أنقرة - يوسف الشريف: حملت زيارة وزير الخارجية التركي عبدالله غل الأخيرة الى اسرائيل والأراضي الفلسطينية والأردن الكثير من الرسائل والاشارات المبطنة والصريحة التي قد تصعب ملاحظتها او استيعابها بسهولة، لأنها، ببساطة، جاءت بلغة جديدة مختلفة عما الفوا سماعه من تركيا في ما يتعلق بدورها في الشرق الاوسط وعلاقتها مع اسرائيل. زيارة غل بدت سلسة وناجحة على صعيد الملفات الثلاثة الرئيسة التي تناولتها: العلاقات مع اسرائيل، ودعم الانتخابات الفلسطينية وتحريك عملية السلام، وأخيراً ملف العراق الذي تم بحثه في اجتماع وزراء خارجية دول جوار العراق في عمان.
زيارة غل لاسرائيل جاءت بعد رفض حكومة «العدالة والتنمية» تلبية دعوات متكررة من الدولة العبرية العام الماضي لزيارة تل ابيب من دون اللقاء بالرئيس الراحل ياسر عرفات، وهو ما أصرت عليه أنقرة. وكاد الربيع الماضي يشهد تفاهماً بين تركيا واسرائيل على زيارة لغل تشمل اسرائيل والأراضي الفلسطينية على ان تفصل بينهما زيارة ليوم واحد الى عمان من أجل تجاوز شرط آرييل شارون الذي كان يرفض اللقاء بأي مسؤول اجنبي يلتقي عرفات خلال الزيارة نفسها. الا ان اغتيال الشيخ أحمد ياسين احبط الفكرة، ووصف رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان عملية الاغتيال بارهاب الدولة،مما وتر العلاقات في شكل غير معهود.
ووفر رحيل عرفات على الطرفين الحرج واتاح للديبلوماسية التركية فرصة القيام بالزيارة المؤجلة، التي تزامن توقيتها عشية الانتخابات الفلسطينية، لتتوافق مع سياسة تركية جديدة تسعى الى تشجيع عملية الاصلاح والديموقراطية في المنطقة. أما على الصعيد الاسرائيلي فقد حرص غل على اعطاء اشارات ديبلوماسية بدت بسيطة لكنها ذات دلالة كبيرة مفادها انه جاء ليضع اطاراً جديداً لعلاقات اكثر توازناً مع اسرائيل، وان تحسين العلاقات بين انقرة وتل ابيب لن يكون على حساب الدعم التركي للقضية الفلسطينية. هذه الاشارات تبدّت في الاصرار التركي على أن تبدأ الزيارة بالجانب الفلسطيني قبل اسرائيل، وحرصت الخارجية التركية على هذا الترتيب في كل بياناتها المتعلقة بالزيارة، كما حرص غل على زيارة القنصلية التركية في القدس الشرقية التي تتابع الشأن الفلسطيني اولاً، والصلاة في الحرم القدسي الشريف قبل ان يزور المسؤولين الاسرائيليين، وهو رفض مرافقة الامن الاسرائيلي له خلال زيارة المسجد او الدخول اليه من باب حائط البراق (المبكى)، واستقل سيارة القنصلية التركية رافضاً ركوب سيارة تحمل علم اسرائيل في طريقه الى الحرم الشريف. وعلى رغم الاصرار الاسرائيلي رفض غل القاء كلمة في الكنيست الاسرائيلية بعدما كان ألقى كلمة في المجلس التشريعي الفلسطيني.
وتعتقد حكومة العدالة والتنمية بأن التطور الكبير الذي غشي العلاقات التركية - الاسرائيلية عام 1996 وضع اطاراً غير صحي للعلاقة بين البلدين، خصوصاً ان الأمور سارت نحو تحالف ثلاثي اميركي - تركي - اسرائيلي، وهو ما ادى الى عزلة أنقرة عن جوارها العربي والاسلامي. واذا كانت تركيا تذرعت للدخول في ذلك الحلف في حينه بزيادة الضغط على دمشق من اجل طرد زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان من اراضيها وبحاجتها الى دعم اللوبي اليهودي في الكونغرس الاميركي في مقابل اللوبيين الارمني واليوناني، فإن هذه الذرائع انتفت بعد طي صفحة حزب العمال الكردستاني مع سورية والتقدم الكبير في العلاقات مع دمشق، وبعدما انتزعت تركيا من الاتحاد الأوروبي تحديد موعد لبدء مفاوضات الانضمام.
وتحاول السياسة الخارجية التركية منذ فترة اعلان تفريقها بين التعاطف مع قضايا اليهود كطائفة دينية في العالم مما يكسبها رضى اللوبي اليهودي في الكونغرس، وبين دعم الموقف الاسرائيلي في قضية الشرق الاوسط. ومثالاً على ذلك وافقت أنقرة على المشاركة في احتفالات الامم المتحدة بمرور 60 عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية المحرقةالنازية، والمقررة بين 25 و27 الشهر الجاري في بولندا، الا انها ترفض دعم خطة فك الارتباط الاسرائيلية الا اذا جاءت في اطار خريطة الطريق وتنفيذ قرارات الامم المتحدة، كما ترفض التوجه الاسرائيلي بتجاهل المسار السوري وتصر على ان السلام لا يتجزأ في المنطقة.
السياسة الخارجية الجديدة لتركيا التي بدأت مع وصول حزب «العدالة والتنمية» الى الحكم، مبنية على تحسين العلاقات مع الجوار والاندماج في تكتلات اقليمية، وهو ما لا يتناسب مع التصور القديم للعلاقة التحالفية مع اسرائيل والذي عزل تركيا عن محيطها. وبالتالي فإن ما حاول غل ان يجسده في زيارته لتل ابيب هو تعديل طبيعة العلاقات وحدودها، الى علاقة ندية وحسن جوار، مع ربط تطورها بمدى تقدم عملية السلام، ليس مع الفلسطينيين فحسب وانما مع العرب كافة. وفي هذا الاطار فان الحديث عن تسليم سورية رفاة الجاسوس الاسرائيلي ايليا كوهين الى اسرائيل جاء كاحدى النقاط التي قد تساعد في تحريك العملية السلمية، ولم يكن، كما صور الاعلام التركي، القضية الاساسية للزيارة. اذ ان الدور الذي تفكر فيه انقرة في الشرق الاوسط اكبر بالتأكيد من دور ساعي البريد.
وهنا ينبغي التوقف عند الطرح التركي الجديد لتناول قضية الشرق الاوسط. فحكومة «العدالة والتنمية» اتبعت وتتبع في مفاوضاتها مع اوروبا فلسفة جديدة في التفاوض أساسها الوصول الى حل وسط مع جار لا غنى عنه، بدلاً من مبدأ الربح والخســــارة مع عـدو، وهي فلسفة تسامح وتعايش نجحت في تغيير صورة تركيا والمفاوض التركي لدى اوروبا ومسؤوليها. هذا المبدأ هو ما تحاول تركيا طرحه على الشرق الاوسط واقناع اسرائيل به، وهو ما قصده غل في كلمته امام المجلس التشريعي الفلسطيني عندما أكد ان التعايش وحسن الجوار هو قدر الشعبين الفلسطيني و الاسرائيلي و ليس الانفصال عبر حواجز وجدران.
وسواء لقيت هذه الفلسفة صدى لدى اطراف الصراع ام كانت محل استخفاف وازدراء، فان ذلك لا يقلل من شأن السياسة التركية التي تستشف عودة المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وتسعى الى ان تكون في الصورة وأن تحجز مقعداً لها في قطار السلام حتى قبل أن ينطلق. وفي هذا السياق يأتي الحديث عن التحضير لزيارة اقليمية يقوم بها اردوغان تشمل اسرائيل ودولاً عربية الربيع المقبل، وعن ان الزيارة لتل ابيب ينبغي ألا تكون «مجانية» وان رئيس الوزراء التركي يجب أن يحصل من اسرائيل على ثمن سياسي يصب في مصلحة دعم مسيرة السلام.
الا ان هذا التحرك التركي، على ايجابيته، الا ان تحقيقه لاي انجاز يبقى رهناً بالموقف الاميركي من هذا الدور والهامش الذي قد تسمح واشنطن لأنقرة بالتحرك ضمنه. وعلى رغم ذلك، فان مما لا شك فيه ان ارسال الاشارات التركية يستند الى موقف اميركي لا يمكن لواشنطن التراجع عنه. فتركيا هي «الشريــــك الديموقراطي» للدول الصناعية السبع التي تعمل من اجل نشر الاصلاح في الشرق الاوسط، وبالتالي فان ما تقدمه أنقرة من دعم للانتخابات الفلسطينية وللاصلاحات في السلطة الفلسطينية، من خلال ما اعلن عنه غل خلال تدريب وتقديم الخبرات والدعم الاقتصادي والاجتماعي للفلسطينيين، امر لا تملك واشنطن الا ان تدعمه.
كما ان الحديث الاميركي المتكرر عن كون تركيا نموذجاً للاسلام المعتدل والديمقراطي يدحض أي احتمال باعتراض أميركي على تدخل تركيا في ملف الشرق الاوسط. كما تراهن تركيا على ان تكون الانتخابات الفلسطينية بمثابة شرارة تنطلق منها عملية الاصلاح في المنطقة بما يقطع الطريق على الفرضية الاميركية القائلة بفرض اصلاح من الخارج يبدأ من العراق، ومن دون تحقيق تقدم في عملية السلام.
في عمان كان غل على موعد آخر مع الملف العراقي. وعلى رغم ان الانطباع الاولي لمراقبي اجتماع دول جوار العراق كان ينحصر في ان الاجتماع يهدف الى تحقيق غرض واحد، نزولاً عند الضغط الاميركي، وهو دعم اجراء الانتخابات العراقية وحض كل اطياف الشعب العراقي على المشاركة فيها، الا ان البيان الختامي خرج بما هو اكثر من ذلك، وجسد التنسيق السوري - التركي - الايراني. ويتضح ذلك من الفقرة التي ربطت خيار الفيديرالية بموافقة كل الشعب العراقي رداً على مساعي بعض الفصائل الكردية للانفصال.
وفي الاجمال فان زيارة الايام الثلاثة لغل خرجت بنتائج مثمرة وان كانت صامتة، وأسست لدور اكثر فاعلية لتركيا في المنطقة، ولعلها تمسح من الاذهان العربية ما رسخ من دور تركي انطبع في المنطقة بالتحالف مع اميركا واسرائيل.