الكاتب الصحافي الأميركي الشهير توماس فريدمان يطرح نظرية بشأن الوجود الأميركي في العراق يقول فيها إن المشكلة الأساسية التي تعاني منها الولايات المتحدة في العراق تتمثل في نقص المعلومات الاستخباراتية الصحيحة.
وربما نختلف مع فريدمان أو نتفق ولكن فلنسمع روايته أولاً.. فقد نجد فيها عنصر صحة.يقول هذا الكاتب المتخصص في الشؤون العربية إن المشكلة الأساسية التي واجهت القوات الأميركية منذ الوهلة الأولى لعملية الغزو .
ولا تزال تواجهها حتى اليوم ليست أسلحة الدمار الشامل، التي لم تكن موجودة أصلاً، وإنما ما أطلق عليه فريدمان «إنسان الدمار الشامل» الذي كان موجوداً بكثرة.
لكن القصة الكاملة لا تبدأ من هنا. إن بدايتها تعود إلى عهد صدام حسين خلال مرحلة العقوبات الاقتصادية الدولية التي كانت مطبقة على العراق. هنا كان منبع نموذج «إنسان الدمار الشامل».
العقوبات الاقتصادية الدولية ـ يقول فريدمان ـ استنزفت المجتمع العراقي حتى النخاع ـ وهو مجتمع كان أصلاً منهكاً وواهناً من تأثير الحرب العراقية الإيرانية لمدى ثماني سنوات وحرب تحرير الكويت بالإضافة إلى 30 عاماً من حكم صدام الاستبدادي الإجرامي.
فماذا كانت النتيجة؟
العراقيون المثقفون من ذوي المؤهلات والخبرات المهنية العالية شرعوا في الهجرة صوب الخليج وأوروبا والولايات المتحدة وكندا، وبقيت الفئات الجماهيرية من اصحاب الخلفيات التعليمية المتواضعة تطحنهم العقوبات والقمع الصدامي.
وهكذا تبلورت ظاهرة اجتماعية جديدة. ذلك ان جيوش العطالى المطحونين اتجهوا صوب الدين، ووجدت الظاهرة ترحيباً من صدام فقد تراءى له ان توجه الشباب نحو المسجد افضل من انخراطهم في تنظيمات ترمي الى قلب نظام الحكم.. ولذا شرع صدام في برنامج لبناء العديد من المساجد ساعياً بذلك الى اضفاء شرعية دينية على نظامه.
ويوجه فريدمان عند هذه النقطة خطابه الى جمهور القراء قائلاً: «انتم تعرفون كل اولئك الشباب الملثمين الذين يظهرون على شاشات فضائيات عربية من خلال اشرطة فيديو يشهرون أسلحة ويقفون فوق شخص اجنبي على وشك ان يقطعوا رأسه».
هؤلاء هم نتاج السنوات العشر الاخيرة من نظام صدام ونظام العقوبات.
أين مشكلة اميركا إذن؟
المشكلة هي ان ادارة بوش لم تكن تعلم أي شيء عن أولئك الشباب «الذين نشأوا في ظلام الصدامية والعقوبات» على حد قول فريدمان.
ويمضي فريدمان شارحاً ان هؤلاء الشباب المطحونين العاطلين هم مشكلة أميركا الاساسية اليوم، وكلهم أو بعضهم على استعداد للقيام بعمليات فدائية.
هي إذن مشكلة استخباراتية بالدرجة الاولى، لقد بقيت أجهزة الاستخبارات الاميركية معزولة عما كان يجري داخل العراق خلال المرحلة الاخيرة من حكم صدام.
بالطبع كان متاحاً لهذه الاجهزة الرصيد اليومي المتجدد من صور الاقمار الصناعية. لكن الاقمار الصناعية لا تغني شيئاً عن العنصر الاستخباراتي البشري الذي يتغلغل داخل المجتمع ويتحدث اللغة المحلية بطلاقة لا شبهة فيها.
من ناحية اخرى لا يمكن ان يقال ان مجموعات الشباب العراقيين الذين جعلهم التذمر من الحياة يتحولون صوب الدين كانوا موالين لصدام حسين أو انهم اليوم يقاتلون من اجله ولحسابه، فلربما لو أجلت الولايات المتحدة غزوها للعراق لقامت هذه المجموعات في وقت ما بالاطاحة بنظام صدام.
وفي كل الاحوال تبقى هوية المقاومة العراقية الراهنة غير واضحة تماماَ. فهل هي تنظيم ايديولوجي واحد؟ أم هي مجموعات تنظيمات لها تحالف مرحلي لكنها مختلفة ايديولوجيا؟ وهل «البعث» هو أحد هذه التنظيمات.. واذا كان الامر كذلك فهل يقاتل البعثيون من اجل صدام أم انهم اختاروا لأنفسهم قيادة بديلة؟
قصة توماس فريدمان مثيرة ولا تخلو من عنصر حقيقة لكنها تبقى ناقصة.