في اثر الزلزال الكارثي الأعظم الذي ضرب جنوب شرق آسيا، مسبباً طوفاناً كالجبال، افترس اليابسة وأودي بحياة (165) ألفاً وملايين شردوا وأطفالا بلا مأوي ولا عائل. في اعقاب هذه الكارثة التي تعد الأسوأ في الكوارث الانسانية حيث دُمرت البنية التحتية لمدن وجزر، تقدر اضرارها بالمئة بليون دولار، تداعي العالم - حكومات ومنظمات انسانية -لمد يد العون في اكبر عملية انقاذ بشرية، وراح الجميع يعبيء طاقاته ويحشد موارده في تضامن انساني تناسي معه الجميع صدام الحضارات وصراع المصالح وتشكل -كما يقول هاشم صالح -الشرق الاوسط 8/1- ضمير عالمي كوني، حرك الشعوب في تعاطف سما فوق الاديان والقوميات. هل كان بالامكان تكوين هذا التضامن العالمي لولا العولمة الكونية التي نهاجمها؟ ومع اننا كخليجيين الأقرب ارتباطا بالآسيويين إلا اننا لم نكن علي مستوي التفاعل المطلوب كما كانت استفاقتنا متأخرة وقد أتت بعد النقد الذي وجهه منسق الاغاثة الدولية (ايغلاند) حين قال (علي الدول الخليجية أن تعطي أكثر مما تفعل، وأن تساعد خصوصا في الصومال والسودان) لقد تحول العالم الخارجي الي خلية نحل متوحدة، كما تقول سوسن الشاعر، وسائل اعلامه تنقل من خلال مراسلين متواجدين في المنطقة آخر التطورات، وفنانوه ومشاهدوه، رياضيوه واطفاله يشاركون في حملات التبرع دون تفرقة بين دين واخر -الوطن الكويتية 10/1- بينما بعض جمعياتنا تنشر اعلانا للتبرع للمسلمين من الضحايا - علي البغلي، القبس 3/1- وتصرح بعضها بأنهم سيبعثون المساعدات فقط للمسلمين - د. شملان السياسة 2/1- كيف غابت الانسانية فينا؟ اين قيم التراحم والتعاطف الانساني؟ واين كرامة الانسان التي أمرنا الله برعايتها؟ لا نخجل ان نعلن علي الملأ ان مساعداتنا للمسلمين فحسب، ثم نغضب اذا اتهمنا العالم بالتعصب والعنصرية!! علي العموم ليس هذا هو موضوعنا، الموضوع ان علماء العالم انشغلوا بشرح اسباب الكارثة من ان الزلزال نتج بسبب تجمع طاقة هائلة في باطن الارض احدثت انكسارا في القشرة ولأنه حصل في عمق المحيط فقد تسبب في ذلك المد البحري المدمر، ووضح - خالص جلبي- بأن منطقة الكارثة تسمي (مثلث الموت) وقد ابتلعت المئات من السفن حتي كشف عالم المحيطات - ديفيد ميرنر- عن ظاهرة (تسونامي) المرعبة والتي تحرك الامواج بسرعة 800 كم لتبتلع اليابسة -الشرق الاوسط 31/12- اي ان هناك اساسا علميا معروفا للكارثة ولذلك اجتمعت قمة جاكرتا من 26 دولة ومنظمة دولية لإقامة نظام للانذار المبكر من امواج المد في المحيط الهندي تفاديا لأية كوارث مماثلة، هكذا يعالج العالم مشاكله -علميا وعقلانيا- فماذا فعلنا؟ لقد انشغل مشايخنا ب(هل هذا الزلزال تعبير عن غضب الله وعقوبته لمن أفسد وكفر وطغي وبغي أم انه ظاهرة طبيعية لا علاقة لها بايمان أو كفر؟) فذهب عميد للشريعة -واعد- الي انه عقوبة للجزر الإباحية التي دمرت، واكد استاذ ازهري بأنه غضب من الله لطغيان الانسان - القبس 28/12- وتساءل الأصولي اللندي- السباعي- ساخرا: هل كانت تلك المدن صوامع وبيعا وثغورا للمجاهدين؟ وخطب عالم دين معروف في دولة خليجية، ان توافق الكارثة مع اعياد الميلاد وما يصاحبها من مجون وفسق دليل علي غضب الله علي المسيحيين، ووضح اسلامي اردني بأنه عقاب رباني لتعاونهم مع القوي الكافرة لضرب المجاهدين ولعدم تطبيق الشريعة -عبدالله المدني،الراية 9/1- يا حسرة علي علم وتعليم امتداد (50) سنة، هذا ثمرته!! وذلك حصاده، عقلية خرافية جاهلة، لو كان تطبيق الشريعة مانعا لغضب الله وحاميا عن الكوارث فلِمَ قطع الله دابر طالبان وشتت شملهم مع انهم النموذج الحلم للجهاديين؟! لقد فند علماؤنا تلك الترهات،فقال د. محمد رأفت عثمان: -العميد السابق للشريعة- (ان العقوبات الإلهية كانت لأقوام معينين كذبت رسلها وتحدتها فأنزل الله عقوبته بهم، وأنه بعد رسالة محمد صلي الله عليه وسلم ترك المولي للإنسان حرية الاختيار، والعقوبات تكون في الآخرة)، واكد الشيخ محمود عاشور -وكيل الازهر السابق - (إن الظواهر الطبيعية تسير وفق قوانين لا علاقة لها بالعقاب، ولو كانت عقوبة، لعاقب الله جميع البشر) -القبس 28/12- وتساءل الشيخ محمد باقر المهري- وكيل المراجع الشيعية بالكويت- لقد مات الآلاف من المسلمين المصلين الصائمين في زلزال (بام) و(طِبس) و(قَهْرُم) الايرانية، فهل كان ذلك عقوبة؟ ولماذا لم تنزل العقوبة بإسرائيل؟
مثل هذه الآراء العقلانية تبعث الامل في نفوسنا ولكن ما مدي تأثيرها في الساحة الجماهيرية؟ ومن الذي يكسب العقول والنفوس، اصحاب الفكر التخريفي أم العقلاني؟ لطالما تساءلنا لماذا يتسيد دعاة التخريف وباعة الأوهام والشعارات ونجوم التطرف واصحاب الحناجر الغاضبة الاوساط الشعبية؟! ان مشكلة المجتمع العربي في ثقافته المتخلفة التي تتقبل الفكر التخريفي، تلك الثقافة المحكومة بتقاليد تعصبية وموروثات جاهلية بأكثر من تعاليم اسلامية وقيم وفصائل انسانية ومعارف علمية، ولا أدل علي ذلك من ان القرآن الكريم حسم هذه القضية في قوله تعالي (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم، ما ترك عليها من دابة، ولكن يؤخرهم إلي أجل مسمي) وفي اكثر من آية، ومع ذلك فإن الناس يؤمنون بالفكر الخرافي. وهذه مشكلة ثقافية مزمنة تحدث عنها الشيخ الغزالي رحمه الله. حين قال (رأيت الأمة محكومة بالاحاديث المُنكرة والشاذة، ورأيت هذه الاحاديث تطرد امامها المتواتر والصحيح كما تطرد العُملة المزيفة العُملة الصحيحة) -الطريق من هنا- ثم يضيف رحمه الله (مع ان الحديث الذي رواه الطبراني- لا تُعلموا النساء الكتابة ولا تنزلوهن الغرف- حديث مكذوب بل موضوع الا انه هو الذي حكم المجتمع الاسلامي قرونا)، -الحق المر- الخرافات هي التي تسود وتتمكن من العقول وتتغلغل في النفوس فلا عجب من هذا الانتشار الواسع لكتب السحر والعين والحسد والشعوذة حتي اصبحت تجارة رابحة والايمان بقدرة العفاريت والمسّ الشيطاني وركوب العفاريت المسلمين خاصة وحب الجنيات للبشر وزواجهن منهم والاعتقاد بقدرات الأولياء والأضرحة واقبال الفضائيات علي استضافة الفلكيين والفلكيات لاستشراف المستقبل عبر الابراج، ورغم ان الرسول حذرنا الا ان الجماهير تصدقهم وتجعل منهم نجوما وقد اصبحوا من اصحاب الملايين بترويج كتبهم، وقد اظهر استطلاع ان 70% من الشباب يلجأون للابراج لمعرفة مستقبلهم وهناك هوس نسائي لقراءة الطالع لمعرفة احوال القلب وفارس المستقبل وشريك الزواج -الحياة 4/1- ولو لم تكن الخرافة متغلغلة في البيئة المجتمعية لما صدق الناس الشيخ الزنداني من اكتشافه عقارا لعلاج فيروس (سارز) في محاضرة امام طلابه في جامعة الايمان، وكان قد اعلن -من قبل- اكتشافه علاجا للكبد الوبائي- الراية 31/5- ما علاقة الشيخ الداعية بالطب والعلاج؟! وهل طلاب تلك الجامعة يرتجي منهم اي امل في تقدم اليمن؟ ان غشا واسعا تسلل الي ثقافتنا المجتمعية جعلها تقبل خرافات وخوارق الجهاد الافغاني من محاربة الملائكة بجانب المجاهدين، والطير الأبابيل التي اسقطت الطائرات الروسية طبقا لما ذكره الشيخ عبدالله عزام- رحمه الله- في كتابه (آيات الرحمن في جهاد الافغان) - احمد العراف القبس 2/12/1- ثقافتنا مسكونة بالهواجس ونظريات المؤامرة ولذلك لا يزال الناس يصدقون ان تفجيرات السعودية والحوادث الارهابية في العراق وما حصل في طابا وتفجيرات سبتمبر وموت عرفات وحتي الضحايا الاطفال في مدرسة الشيشان، وراء كل ذلك (الموساد بن سبأ) كما يقول الذايدي -الشرق الاوسط 16/12- بالرغم من اعترافات اصحابها الصريحة، والا فهل هناك امة - غيرنا- تروج فيها الخرافة مثل خرافة التفسير لما حصل في الزلزال الاسيوي بأنه مؤامرة امريكية لضرب البنية التحتية لآسيا وذلك لشل اقتصادها عبر تجارب نووية اجرتها امريكا في اعماق المحيط الهندي!؟ وقد بلغت قوة الخرافة في العالم العربي، ان اضطر منسق الاغاثة الدولية ان يرد ساخرا (ان العلماء يعرفون حقيقة ما حدث تماما، قالوا: هذه هزة ارضية ضخمة وهناك خطر تسونامي ضخم، ولعلنا نتذكر كيف احتفينا بالنصاب الفرنسي (ميسان) صاحب كتاب (الخديعة المرعبة)، خدعنا وضحك علينا واستغل عاطفتنا ليقول لنا ما نهوي من ان امريكا خربت نفسها بنفسها في كارثة سبتمبر لتبرير هجومها علي افغانستان؟! استضفناه في فضائياتنا ومنابرنا وترجمنا كتابه وروجناه فكسب الملايين بغفلتنا وتصديقنا للأوهام ثم اختفي.
لماذا لا يتكلم الان بعد ان اعترف الرجل (بن لادن) صراحة بأنه هو المخطط والآمر؟ لماذا لا تعتذر الرموز الدينية والثقافية والسياسية - الذين ضللوا الجماهير وزيفوا وعيهم؟ اين مصداقيتهم واين امانتهم واين مسؤوليتهم؟ لقد انكشفنا امام العالم ولقد كشفتنا (تسونامي) كأصحاب فكر خرافي مضلل ومأزوم مع مجتمعه ومع العالم.