سألني صديق هذا السؤال: «لماذا لا ترد على بريد القراء؟!»، قلت له انني لن ارد حتى يتبع بريد القراء قواعد الكتابة التي تؤهله للنشر، كذلك تجعله مستحقا للرد، قال: وما هي هذه المؤهلات؟! قلت: من المتعارف عليه في كل الصحف التي تحترم نفسها وتحترم قراءها ان يكون للكاتب في صفحة البريد اسم واضح، فلا يقبل مطلقا ان تنشر صحيفة أسماء حركية، كأبي حفص وأبي حمزة، إلا اذا كان لدى المحرر الاسماء الحقيقية ولديه اسباب مقبولة لاخفائها حرصا على القارئ، هذه هي القاعدة الاولى، اما القاعدة الثانية فهي ان يترك كاتب البريد عند الصحيفة عنوان سكنه، كذلك عنوان عمله، ورقم هاتفه الثابت، في البيت او العمل، ليتيح للمحرر في الصحيفة التأكد من هويته، لاحظ ان المطلوب هو الهاتف الثابت وليس المحمول او البريد الإلكتروني، لأن السؤال هنا مرتبط بثقة الصحيفة وعلاقتها بقرائها، فلا بد للصحيفة ان تتأكد من ان كاتب البريد شخص حقيقي له عنوان حقيقي ومكان عمل حقيقي، وقادر على تحمل مسؤولية ما يقول: هذه هي بداية الدقة والتحقق من المعلومات التي هي الاصل في العمل الصحافي.
رغم محبتي لبعض ما يكتب حول مقالاتي في «الشرق الاوسط» من تعليقات، او حتى بغضي وعدم سروري تجاه بعضها، إلا ان الردود حتى هذه اللحظة لم تلتزم بالقواعد التي تجعلني اتحقق من هوية الكاتب للتواصل معه كشخص حقيقي، فمثلا هناك من الكتاب من يقول انه فلان الفلاني، وعنوانه او جنسيته هو الوطن العربي، او مواطن عربي. بصراحة، العروبة ليست مواطنة، فالمواطنة مفهوم قانوني، ولو كان هناك شيء اسمه مواطن عربي، لانتفت وثائق السفر بين مصر والسعودية وليبيا وعمان والسودان الخ.. ولكن بما ان هذه الحدود موجودة، فإن أصر كاتب البريد ان يسمي نفسه مواطنا، فلا بد ان يقول لنا من اي بلد هو او هي، حتى نعرف خلفية القول والكاتب.
فلا يقبل في اي صحيفة تحترم نفسها، ان يكون توقيع القارئ وهميا مثل «فلان... مواطن عربي». ومن باب اولى ايضا ألا يكون الموضوع مضاعفا، مثل «أبو حفص ـ مواطن عربي»، هنا ندخل في عالم الوهم بداية من الاسم وحتى جنسية الكاتب، فلا ابو حفص بتوقيع يقبل في بريد القراء، او الوطن العربي بعنوان مقبول ايضا.
استمرار هذه الظاهرة في صحيفة كبرى كصحيفة «الشرق الأوسط»، يدخلنا في عالم «القاعدة وعالم الشخصيات الوهمية او الذوات المتضخمة، مثل ابو حمزة.. وابو قتادة.. الخ».
ما كنت لأقدم نقدا كهذا للبريد، لولا ان «الشرق الأوسط» في ثوبها الجديد شجعتني على ذلك، فقد سعدت كثيرا عندما قامت الجريدة بنشر نقد ذاتي في عمود اسبوعي تحت مسمى «المراقب الصحافي»، وهي سابقة غير معروفة في الصحافة العربية ان تقوم صحيفة بنقد نفسها في عمود اسبوعي جاد كهذا، سابقة محمودة نتمنى لو تبنتها المطبوعات المشابهة في العالم العربي، وكذلك الفضائيات.
«الشرق الأوسط» كصحيفة وصلت الى درجة من الثقة والنضج، والتي معها لا يخاف محرروها من ان يقولوا انهم اخطأوا في اختيار عنوان، او حتى في تغطية حدث. انني اعتبر عمود «المراقب الصحافي» هو علامة على طريق «الصحافة المحترفة».
«الشرق الاوسط» ايضا بدأت في تقديم صفحة اعلام متميزة، بها تقويم للذات وللآخر، حسب قواعد المهنة المتعارف عليها عالميا، اذن كيف يكون هناك كل هذا التقدم في الصفحات المختلفة، ويبقى موضوع بريد القراء هو عورة الصحيفة الوحيدة التي لا تتبع قواعد المهنة واصول اللعبة؟!
ظني ان رئيس التحرير الشاب، الذي لا يعاني من عقدة «رئيس التحرير»، او الذات المنتفخة، لن يضيق صدرا بهذا النقد، لأنه انسان ولد في تجربة «الصحافة كاحتراف واحترام» وليس في تجربة رئيس التحرير المساوية لدرجة مدير عام في السلم الوظيفي الحكومي في دولة من دول العالم الثالث. كذلك ليس لدي شك في ان نائبه المشهود له بالمهنية يقبل بهذا النقد ايضا.
خلال اشهر قليلة اتخذت الصحيفة خطوات جادة تواكب ذوق القارئ الحديث ومتطلباته، فها هي تقدم تقريبا اربع صفحات جادة من ملحق حصاد الاسبوع كل يوم جمعة، في هذا الحصاد تقدم لنا الصحيفة عمودها المتميز في النقد الذاتي المعروف بالمراقب الصحافي الذي اشرت اليه سالفا، الذي هو دليل ثقة مهنية عالية قلما وجدناها في الاعلام العربي.
وفي هذا السياق وبنفس روح النقد الذاتي، اقول انني لن ارد على بريد القراء حتى اعرف من الكاتب، ومن اي بلد، حتى لا نرد على اسماء وهمية او ندخل معارك مع طواحين الهواء، وهذا لا يعني انني لا اقرأ بريد القراء، فأنا على عكس كثير من الناس، لا أبدأ قراءة الصحيفة على الورق او حتى على الإنترنت إلا من صفحة بريد القراء، ثم من هناك اتحرك في اتجاه الرأي والاخبار.
وتبقى قاعدة اخيرة وهي ان ما ينشر في بريد القراء لا بد ان يعكس روح البريد، بمعنى ان نسبة البريد المتفقة مع رأي القارئ مقاسة الى نسبة الآراء المختلفة يجب ان تكون حقيقية، فلا ننشر المديح في حالة كاتب وننسى القدح او العكس.
بريد القراء لا يقل اهمية عن عمود اي كاتب في الصحيفة، وفي الحقيقة هناك كثير من آراء القراء التي ترقى الى مستوى المقال، ربما في بعض الاحيان افضل من حالة كاتب مقيم، من كتاب بعض الصحف العربية التي يمكن تسميتهم بكتاب المقال الواحد، مجموعة من الكتاب تقرأ لهم مرة ثم تجد بقية مقالاتهم تكرارا لنفس الفكرة.
بريد القراء هو عنوان اي صحيفة، وجديته من جدية الصحيفة، وفي مراحل التطوير الكبرى، يجب الا تطغى استراتيجية التطوير على نسيان تفاصيل تبدو صغيرة، لكنها في الحقيقة هي الاصل، وحتى يلتزم البريد بقواعد المهنة، اقول انني لن ارد على بريد القراء، من اجل مزيد من التقدم لصحيفة فتحت صدرها للنقد الذاتي وتبنت الحرفية لا ارضاء العامة كشعار لها.