دمشق من ليلاس حتاحت: "هدم بيتنا اليوم، وتوفي والداي، ولم يبقَ لي سوى شريط فيديو صوّرته حين كنت صغيراً". يومها بدأت حكاية رشيد مشهراوي مع السينما. كانت الكاميرا لعبة استعارها ليوم واحد فقط. لم يعرف حينها سوى تشغيلها والتصوير بشكل عشوائي. صور العائلة، المنزل، الشارع.. وفي كل مرة كان والده يصرخ "ارمِ هذه اللعبة من يدك" ثم لا يلبث أن يتوارى حتى تظهر الكاميرا مجدداً. وفي المساء فوجئ حين شاهد الشريط المصور. وقف مذهولاً يشرح الصور بلهفة للحضور ـ وهم العائلة والجيران ـ" هذا بيتنا.. أولئك أولادي، تلك زوجتي، وهذا شارعنا..".
عرف المخرج رشيد مشهراوي الذي التقيناه في دمشق أثناء تصويره فيلمه الجديد كيف يصنع أفلاماً شبيهة بلعبه الطفولي الأول، ويجعل منها ذاكرة موثقة لا تنسى. في حين يعمل التلفزيون في صيغته الاخبارية على محوها. ما جعله يسعى دائماً الى تحرير سينماه من الصورة التلفزيونية السائدة التي تحول الحدث الى خبر يمحوه آخر، وعلى أنسنة السينما الفلسطينية بدلاً من رؤية الفلسطيني من خلال مرآة الإسرائيلي. حيث كان شعار "ثورة حتى النصر" معمولاً به. وصورة الفلسطيني مقدسة تقتصر على الجانب النضالي، لكنها منذ الثمانينات بدت أكثر عمقاً. تعرض الاشكاليات الداخلية، وانعكاس الاحتلال على الحياة وتفاصيلها.
أراد مشهراوي أن يكون للصورة الفلسطينية نمط ولون. وأن يتغذى الفيلم بالفن. فالصورة هي عوالم مجتمعة وتشكيل فني. ساعده على ذلك بدايته كفنان تشكيلي رسم لوحات وزّعها في مخيم الشاطئ في غزة حيث نشأ. وعلى الرغم من افتقاده كثيراً من أبجديات الحياة، اتجه الى السينما ليحقق هاجسه بأن يكون موجوداً، وليعود الى المخيم من خلال أفلام تتحدث عنه وعن الحصار الداخلي مثل "جواز سفر" و"الملجأ" و"عائد الى حيفا".. وإن خرج عن هذا الإطار كان الحاجز موجوداً مثل "تذكرة الى القدس".. على الرغم من ذلك نجده يصرّح "ولا مرة شعرت اني محتل في السينما، ولا وجود للحواجز والحدود في داخلي. لدينا مشكلة سياسية مع إسرائيل، وفي أوسلو سحبوا يافا وعكا وحيفا وصفد من تحت أقدامنا في غزة وأصبحنا في الهواء. لم يعد لدينا أي مبرر للتقاعس أو تعليق ما نرتكبه على شماعة الاحتلال. كل هذه المدن خاصتي. ولن أقبل بالمراهنة على ما يفعله الآخرون. أملك وسيلة سينمائية أعبر بها".
تجربة شخصية
وعلى الرغم من أن القضية عامة إلا أن مشهراوي لا يعيش صراعاً بين ذاتيته الفردية كفنان، وبين ضرورة تعامله مع هذا الواقع وعرضه. والسبب حسب قوله "اعتدت التعايش مع المواضيع المطروحة في أفلامي قبل صناعة الفيلم، ومنطلقي شخصي دائماً. أنا الذي من يافا في "دار ودور" و"الملجأ" هو ما عشته.. أما الفيلم الذي أعمل على تصويره حالياً "انتظار" فهو يمثل أمل كل فلسطيني لاجئ. أهلي ماتوا وهم ينتظرون العودة الى يافا. كبرت في مخيم اللاجئين. وكسروا لي في أوسلو وكل الاتفاقيات، حلم اسمه يافا.. حيفا وعكا.. كمية التعايش هذه تساعدني على أن أتحدث عن الفلسطيني من الداخل. ولا مرة كانوا في أفلامي (هم) بل (نحن) أو (أنا). أحاول طوال الوقت ايجاد مساعدات ومنتجين وتلفزيونات لصنع فيلم يراه العالم (عنّا)".
سمات فنية
عملياً أربعة أو خمسة مخرجين يصنعون أفلاماً يراها العالم اليوم كسينما فلسطينية. يملكون من الاسم والشهرة ما يكفي لتأمين تمويل لأفلامهم. وما تبقى من أفلام فغير مطروحة أو معروضة، تشارك فقط في المهرجانات. يُصفق لها وتعطى الجوائز كتضامن مع فلسطين، حيث تقبل بعذرها الانتاجي أو الفني أو التقني..
لا يعني هذا عدم وجود محاولة دائمة للتعويض عن ضعف الإمكانيات المادية بالغنى الفني، مما رسم للسينما الفلسطينية خطوطها المميزة وسماتها الفنية وأسلوبيتها.
لا ينكر مشهراوي اليوم وجود سينما فلسطينية مقارنة بالسينما العربية، في حين كانت عبارة عن أفلام ومخرجين، ساعدها في ذلك محاولة البحث الدائمة عن وسائل تعبير تجعل من الواقع مادة توضع في إطار سينمائي، تحديداً في الفيلم الوثائقي، حيث يشاهد المخرج الحدث من شباك منزله، ليصنع فيما بعد فيلماً يحكي هذا التحدث وليس يعيده.
في الوقت ذاته يرى مشهراوي تكراراً في الأحداث والأفلام. ويُعلق "نحكي الفيلم ذاته طوال الوقت. حتى أفلامي عبارة عن فيلم واحد، مع اختلاف المشهد. في كل مرة أنظر من زاوية مختلفة، وهذا ما جعل السخرية تدخل نسيج الأفلام الفلسطينية. سخرية مبررة من واقع سياسي، وحالة عبثية وصلنا لها. يتهمنا العالم بالمزاودة في أفلامنا. لا ينطبق هذا على العالم العربي المتعاطف بشكل خانق بعيد عن الموضوعية. يحبنا لدرجة لا تشعره بالذنب لو لم يفعل شيئاً لمصلحة القضية الفلسطينية. يصفقون للفيلم مثلاً قبل مشاهدته. لسنا أبطالاً، ولم نختر واقعنا الحالي. ما نريده هو التخلص من الاحتلال لنكون مثل الآخرين، مثل الجالسين ليصفقوا..".
من جهة أخرى يُعزى هذا الحماس الى الجرأة في الطرح، فهي صادقة أحياناً وغير متوفرة في سينمانا العربية، مما يجعلهم يشاهدون في السينما الفلسطينية ما لا يستطيعون البوح به. والشعور بالعجز جعل من الفلسطيني شعاراً للمقاومة، يغذي شيئاً ما لدى الآخرين.
ماذا بعد؟
يرى مشهراوي إسرائيل حادثة في تاريخ الشعب الفلسطيني، ربما تستمر 20 ـ 50 ـ 150 سنة، وفي فيلمه الجديد يسميها عشر ثوان، ويعتبر أن قوة الاحتمال والصمود ـ دون شعارات ـ في القدرة على التكيف مع الظرف المحيط، وصنع سينما تبقى وتستمر بعد ذهاب الاحتلال. ترصد الانكسارات وترتكز على العمق الإنساني كما يرصده في فيلم "انتظار" حيث الانتظار والصمت مجسداً على خشبة المسرح.
يعمل المخرج على تصوير فيلمه (وهو رواية له) متنقلاً من بلد الى آخر (سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين..) ليعيش أحداث فيلمه الروائي "انتظار" ويرصد بكاميراه رحلة (مخرج ومصوّر ومذيعة تلفزيون) ثلاث شخصيات تسعى الى تكوين فرقة المسرح الوطني الفلسطيني. ما يدفعهم الى القيام بجولة للحصول على الممثلين.
ومشهد الاختبار هو تمثيل الانتظار. وهنا يتلاشى الخط الفاصل بين الوهم والحقيقة، بين التمثيل والواقع، وتختلط المشاعر، ويستيقظ حلم العودة لنرى أعداداً كثيرة تتقدم ليس رغبة في التمثيل بل في رؤية الوطن الحلم. مكان غائب يراه الفلسطينيون في الخارج حلماً جميلاً رسمته الحكايات، بينما يعتبره من في الداخل واقعاً مريراً.
تتدهور الأحوال أثناء الجولة، ليُقصف المسرح في النهاية، وهذا انعكاس للحالة الفلسطينية.
تلك النهايات السوداء التي تقرأ الواقع الى حد ما، تثير عدة تساؤلات حول معنى الانتظار، وما الذي ننتظره؟ وما هو الذي سيقلب حياتنا؟ والى متى سننتظر؟ وفي نهاية الفيلم يتساءل الجميع "وبعدين"؟
يعبر مشهراوي عن وجهة نظره مضيفاً "اعتبر أننا فلسطينياً غير جاهزين حتى الآن لاستيعاب دولة مؤسسات ونظام وقانون... صفوفنا غير موحدة. لا نملك وجهة نظر مبلورة، وهذا وضع غير طبيعي بل ممنوع، إذ لدينا ما يكفي من التجربة لنعرف ما هي إسرائيل ومن هي، وما هو العالم العربي، ومن أوروبا، وأميركا.. لدينا ما يكفي لمخاطبة شعبنا كسلطة ومخاطبة العالم وعرض ما نريده والعمل عليه علناً، إما أن نعيش هكذا أو نموت سواء: سلام، أوسلو، حرب، انتفاضة.. المهم أن نعرف ماذا ننتظر".
بالتالي استطاعت السينما الفلسطينية تحقيق ولادة قوية للواقع، ورسم صورة لم يستطع السياسيون رسمها، وحققت تواصلاً مع الآخر.
ما يريده مشهراوي هو توثيق حياة فلسطينيين من الأردن، سوريا، لبنان... في فيلم واحد، والدخول الى معاناتهم، وجمع أكبر عدد من الممثلين الفلسطينيين المشاركين في الفيلم ليروا بعضهم مثل محمود مسّاد بطل الفيلم، يوسف بارود، شكران مرتجى، عرين عمري، مفيد أبو حمدة، عبد الرحمن أبو القاسم... وبما أنه يحول الأفكار الوثائقية الى أفلام روائية، يرغب بممثلين غير محترفين ليظهرهم في أفضل حالاتهم الفنية، ويجعل كل واحد منهم بطلاً في مكانه، تتنوع شخصياته عادة، من حلاق وسائق في "حتى إشعار آخر"، عامل في "الملجأ"، منظف مكاتب في "دار ودور"، عارض سينمائي في "تذكرة الى القدس"، مذيعون في "هنا صوت فلسطين"، والآن مسرحيون في انتظار وكأنه يبني مؤشراً يغطي فئات المجتمع أشبه بالموزاييك.
لعبة الأرقام
تتجه الكاميرات والأضواء دائماً الى الداخل، حتى غدونا نعرف تفاصيل حياتهم الى حد ما، رشيد مشهراوي أتى من الداخل ليسلط كاميراته على اللاجئين في الخارج ليتعرف عليهم. يدفعه الى ذلك أسباب عديدة منها رغبته في أن يكون أول من يرى الفيلم هم المفاوضون الفلسطينيون الذي سيتحدثون عن قضية اللاجئين مع الأوروبيين والأميركان والإسرائيليين، ويضيف "انهم يجهلون كل التفاصيل"، انطلت لعبة الأرقام عليهم وعلينا، بينما في السينما لا وجود للأرقام، الإنسان ليس رقماً بل حياة كاملة، والفيلم فرصة لنا كفلسطينيين وعرب لفهم ما يحدث، (نصف الأردن فلسطينيون) جملة اعتدنا عليها ولم نفكر في معناها، هذا جزء من حربي كفرد مع إسرائيل، فيلم "انتظار" حجري الذي أرميه على الاحتلال، التي تقوم عليها دولة إسرائيل، فيلم "انتظار" حجري الذي أرميه على الاحتلال، لأنهم وصلوا اليوم الى مرحلة تعيدهم الى سنة 48، وما يرتكبونه من أخطاء يجب استغلالها للحصول على نتائج سياسية. أتكلم عن العقلية الإسرائيلية وعودتها الى الوراء، فإذا كانت مهمة الجدار أن يكون حدوداً مستقبلية، فلن يوافقوا ولا نحن، ولن يحميهم أمنياً، ولن يفصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين، لأننا موجودون في الطرفين.
إذاً لديهم مشكلة، حدود غير واضحة ومطاطية من كل الجهات مع مصر، الأردن، سوريا، لبنان، ومع فلسطين..".
لم يكن توقيت فيلم "انتظار" عشوائياً، أو صدفة، بل موجه من قبل مخرجه رشيد مشهراوي، الذي فضّل بيع الفيلم الى قناة etra الفرنسية والألمانية، قبل عرضه في صالات السينما، ليضمن ملايين المشاهدين بدلاً من الأرباح المادية، إضافة الى عرضه في المهرجانات العالمية.
ينهي مشهراوي حواره قائلاً: "سأكرس موضوعي وأفجر قضية اللاجئين الذين هم (أنا)".