1
تُوجَّه الكتبُ المفتوحة الى اثنين: الى مَن يعرف أن يقرأ أوّلاً، وثانيًا والأهمّ، الى مَن يريد أن يقرأ!
ولكلّ من المعرفة والارادة فلسفاتها وفلاسفتها، ولها باع طويل في ذاكرة المفكّرين والسّياسيّين والقادة من جلجامش أوروك الى روحانيّي الشرق الأقصى الى الثالوث الاغريقيّ ، فالباقة المشرقيّة والمغربيّة ما بعد الاسلام وصولاً الى أوروبا الثورة العلميّة والتنوير. وفي علاقة المعرفة والارادة ببعضهما البعض انفصالاً أو اتّصالاً وفي مستواهما رقيًّا أو انحطاطًا دلائل أثرِ الجماعات في الانسانيّة: حضارات أو نوائب، وأثرِ الأفراد في القيادة: معلّمون قدوة أو أُمّارٌ طغاة!
... والفرق بين البابليّين والمغول تشهد له الثقافة والعلوم وأخلاق بعض الحاضر، والهوّة بين يسوع وهولاكو هي تمامًا المسافة بين الانسان-الاله والانسان-الوحش.
ولكن، ومن دون الحاجة الى التجوال في أرجائها النظريّة، فانّ للمعرفة والارادة وقْعهما المبسَّط عند كلّ منّا:
قد يعرف الرئيس أصول الأبجديّة وألفباء القراءة وياءَ لغةِ الاشارات والرموز؛
قد يعرف أبجد هوّز السياسة المحلّيّة وحُطّي كَلَمُن المخاطر الاقليميّة وخواتيم العلاقات الدّوليّة؛
قد يعرف خصوصيّة المكاتيب: فما كانت الكتب مفتوحة لو ان الهواء ليس موصدًا! ولا كانت لو لم يكن الهوى في اختناق!
قد يعرف أدب الرسائل ومعنى "يا" النداء المُوحاة ومغزى "وا" معتصماه الضمنيّة؛
وبطبيعته السمحاء وطيب الخُلق ومدنيّة الطلّة قد يعرف همزة الوصل وكلّ أحرف العطف وأسماء العَلَم.
ولكن، ورغم تلك المعرفة، باستطاعة ارادة القابضين الفعليّين على النّظام أن تُسَونِم (من تْسونامي) معرفته البريئة، وأن تطلق –كما هي الحال منذ سنوات- أحرفَ النصب والعلّة والنَّهي وأفعالَ التجهيل مدًّا يجتاح دمشق وبيروت معًا! وليس أدلّ من دول مهزومةٍ ولكنّها ملأى بـ"الأبطال"، مُعدَمَةٍ لكنّها تطفح بالأغنياء، مجزّأةٍ لكنّها في حضرة الواحد.

2
وقد يعرف الرئيس... ويريد.
... لكنّ النّظام ليس برئيس. ففي الدّول الدّول، النّظامُ مؤسّساتٌ. وفي الدّول المهزلة، وانْ برئيسٍ قويّ، النّظام كواسرٌ حول طريدة.
والنّظام ليس برئيس، خصوصاً متى جيء بالرئيس رئيسًا لتفادي الانشقاق العلنيّ، ومتى الرئيس من خلفيّة مدنيّة دمثة ومهنيّة رقيقة، وجُلّ ما حوله خلفيّات عسكريّة انقلابيّة استئثاريّة اعتادت الاقتسام.
والنّظام في الشّام ليس برئيس؛ بل نظام حزبيّ بعثيّ بنكهة بوكاسا افريقيا الوسطى وبه جمع غريب لميزات ستالينيّةِ الاتّحاد السوفياتيّ ومافياويّةِ الاتّحاد الوَفيّاتيّ وما نجم عن الوفاة من تنافسِ المتشظّين والتناحر.
والنّظام الحزبيّ في الشّام، على صورة الأحزاب العقدية التي استحلفها واستخلفها في لبنان وأصابها بعدواه، نظام فئةٍ حزبيّةٍ فارغةٍ ثقافيًّا واجتماعيًّا ومهنيًّا واقتصاديًّا، شرِسةٍ وان مهندَمة، فئةٍ خارج بوتقة المعرفة – الارادة، مستأثرة بمواقع القرار بالقوّة والترهيب وترغيب ضعفاء النفوس، مزيلة الفكر من التداول والأخلاق من الاعتبار والأهليّة والكفاية من مستلزمات المسؤوليّة، مجيّرة مصالح الدّولة لمنافعها الخاصّة، ودومًا تحت غطاء شعارات الحزب البرّاقة الأخّاذة.
فحتّى لو كانت الرئاسة صافية، وحتّى لو كانت في الآن نفسه أغلبيّة مَن في الهيئة التشريعيّة العليا نقيّة، ففي أنظمة المخادَعة وأحزاب المخادَعة، تُستخدَم أسماءُ الأنقياء ووجوههم تغطية للفساد المستشري ولمَن هم فعليًّا مدجّجون بآليّات التسلّط.
قد يعرف الرئيس... ويريد... ويقرأ... ويجيب.
لكن، من العبث الاعتقاد بأنّ الطغمة الأوليغارشيّة وأنظمة الاستبداد تريد القراءة ولو عَرفَتْ، ومن العبث الاعتقاد أنّها لا تعرف ما في الكتب المفتوحة... وقبل أن يُكتَب!
ثمّ انّ الكتب المفتوحة تفترض نظامًا يخطئ لا عن سابق تصوّر وتصميم بل عن قلّة دراية، فتلْفت انتباهَه؛
وتفترض نظامًا لا يتعمّد الاساءة وفق حسابات خاصّة بل صدقًا يسيء الاختيار من بين احتمالات، فترشده؛ وتفترض نظامًا من المعرفة التوّاقة والارادة الخيّرة.
انّ الكتب المفتوحة تفترض نظامًا غير هذا النّظام!
ففي وقْف الفساد ومنطق الرشوة والخوّة والتهريب والاخضاع والمحسوبيّات والدّولة العائلة والدّولة الميليشيا والتحكّم المخابراتيّ بكلّ مفاصل الحياة السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وحتّى الثقافيّة، في وقْف كلّ ذلك الغاءٌ لجوهر النّظام الذي لم تكن كينونته الاّ بها، وبانتصار المعرفة الخانعة وارادة الجهل.
انّ هذا النّظام لو قرأ المفتوح وأراد الاستجابة لَبَطُل!

3
لا شكّ في أنّ اتّفاق الطائف ينصّ على ما لم يُحتَرَم لجهةِ: اعادة الانتشار العسكريّ الشّاميّ، وتوضيح العلاقة بين السلطة اللبنانيّة والوجود الشّاميّ العسكريّ، وتفعيل "المجلس الأعلى اللبنانيّ السّوريّ" وهيئة التنسيق العليا، وآلية تجاوز الطائفيّة بحسب المادّة 95 من الدستور اللبنانيّ.
لكن، لا عدم وجود قوّات "أجنبيّة"، على ما يعتبر السّياديّون اللبنانيّون، يعني سيادةً، اذ اختراق السّيادة يطالعنا به السّفيرُ الأميركيّ يوميًّا واملاءاتُ البنك الدّوليّ وايحاءات صندوق النقد الدّولي وطائراتُ العدوّ وتجسّسُ الأقمار الاصطناعيّة؛ ولا وجود قوّات "شقيقة"، على ما يعتبر "القومجيّون" و"الوطنجيّون"، يضمن الأمن القوميّ، اذ بضع عشرات آلاف الجند الشّاميّين المتموضعين في البقاع عراة من سلاح التكنولوجيا ودولة العدل والمحرّض الرّوحيّ، لن يردّوا بأكثر ممّا ردّ مئات آلاف الجند في العراق المحتلّ!
بكلام آخر، لا غياب القوّات الشّاميّة يعني السّيادة بالمطلق، ولا وجودها يفيد الانتقاص. فالسيادة في مطلع القرن الحادي والعشرين، ليست هي السّيادة بمفهوم عصرَيّ النّهضة والتنوير الأوروبيّين والممتدّين حتّى النّصف الأوّل من القرن الماضي. انّ عالم اليوم وما به من شبكة علاقات دوليّة معقّدة ومتنوّعة ومكثّفة يفتح المجال رحبًا لاستنباط آليّات تعاون ثقافيّة وتقنيّة وعلميّة واقتصاديّة وماليّة وعسكريّة جديدة بما يلائم مصالح الدول على مدار الأرض.
انّ الأسباب التي تدفع بألمانيا وفرنسا الى التعاون والتنسيق، بخطوات جادّة مدروسة بدأتها من خلال الاتّحاد الأوروبيّ في العام 1950 بدولٍ ست، للوصول الى اتّحاد أوروبّي بعملة موحَّدة ودستور موحَّد يجري الاستفتاء عليه شعبيًّا بدءًا من اسبانيا في شباط المقبل بعد أن وقّعت عليه الدول الـ25 الأعضاء في العام 2004، مع كلّ ما في هذا المسار من أخطار على حكومات ومستقبل رئاسة هنا ومستشاريّة هناك، ومع ما يرافق ذلك من ضغوط ماليّة واصلاحات داخليّة لا تتوقّف ورشتها، انّ الأسباب التي تدفع بفرنسا وألمانيا الحربعالميّتين ومركزَيّ التقاتل والتنافس اللوثريّ - كاثوليكيّ المُزمن، الى التعاون والتنسيق والتحالف ليست بأكثر من تلك التي يجب أن تدفع بلبنان والشّام، على الأقلّ، الى مثلها. هذا، وليس بين الشّام ولبنان، في التاريخ، الاّ ما ليس لألمانيا وفرنسا!
وبصرف النظر عن آشور بني بال وأسرحدون ونبوخذ نصّر واليسار وقدموس، وبصرف النظر عن البساتنة واليازجيّين وجبران وسعاده، فانّ المدى الديمغرافيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ الطبيعيّ والمنطقيّ للبنان هو الشّام وللشّام من الغرب هو لبنان. وهذا ما يجعل الكلام عن الكيانَين متلازمًا بغير منطِقَي الاستزلام و"تلازم المسارَين"!
لذا، فانّ الغاء الفساد في لبنان يستوجب تلازمًا مع الغاء الفساد في الشّام. وفتح الحدود أمام البضائع الشّاميّة في اتّجاه الغرب يوجب فتحها أمام البضائع اللبنانيّة في اتّجاه الشّرق. والغاء دكتاتوريّة الطوائف من ساحة النجمة ومحيطها، يوازي الغاء دكتاتوريّة البعث والرّتب العسكريّة من مدى الغوطة. واقامة دولة القانون في الهُنا يؤاخي اقامتها في الهُناك. والمساهمة في الغاء الطائفيّة في لبنان تفترض خطوات لالغاء الطائفيّة في الجيش والادارة في الشّام، وفي البلدين خلق مناخات عادلة ومؤسّسات شفّافة ونشر ثقافة سياسيّة تشجّع على المساءلة وتداول السلطة وارساء أجواء حقيقيّة تزيل منطق الأقلّيّات والأكثريّات الطائفيّة والعرقيّة وتلغي أسباب الالتجاء الى الطائفة والعرق كوطن وانتماء. هذا لبّ المسار الواحد، وبه يحلو الالتزام... الاّ اذا كنّا في الاستثناء المنطقيّ والأخلاقيّ المستشري! والاّ اذا كانت ارادةُ الممسكين الفعليّين بزمام الأمور مركَّزةً على أنّ الدّولةَ بما هي عليه بابُ رزقِهم الوحيد، بابٌ من ذهبٍ ينفتح على آمادٍ من ذهب.
اذذاك، لا تغْني كلُّ الكتب المفتوحة عن الذهب المُشرَع!

4
تُجْمِع الأطراف اللبنانيّة، بدءًا من الموالاة الصدّاحة وصولاً الى المعارضة النوّاحة مرورًا بالمعارضة المستجدّة، وأنصاف الحلفاء وبعض المستقلّين الأنقياء، تُجْمِع الأطراف على الاشادة بالدور "القوميّ" للنظام الشّاميّ.
ويفوتها أنّ التقييم لا يكون بما هو الأمر عليه بل مقارنةً بما كان يجب أن يكون بالامكانات المتاحة ذاتها والوقت نفسه.
لعلّه اقتناع صادق، أو وهم، أو لعلّه الخوف عند البعض حتّى عند منتقديّ أدائه المخابراتيّ: تأكيد على الدّور القوميّ للنّظام الشّاميّ مراضاةً له واحتماءمن الغضب السّاطع. هذا اضافة الى تجاهل نقد بُنية النّظام الشّاميّ بذاته وآليّاته مجاراةٌ لثقافة تقليديّة هي بين الضعيفة والمريضة والجبانة، تحكي عن القويّ أكان الهًا أو رئيسًا أو شيطانًا أو سرطانًا بضمير الغائب، وان ذُكِر فخفَرًا، أو رُسِم فبِلا ملامح وجه! كأنّه المحرَّم سلبًا أو ايجابًا!
أوّلاً: لا يُمَنِّنّا أحدٌ بما هو من بديهيّات أيّ نظام. فتصوّروا نظامًا فرنسيًّا لا يقوم بدوره القوميّ الفرنسيّ، أو هنديًّا لا يقوم بدوره القوميّ الهنديّ. انّها للحظة تاريخيّة أليمة حين يصبح الأخلاقيُّ استثناءً، والصادقُ تحفةً للفرجة والموقف القوميُّ هجينًا!
ثانيًا: انّه استثناء سياسيّ قيَميّ مستَشرٍ ذاك الذي يرى انتصارات قوميّة خارجيّة على أنقاض الترهّل القوميّ الداخليّ.
القول انّ النّظام الشّامي يبدع مواقف قوميّة على المستوى الاقليميّ، بينما هو في الواقع يغرق في الفساد والمخابراتيّة والظلم والقمع على المستوى الداخليّ في الشّام ولبنان معًا، ينافي المنطق ويجافي أبسط البديهيّات. اذ كيف للموت الداخليّ أن ينتج حياة خارجيّة، وأين في البيولوجيا والفيزياء والاجتماع وكلّ العلوم الطبيعيّة والانسانيّة يكون الضعف الداخليّ ركيزة للقوّة الخارجيّة؟ ومتى في التّاريخ كان خلقُ أجواءٍ فسيفسائيّة في الداخل من صمتٍ وخوفٍ ويأسٍ، وحضانةُ بيئةٍ موبوءة تشجّع على موت الفكر واحتضار الفنّ، وممارسةُ الاسكات والترويع والاتّهام الدائم، متى كان كلّ ذلك يؤسّس لانتصارات قوميّة؟ ومتى كان الانهاك دربًا للمناعة؟
... ومن الاستثناءات المستشرية أنّ "ممانعة" الخارج –على ما يطلِق حلفاءُ النّظام الشّاميّ على أدائه بما له علاقة بالضغوط الأميركيّة- لا تمرّ الاّ بثقافة "الممنوع" في الداخل!
نِعْم الدّور القوميّ الذي يضمن تهجير شبابنا في الشّام ولبنان بعد انهاء التعلّم وقبل البدء بالانتاج. نِعْم الدّور القوميّ الذي ترصد بنتيجته للأبحاث العلميّة أيُّ جامعةٍ أميركيّةٍ متوسّطةِ المكانةِ ما يفوق رصد الشّام ولبنان معًا للغاية ذاتها. نِعْم الدّور القوميّ الذي يجعل من الدّولة مرتعًا للأعنف. نِعْم الدّور القوميّ الذي بينما يُتخِم غالبيّة مسؤوليه وحلفائه المحظيّين باثراءٍ غير مشروع، يرعى الافقار العام الى درجة يبيع فيها المواطن الصوت الانتخابيّ لموالاته أو لمعارضته، في لبنان طبعًا، بـ25 دولاراً مرّة كلّ أربع سنوات. نِعْم الدّور القوميّ الذي يلغي القضاء النزيه في لبنان والشّام، فتهرب رؤوس الأموال الوطنيّة، وتنكفئ تلك الأجنبيّة. نِعْم الدّور القوميّ الذي لا يرضى بالحلفاء الاّ عبيداً، وبالأخصام الاّ أعداء. نِعْم الدّور القوميّ الذي يدفع بالمعتدلين الى التطرّف ضدّه، وبالمستقلّين والميّالين الى العلمانيّة الى التِحاف التجمّعات الطائفيّة والتقليديّة لايجاد موقع يعملون من ضمنه أو ملجأ من... الغضب السّاطع. نِعْم الدّور القوميّ الذي يقوّي الأنظمة والقوى والأحزاب الطائفيّة والدّينيّة. نِعْم الدّور القوميّ الذي يجعل من جهابذة الاقطاع والطّائفيّة والفساد والالغاء ناطقين باسم الوطنيّة والديموقراطيّة والحرّيّة والشفافيّة والمؤسّسات و"الآخر"! نِعْم الدّور القوميّ الذي يعادي أوروبّا، وفرنسا خصوصاً، في زمن التفرّد الأميركيّ. ونِعْم ونِعْم ونِعْم.
... واسرائيل تجدّد تقنيًّا طائرات للصّين كانت باعتها ايّاها في السّنين الماضية رغم أميركا؛ وترسل فريقًا طبّياً ومعدّات انقاذ الى سري لانكا وجنوب شرق آسيا للمساعدة بعد كارثة المدّ البحريّ؛ وتبيع أوروبّا التفّاح والليمون اليافاويّ؛ وتصدّر الى الشركاتِ الأميركيّة في "السيليكون فالي"... صفائحَ السيليكون! نِعْم الدّور "القوميّ" الذي يُخرج الشّام ولبنان من الدّور القوميّ الانسانيّ العالميّ الحقيقيّ.