباراً، حيث وقف المجتمع بأسره أمام أسئلة من نوع: مستقبل العراق ودستوره الدائم والديمقراطية ودور الدين في الدولة والمجتمع، وسواها من الأسئلة التي، لسوء الطالع، أفضت إلى تشعبات خطيرة من نوع التحصيص الطائفي وتناسبه مع أعداد السكان وطرائق تمثيله برلمانياً وحكومياً. لقد حاول العلماء الأعلام من هذه الفئة أو تلك أن ينأوا بأنفسهم عن مثل هذه القضايا الخطيرة نظراً لإستشعارهم بمديات تأثيرها السلبي وطنياً وإقليمياً، وبسبب واجبهم المقدس لمنع شق عصا المسلمين وتحريم إيذاء المسلم لأخيه المسلم، متأسّين بسيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وبسلوكيات كبار الصحابة الكرام (رضى الله عنهم). كما أنهم كانوا يأنفون من التورط في هذا النوع من المجادلات والمنافسات اللفظية الطائفية التي كانت تدفع بعض الجهات الأجنبية (ومنها بعض الأجهزة الإعلامية والفضائيات العربية) بإتجاهها، على سبيل سكب الزيت على النار وإشعال الحرب الطائفية، الأمر الذي يفسر إرتقاء الكبار من العلماء من جميع الطوائف الإسلامية عن هذا الدرك الدوني الذي يهدد الأمة وتيقناتها الروحية، متأسّين بأنموذج الإمام الغزالي، معتكفاً ومعتزلاً في صومعته.
بيد أن هذا السلوك الرفيع الذي إنتهجه هؤلاء الأبرار من الراسخين بالعلم لم يكن هو السائد، إذ ظهر البعض مما يسمى بـعلماء الدين الذين يلوحون بمثل هذه الأوراق الطائفية والشللية والحزبية، مطلقين العنان للاستقطاب الطائفي وللتحزب المتعامي عن الثوابت الوطنية والروحية. وكان دور بعض وسائل الإعلام السلبي ماثلاً للعيان حيث إنجرف عدد من هؤلاء في تيار العمل السياسي والحزبي وهم يتحدثون عن مسببات التشرذم بدلاً عن مسببات التماسك، التفتت بدلاً عن الإتساق. وهذا، بكل دقة، ما فسر ويفسر شيئاً من ردة الفعل التعميمية التي شابت عقول أعداد كبيرة من الشبيبة والنشء الذي رأى في الدور السياسي لعلماء الدين (تعميماً إعتباطياً، تعسفياً قسرياً) حالة تقود إلى تنمية الكراهية والضغائن، بغض النظر عن التنوع الجميل والذكي للشعب العراقي، وهو التنوع الموجود في بناه الدينية والروحية منذ أقدم العصور، حتى قبل ظهور الإسلام الحنيف حيث كانت بيئة الرافدين الخصبة الدائمة موائمة للجدل وللأفكار الجديدة وللتلاقحات الثقافية مع الحضارات الأخرى، الشرقية والأوروبية. لذا يجد المرء بين الفئات الشابة من هؤلاء الذين يصبّون جام غضبهم على علماء الدين، منحين عليهم بلائمة عدم الإستقرار وقيادة الجمهور إلى غياهب الحرب الأهلية، خاصة بعد ملاحظة صعود كفة الإستقطاب الطائفي فوق كفة المعتقدات والولاءات الأخرى التي كانت، حتى وقت قريب، تعد ببناء عادل لا ينتمي إلى هذه الفئة المذهبية أو تلك.
ومرة ثانية، ينبغي الإشارة إلى الدور السلبي الذي تلعبه بعض الفضائيات من أجل تنجيم علماء الدين الذين لا يخجل البعض منهم عن الحديث بالمصطلح الطائفي والفئوي الضيق لتوجيه خطابه عبر الأثير إلى أعداد هائلة من الشبان والشابات من سهلي الإنقياد (الشباب مطية الجهل، كما يقال أحياناً) لتنتقل عدوى الطائفية (غير الخجولة) إلى المدرسة والجامعة وحتى إلى الحارة والأسرة الواحدة.
لقد آن الآوان لاستنطاق حكمة العلماء الأعلام لحماية الدين ونصرة الإسلام من الطارئين عليه على سبيل إزالة كل من يريد أن يحيل الإسلام (وهو مبدأ وحدة) إلى أداة للفرقة وللتمييز وللإقتتال الداخلي، كي تعاد آصرة الأخوة الإسلامية العتيدة التي لا يمكن بدونها الحفاظ على العقائد التي خدمت أعمدة لوجود الأمة منذ هزيمة حركة الردة على أيدي الخليفة الأول أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) بعد أن حاول المرتدون شطر الإسلام وتحويله إلى سبب للتقسيم وللتشرذم. إن المسلمين بحاجة ماسة اليوم للاستنارة الحقة التي تتجاوز تحويل الإجتهادات الفقهية (وهي من عناصر قوة الإسلام وحيوية العقل المسلم) التي يمكن تلخيصها بنقاط بسيطة لا تختلف على جوهر العقيدة، إلى خنجر في خاصرة العالم الإسلامي.