أسفرت الانتخابات الرئاسية في فلسطين عن فوز رئيس منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) بأغلبية 62،32%، أي بالأغلبية التي يحصل عليها الفائز في النظم الديمقراطية. لم يحصل أبو مازن على نسبة 99 % بزائد بعض الكسور كما كان يجري في النظم الشمولية البائدة، ولم يكن فيها المرشح الوحيد، بل واجهه ستة مرشحين كان لبعضهم رصيد شعبي وألقاب جامعية وبرامج مخالفة لنهجه وأسلوب تعامله مع القضية الفلسطينية وخلاف معه حول طبيعة المفاوضات التي ستجري بينه وبين الوزير الأول “الإسرائيلي”. كان أمام الناخب الفلسطيني خيارات مختلفة، واختارت الأغلبية الشعبية نهج أبومازن وزكّت أسلوب تعامله مع “العدو الصهيوني”. وكل ذلك يؤكد أن العملية الانتخابية كانت شفافة ديمقراطية حرة نزيهة. وقد شهد لها بذلك مختلف وفود المراقبين الدوليين الذين رصدوا العملية عن قرب وتتبعوها مرحلة فأخرى، ولم يلاحظوا أنها مسها التلاعب أو التزوير.
وتميزت المراقبة الدولية للانتخابات الفلسطينية بحضور شخصيات عالمية مرموقة انتدبتهم 66 دولة، كان من بينها الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، والوزير الأول الفرنسي السابق ميشيل روكار، والمرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة جون كيري، وخافيير سولانا عن الاتحاد الأوروبي، وشخصيات أخرى من روسيا الاتحادية، أو أفارقة أو عرب، ووفد عن الجامعة العربية. وهذا الحضور النوعي المكثف يشير إلى اهتمام العالم البالغ بقضية الصراع العربي “الإسرائيلي”، وحرصه على وضع حد لمسلسل الحروب العدوانية التي شنتها “إسرائيل” على العرب طيلة ما ينيف على نصف قرن، وتطلعه إلى إقامة سلام حقيقي غير مغشوش في المنطقة.
والمهم ليس هو عدد الوفود المراقِبة، بل إجماعها على نزاهة الانتخابات وسلامتها، وعلى الاعتراف بقدرة شعب فلسطين على الاضطلاع بمسؤولية الحكم في غيبة دولته التي يتطلع إلى إقامتها.
لم تكن هذه الانتخابات في نظر الشعب الفلسطيني لاختيار رئيس السلطة الفلسطينية، بل لرئيس دولة فلسطين الحرة المستقلة التي تقوم على حدود ما قبل حرب 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. والناخب الفلسطيني لم يكن مواطن السلطة الفلسطينية، بل مواطن الدولة الفلسطينية. إن كلمة السلطة الفلسطينية جزء من تركة المرحوم أوسلو التي أفضت إلى ما قدمت بعد أن اغتالها شارون. كل مواطن فلسطيني كان يضع في الصندوق ورقة الإعلان عن الدولة الفلسطينية المتمثلة في وجود وعمل مؤسساتها الدستورية من حكومة، وبرلمان تشريعي منتخب، يسائل الحكومة ويراقبها، ويستحضر في ذاكرته رئيس الدولة المرحوم ياسر عرفات الذي أعلنت صناديق الاقتراع عن اسم خلفه في شخص أبومازن بوصفه امتدادا لعرفات. أليس أن برنامج أبومازن الذي زكاه الاقتراع العام هو برنامج الرئيس الراحل: إقامة الدولة الفلسطينية على الحدود التي رسمتها لها مقررات الشرعية الدولية لتعيش جنبا إلى جنب مع “إسرائيل” التي رسمت حدودها أيضا المقررات الدولية نفسها؟
لم يصوت الناخب لشخص أبومازن بقدر ما صوت لبرنامجه الهادف إلى تحقيق السلام، والذي يعتمد الأسلوب السياسي لفك اشتباك الصراع وطي الماضي والانفتاح على المستقبل. وقد تبيّن أن الناخب الفلسطيني على اختلاف توجهاته كان يعي حقيقة وضع ورقته في الصندوق، فقد صرح عدد من الناخبين الذين استجوبهم الإعلام بقولهم :”جئنا لنشارك في صنع القرار السياسي”.
ومع ذلك فحسن اختيار منظمة التحرير الفلسطينية لشخص أبومازن كان وراء فوزه. فللرجل رصيد شعبي لا ينكره أحد. واسمه ظل مقترنا بحركة النضال الفلسطيني منذ نشأتها وممتدا ذكرُه إلى اليوم، ونزاهته ماديا ومعنويا مضرب الأمثال. وقد كان بجانب الرئيس ثاني اثنين، لا يُذكر اسم عرفات إلا مقرونا باسم أبومازن، ولا يُذكر اسم أبومازن إلا معطوفا على اسم عرفات.
ذلكم في فلسطين. أما في العراق فيُنتظر إجراء انتخابات تشريعية برلمانية في أواخر هذا الشهر. وكل شيء يؤشر إلى أنها ستجري في جو مغاير لما جرت عليه انتخابات فلسطين: انتخابات فلسطين جرت تحت قيادة مؤسسات دستورية وطنية، أشرفت عليها أجهزة وطنية تمارس السيادة الوطنية على الأراضي الفلسطينية. والإجماع قائم على أن حكومة السلطة الفلسطينية قامت بإرادة الشعب الفلسطيني وحدها، ولم تستلم سلطتها من بريمر “إسرائيلي”، ولم تفرضها “إسرائيل” على شعب فلسطين. وهي تلقى القبول من لدن جميع فصائل الشعب الفلسطيني بما فيها حركات المقاومة المسلحة. وهذه الأخيرة لا تطعن في شرعية السلطة الفلسطينية، وإنما تختلف معها في أسلوب التعامل مع الاحتلال، أيتم بواسطة الحل السياسي والتفاوض على السلام، أم بوسيلة الانتفاضة المسلحة؟ وهذا بينما تعتبر بعض فصائل المقاومة المسلحة في العراق أن الحكومة القائمة في العراق غير شرعية.
أعلنت عدة أحزاب سياسية بالعراق مقاطعتها للانتخابات. وما تزال جماعة السنة الإسلامية مصرّة على مقاطعتها. وطلب عدد من الطوائف والهيئات السياسية تأجيل الانتخابات، لأنها ستجري في جو محموم لا يتمكن فيه الناخبون من التحرك نحو صناديق الاقتراع، بل يخشى فيه بعض المرشحين الإعلان عن أسمائهم خوفا على حياتهم. وعندما تصاعد عدد المقاطعين للانتخابات انحاز إلى هذا الاتجاه حتى حزب الوفاق الوطني الذي يتزعمه رئيس الحكومة المؤقتة إياد علاوي.
وصدر تصريح عن هذا الحزب يقول إنه يفكر هو أيضا في تأجيل الانتخابات. كما دعا وزير الداخلية العراقية جمهورية مصر إلى القيام بوساطة لدى الفصيلة السنية لتتراجع عن موقفها وتقبل مبدأ المشاركة في الانتخاب، وأعرب عن استعداد الحكومة العراقية حينئذ للتفاوض مع السنة على تأجيل الانتخابات إلى أجل تتفق عليه الأطراف المعارضة.
لكن الرئيس بوش أطلق مبادرة خاصة عارض فيها التأجيل، وقال إنه يرى في إجراء الانتخابات في موعدها لحظة تاريخية لا ينبغي تفويتها. ولم يسع بعد ذلك الدكتور إياد علاوي إلا أن يعود إلى التذكير بأن التأجيل غير وارد. وزاد يقول : إنه قرر تمديد حالة الطوارئ، وإن الانتخابات ستجري في نطاقها، مؤكدا أيضا على أنها لن تجري في المقاطعات العراقية المهدد أمنها. وهذه ثالثة الأثافي، لأن ذلك يعني أن الانتخابات ستكون جزئية وليست شاملة، وبالتالي غير ديمقراطية، بل مكرسة لتجزئة شعب وأرض العراق.
ماذا تعني كلمة حالة الطوارئ؟ إنها كلمة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان. لها مترادفات تجري على الألسنة. يُعبر عنها مرة باسم حالة الأحكام العُرفية، وأخرى باسم الأحكام العسكرية، وثالثة باسم الأحكام اللاقانونية. وعليها يصدق قول الشاعر العربي:
عباراتنا شتى وقبْحكَ واحدٌ
وكل إلى الوجه القبيح يُشير
إعلان حالة الطوارئ يُعبر عنها أيضا باسم إعلان حالة الحصار. وذلك يعني أن تمديد حالة الحصار سيُخضِع الشعب العراقي إلى حصارين : حصار الاحتلال العسكري الأجنبي، وحصار الشرطة والأمن والجيش العراقيين الخاضعين لأوامر الاحتلال الأجنبي.
وماذا يقصد الرئيس بوش من تعبير اللحظة التاريخية؟ هل هي لحظة العراق أو لحظة الولايات المتحدة؟ إن العراق اليوم في أخطر لحظاته. ولحظة الانتخابات ستكون عليه أشد خطورة. وهو ما توقعه الدكتور إياد علاوي نفسه. وإذا كان الرئيس الأمريكي يعني باللحظة التاريخية لحظة الولايات المتحدة، فهل يعني بها لحظة تكريس الولايات المتحدة حضورها العسكري الذي سيعزز الانتخابُ الشعبي شرعيته وسيرفع إلى سدة الحكم نفس الأشخاص الحاكمين بالعراق باسم ثالث جديد بعد أن حملوا اسم مجلس الحكم المؤقت، فمجلس الحكومة المؤقتة، لينصب على رأس العراق هذه المرة نفس الحاكمين باسم الحكومة الدائمة؟ أم يعني به لحظة رحيل جيش الاحتلال الأمريكي عن العراق وتحرير الرئيس الأمريكي من ورطة العراق وهمّ العراق؟ إذا كان ذلك هو ما قصده الرئيس الأمريكي فستكون اللحظة بكل تأكيد سعيدة في آن واحد للولايات المتحدة والعراق.
ترى ماذا يختار الدكتور إياد علاوي؟ وماذا يختار الرئيس الأمريكي بوش؟