في الوقت الذي بات العالم مدركاً أن الولايات المتحدة ذاهبة الى استحقاق انتخابي خاطئ وملتبس في العراق، بدأ ينكشف خطأ آخر في فلسطين مع اتضاح أن ما سمي «فرصة» للسلام قد لا يكون سوى سراب أو مجرد وهم إعلامي. وحين يقول كولن باول انه منشغل بـ«ما بعد» الانتخابات في العراق، فإنه يبدو واقعياً، لكن الأكثر واقعية أنه وزير مغادر لن يكون في منصبه يوم الاقتراع، ولا يبدو أن الطاقم الجديد في الخارجية يشاطره انشغاله هذا. كذلك حين يتجول موظفون أميركيون في المنطقة ليبثوا وجهات نظر مفادها أن تغييراً مطلوباً على المستوى الاستراتيجي لتسهيل الانتقال الى مرحلة ما بعد ياسر عرفات، فإنهم يتجاهلون أن هذا التغيير مطلوب خصوصاً من جانب الولايات المتحدة واسرائيل ومن دونه لا سبيل لاقناع الفلسطينيين بالإقدام على اجراءات متوقعة منهم.
عندما أعلن جورج بوش في حزيران (يونيو) 2002 شطب عرفات مطالباً علناً بتغييره أو بتنحيه، حاول عرب وأوروبيون اظهار خطأ هذه الخطوة فاصطدموا بتعنت أميركي مما اضطرهم الى الالتفاف على الأمر عبر «خريطة الطريق»، ورد الاسرائيليون بالتفاف مضاد على الخريطة ونالوا من واشنطن تعديلات تعطل ديناميتها ودعموا ذلك بالحصول على ما أصبح يعرف بـ«وعد بوش» الذي نسف الخريطة من أساسها. آنذاك كان كل شيء يبرر بـ«وجود» عرفات ورفض الأميركيين والاسرائيليين التعامل معه. الآن تغير الوضع وأصبح محمود عباس رئيساً جديداً منتخباً، لديه توجهات مختلفة عن تلك التي اتبعها عرفات، من دون أن يعني ذلك أنه انتخب ليقدم لارييل شارون كل الهدايا التي يتوقعها من الجانب الفلسطيني. ولا شك ان الفلسطينيين الذين انتخبوا «أبو مازن» يعرفون توجهاته هذه، لكنهم مدركون ان أي رئيس منتخب محكوم باحترام حقوق الشعب الفلسطيني، وبالتالي فهو يتمتع بهامش مناورة ضيق في أي مفاوضات.
هناك منطق ومصلحة في سعي «أبو مازن» الى هدنة، كما ان هناك منطقاً ومصلحة في أن تحصل عملية عسكرية ضد جنود الاحتلال. فالاسرائيليون لم يحترموا متطلبات الحملة الانتخابية الفلسطينية، مع انهم كانوا أول المطالبين بتغيير القيادة الفلسطينية. اجتاحوا مدناً ومخيمات، واستمروا في الاغتيالات وتدمير المنازل وجرف الأراضي، وكثفوا مضايقاتهم للمرشحين والناخبين على السواء. وبذلك افتعلوا الاستفزازات والمبررات لردود الفعل الفلسطينية، فهذا هو الأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال ولن يزول إلا بزواله. هناك صراع إرادات ترسخ في السنوات الأخيرة، وحاول الاسرائيليون من خلاله فرض وضع استسلامي لا يرضاه أي فلسطيني حتى من أولئك الذين صوتوا لمحمود عباس.
كان تطبيق «خريطة الطريق» فشل أيام عرفات لأن الاسرائيليين رفضوا مبدأ التزامن والتوازي، واستبعدوا احتمال وقف متبادل لاطلاق النار، بل خربوا هدنة غير معلنة من جانب واحد، هو الفلسطيني، ليتمكنوا من الاستمرار في القتل والتدمير أملاً في الحصول على الاستسلام الناجز والواضح. هذا الوضع مرشح للتكرار في أيام «أبو مازن» طالما ان العقل الاسرائيلي المتعفن لا يزال يراوح في خياراته الارهابية ذاتها. وكما لو أن أحداً، في واشنطن أو في تل أبيب، قد تعلم شيئاً من المرحلة السابقة، فإن الأصوات البائسة نفسها ارتفعت للمطالبة بمحاصرة الرئيس الجديد، وربما باعتقاله، وطبعاً بوجوب معاقبته ومحاسبته بعد «عملية المنطار». بل ان شارون وجد من الطبيعي ان يرتكب وقاحة ارسال اثنين من الموظفين الى القاهرة للمطالبة بـ«الضغط» على «أبو مازن»!
لكن، الضغط من أجل ماذا؟ ليس هناك في واشنطن، قبل القاهرة، من يضع مجرمي الحرب الاسرائيليين أمام حقيقة الوضع المستحيل الذي صنعوه بأنفسهم. إذ انهم يطالبون السلطة الفلسطينية بما جعلوها هم عاجزة عن القيام به، وبكامل وعيهم واصرارهم. ويطالبون الأجهزة الفلسطينية بالتحرك «لمصلحتهم» بعدما ذهبوا بعيداً في إذلالها وتحديها وانتهاك هيبتها. ويطالبون بأن يكون هناك اعتراف فلسطيني مبرم بـ«حق الاسرائيليين» في استهداف المدنيين وغير المدنيين من الفلسطينيين متى شاؤوا وبأي ذريعة وحجة.
اذا كان الأميركيون صادقين فعلاً في انتهاز «الفرصة» الفلسطينية المتاحة، فإن أمامهم مشكلة: لا يمكن التعامل مع المرحلة الجديدة فلسطينياً بالأفكار والوسائل الشارونية التي اتبعت في المرحلة السابقة. ولا يمكن الضغط على الرئيس الجديد لافتعال حرب أهلية فلسطينية من أجل شارون. وإذا كان من تغيير مطلوب فلا بد أن يحصل في الجانب الأميركي - الاسرائيلي أولاً، لأن الفلسطينيين فقدوا كل إمكانات التنازل ولم يعد ممكناً خداعهم الى ما لا نهاية.
حان الوقت لفك الارتباط المصطنع والمفتعل بين «حرب الارهاب» والقضية الفلسطينية. فهذا الارتباط استغله شارون وعصابته الى أقصى حد ولم يجن منه سوى المزيد من التخريب، كما ان هذا الارتباط أعمى بصر الإدارة الأميركية وبصيرتها. بات من الضروري العودة الى حقائق الصراع إذا كانت هناك إرادة مخلصة لحله وإلا فإن عقلية «حرب الارهاب» مرشحة مجدداً لإفشال متعمد لـ«أبو مازن» كما كان افشال عرفات متعمداً لتبرير حصاره والغائه كـ«شريك» في التفاوض من أجل السلام.