لاشك انها مفاجأة غير سارة لدعاة الحداثة اذا علموا ان نشأة الاصولية الدينية انما جاءت كرد فعل للنزعة العدوانية التى اتسمت بها تيارات الحداثة، وسعيها لخلق أنماط من التفكير والقيم الهدامة للتراث الدينى، وما استقر فى وجدان الحرس القديم لكل دين من قوالب ثابتة، فجعلت حراس الدين يشعرون بالاغتراب، والاحساس بالضياع فى عالم يصعب التكيف معه، ولوحظ تاريخيا ان العلاقة بين الحداثة والاصولية علاقة سببية، ففى اعقاب كل موجة حداثية لابد ان تثور حركة اصولية لمقاومة شظايا الشر التى تلفظها براكين الحداثة.
لقد رصدت الباحثة الانجليزية "كارين اومسترونج" فى كتابها "معارك فى سبيل الإله" الصادر عام "2000 ترجمة فاطمة نصر ومحمد عناني" حركة الاديان الابراهيمية الثلاثة: اليهودية والمسيحية، والاسلام، والنزعات الاصولية التى انبثقت منها، فاكتشفت ان الاصولية ما قامت إلا لتواقع على اقدس القيم التى تؤمن بها والتى تعرضت للنزعات العدوانية من جانب قيادات الحداثة، وتعترف بأن المفكرين الذين استمتعوا بثمرات الحداثة ومنجزاتها، وهى منهم ـ يتعذر عليهم ان يتفهموا مدى الاحزان والآلام التى تثيرها الحداثة فى نفوس الاصوليين، لان التحديث لم يكن فى كل أشكاله تحريرا وعتقا من التخلف والجهالة والخضوع لسطوة الماضى: ولكنه تحقق كذلك عبر هجوم عدوانى على المقدسات الدينية.

*الأصولية نشأت في إسبانيا
فى رصدها لنشأة الاصولية عند اليهود، تتوقف "ارمسترونج" فى اسبانيا وعند عام 1492 ميلادية بالذات لانه العام الذى بلغ فيه الهجوم على دولة الاسلام فى الاندلس ذروته الختامية بسقوط آخر معاقل الاسلام فى غرناطة فى ايدى الاسبان الكاثوليك، بعد ان استطاع الملكان ايزابيلا وزوجها الملك فرديناند ان يضربا المعول الاخير فى ازاحة الاسلام من اوروبا، وشهد ذاك العام ثلاثة احداث كان لها تأثيرها فى التاريخ الاوروبى العام، والتاريخ الدينى بوجه خاص.
اما الحادث الاول فقد وقع فى الثانى من يناير عندما دخلت جيوش الاسبان ـ غرناطة ـ وارتفعت اعلام النصرانية على اسوار وابراج المدينة ـ الدولة ـ فدقت الاجراس فى جميع الكنائس الاوروبية ابتهاجا بزوال آخر معقل للاسلام فى اوروبا، ورأوا فى ذلك تعويضا عن الفشل الذى منيت به الجيوش الصليبية اثناء حروبها فى الشرق الاسلامى قبل قرنين، ووضع المسلمون فى اسبانيا على محك الاختيار بين اعتناق النصرانية او النجاة بانفسهم الى خارج القارة.
واما الحادث الثانى فقد وقع بعد ثلاثة شهور، ففى 31 مارس 1492م وقع الملكان ايزابيلا وفرديناند "مرسوم الطرد" ويقضى باخلاء اوروبا من اليهود، ووضعوا ـ كالمسلمين ـ امام الاختيار بين التعميد واعتناق المسيحية او الترحيل، وكان الكثيرون من اليهود قد عز عليهم فراق وطنهم فى الاندلس الاسلامية الى الحد الذى جعلهم يعتنقون المسيحية ويظلون فى اسبانيا، ولكن 80 ألف يهودى عبروا الحدود الى البرتغال، وهرب حوالى 50 ألفاً الى الامبراطورية العثمانية الاسلامية حيث قوبلوا بالترحاب الحار.
اما الحادث الثالث الذى شهده هذا العام فيتعلق باحد الاشخاص الذين حضروا الاحتلال المسيحى لغرناطة، وهو "كريستوفر كولومبوس" الذى كان يتمتع برعاية الملكين ايزابيلا وزوجها اذ قام فى اغسطس بالابحار من اسبانيا بقصد اكتشاف طريق تجارى جديد الى الهند، فانتهى به المسير الى اكتشاف الامريكيتين.

*الجانب المظلم للحداثة
فى هذه الاحداث يتجلى فى رأى الباحثة مزيج مما أتى به مطلع العصر الحديث من امجاد وضياع معا، اذ بات اهل اوروبا، على نحو ما بينت رحلة كولومبوس بوضوح وجلاء، يقفون على مشارف عالم جديد، فأخذت افاقهم تتسع وهم يدخلون اصقاعا لم تطأها اقدامهم من قبل، ولم تتضمنها خرائطهم ـ جغرافيا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وكانت منجزاتهم كفيلة بأن تجعلهم سادة المعمورة، الا ان الحداثة كان لها جانبها المظلم ايضا، فقد عمل فرديناند وايزابيلا على خلق دولة على نمط الدول الحديثة ذات السلطة المركزية التى بدأ ظهورها فى مناطق اخرى من العالم المسيحى، ولم تكن تلك الدولة الحديثة لتسمح باستمرار المؤسسات المستقلة القديمة ذات الحكم الذاتى ـ مثل النقابة او الشركة او الجالية اليهودية ـ وهى التى تميزت بها العصور الوسطى، فبعد احتلال غرناطة بدأت اعمال التطهير العرقى، ففقد المسلمون واليهود ديارهم، وبقدر ما كانت الحداثة مصدر قوة وتحرير واثارة للاسبان الكاثوليك، فانها كانت واستمرت مصدر قهر وغزو ودمار لغير النصارى، واستمر هذا النسق من انتشار الحداثة فى مناطق اخرى من العالم بنفس الصورة المزدوجة التى شهدتها اسبانيا : ففى احدى الوجهتين تعمل برامج الحداثة على التنوير وتعزيز القيم الانسانية، وعلى الوجه الآخر اطلت الحداثة بوجهها الكالح ونزعتها العدوانية، وتستشهد الباحثة بابناء القرن العشرين الذين خبروا الحداثة فاستشعروا فيها تلك النزعة العدوانية فى المقام الاول فاصبحوا من الاصوليين.

*نشأة محاكم التفتيش
تعود بنا الباحثة "كارمين ارمسترونج" بسرعة الى القرن الخامس عشر والى اسبانيا بالذات لأنها كانت فى مطلع حداثتها جزءا من طليعة تيار الحداثة الذى انتشر فى اوروبا بعد عصر النهضة، وتفجرت فى اسبانيا طاقات بفعل حركة الاصلاح الدينى، ولكن العاهلين ايزابيلا وفرديناند بعد ان نجحا فى دمج مملكتيهما، قاما بانشاء محاكم التفتيش لفرض الوحدة الايدلوجية على المملكة، فكانا يخلقان بذلك دولة حديثة ذات سلطات مطلقة تخنق الحرية الفكرية الكاملة لرعايا تلك الدولة، وقام رجال محاكم التفتيش التابعون للحكومة بالبحث عن المنشقين واجبارهم على التخلى عن الهرطقة اى التفكير خارج نطاق تعاليم الكنيسة.
فى رأى الباحثة "ارمسترونج" ان محاكم التفتيش لم تكن محاولة عتيقة من جانب الدولة للحفاظ على عالم بائد ومنقرض، بل كانت "مؤسسة تحديث" يستخدمها الملك، والملكة لخلق الوحدة الوطنية، فهما يعلمان ان الدين قد يصبح قوة متفجرة وثورية، وكان الحكام البروتستانت فى انجلترا لا يقلون عنهما قسوة فى معاملة المنشقين الكاثوليك الذين كانوا يعتبرون كذلك من اعداء الدولة، وكان هذا اللون من القسر والقمع جزءا من عملية التحديث، ولما كان المسلمون واليهود فى اسبانيا هم اول ضحايا هذه النزعة التحديثية العدوانية، فقد عمدت الباحثة الى شرح حالة الاديان الثلاثة فى دولة الاندلس الاسلامية حيث ظلت هذه الاديان تعيش معا فى تناغم على ما يربو على ستمائة سنه، وكان اليهود خلالها ـ بصفة خاصة، يتمتعون بنهضة ثقافية وروحية، ولم يتعرضوا لمثل ما تعرض له اليهود فى سائر اوروبا المسيحية من ألوان الاضطهاد، ولكن الجيوش المسيحية كانت فى تقدمها التدريجى لغزو اراضى المسلمين، كانت تحمل معها العداء للسامية وتعرضت الجاليات اليهودية للانجرار الى مياه التنصير، والارغام على اعتناق المسيحية، وحاول بعض اليهود تفادى الاضطهاد بالتحول الى المسيحية طوعا، وكان يطلق عليهم رسميا «المتحولون» وان كان المسيحيون ينعتونهم بلفظ "المارانو" اى الخنازير وبكى اليهود فى شتى انحاء العالم ما حدث ليهود اسبانيا باعتباره اكبر كارثة وقعت لهم منذ تدمير المعبد فى القدس فى عام 70م وتم ترحيل اليهود من البلاد الاوروبية الى الشرق فلجأوا إلى ولايات الامبراطورية العثمانية فى البلقان وشمال افريقيا ليستأنفوا العيش فى كنف المجتمع الاسلامى.

*مجتمع أوروبا العدواني
تختتم "ارمسترونج" هذا الفصل عن نشأة الاصولية اليهودية بالقول: لقد استبق اليهود كثيرا من أوضاع العصر الحديث، وكان صدامهم الاليم مع مجتمع اوروبا العدوانى الداعى الى الحداثة، قد أدى بهم الى العثمانية، والشك، والالحاد، والعقلانية، والعدوية، والتعددية، وحصر الدين فى الحياة الخاصة، وكان معظم اليهود يرون ان الطريق الى العالم الجديد، الذى كان يتطور فى الغرب، لابد ان يكون الدين سبيله، ولكن ذلك الدين كان يختلف اختلافا كبيرا عن نوع الدين الذى اعتدناه فى القرن العشرين، اذ كان يعتمد اعتمادا اكبر على منطق الروح، ولم يكن يقرأ الكتب المقدسة قراءة حرفية، وكان على استعداد كامل للايقان بحلول جديدة كان بعضها يبدو مفزعا، فى سياق البحث عن شئ جديد، اما اذا اردنا فهم الدور الذى نهض به الدين فى المجتمع الذى سبق العصر الحديث: فعلينا ان نيمم وجوهنا صوب العالم الاسلامى الذى كان يمر بتحولاته الخاصة فى اوائل هذه الفترة الحديثة، ويعمل على انشاء صور مختلفة من الروحانية التى كتب لها ان تستمر فى المسلمين بعد وقت طويل من العصر الحديث.