كتاب (الجماعات الإسلامية رؤية من الداخل) الذي صدر مؤخرا في القاهرة، وكتبه، كما يحب أن يقدم نفسه، محامي الجماعات الإسلامية،ِ منتصر الزيات، له معنى أكثر بكثير من السرد نفسه. فالمهتم بتطور الفكر التكفيري وترجمته من دعوة باللسان إلى قتال بالرصاص في منطقتنا ،يجد أن لديه الكثير من المصادر، على الأقل في الخمسين سنة الأخيرة، وافرة بالمعلومات وكثيفة الأطروحات.
أهمية كتاب منتصر أنه يحكى لنا من الداخل، ما حدث وكيف حدث، ولكنه يقصر عن القول، ربما بإرادة أو بغيرها، لماذا حدث ما حدث؟ وهو أمر متروك لمن يقرأ ويستخلص الأحكام.
دعونا نتبصر في عدد من القضايا التي طرحها هذا الكتاب، قبل أن نقدم رؤية شمولية حول الإجابة على سؤال، لماذا حدث ما حدث، أو لماذا لا يزال ما يحدث يتم . بين ظهرانينا؟
في التكتيك يعطينا منتصر وضعا كلاسيكيا في ( الإرهاب الفكري) الذي يبدأ به كل إرهاب ،وأي إرهاب ،فيقول استنادا بالتلميح من بعيد، دون تأكيد على كتاب فكر الجهاد للإمام الشوكاني، أن (طريق الدعوة الإسلامية يمر بمراحل عدة،مرحلة الدعوة باللسان، و الثانية زجر المتلقين بشيء من التخويف، والثالثة تكون باليد، أي بالعنف، هذا ما كنا نمارسه بالفعل بفصل الطلبة عن الطالبات وبمنع حفلات الموسيقى و التمثيل و المسرح) مرورا بتبرير قتل المسيحيين ونهب أموالهم ،ولعل القارئ يلحظ أن الاقتطاف من كُتب قديمة كتُبت في عصور مختلفة، أو الإشارة إلى بعض نصوصها، و تعمد فصل النص عن سياقه تعنتا، ثم الأخذ به حرفيا دون مراجع من الأصول المتفق عليها، أو مواكبة لما تطور عليه المجتمع، هو أحد أدوات (التضليل) الفكري الذي تقود الشباب إلى ما يقودهم إليه من سفك الدماء، وتحريم الحلال،والادعاء بملكية الكلمة النهائية،وهو أمر لم ينقطع، وما زال قائما في فضائيتنا وصحفنا ومنتدياتنا المختلفة،قست العبارة أو رقت فالفكرة هي التكفير وإخراج المخالف ( السياسي) من الملة، تمهيدا لشطبه من المجتمع.
يتحدث الزيات في مذكراته عن شخصية محورية كان لها التأثير الكبير في تنظيم وحشد العناصر الجهادية في مصر ،في مرحلة التحضير و الدعوة و التنفير المطلق من المجتمع السوي في بداية السبعينيات، هذه الشخصية هي محمد سالم رحال، الذي يبدو من المذكرات التي يسردها الزيات، أنه لعب دورا محوريا في توحيد التنظيمات الجهادية في مصر، إلا انه كانت هناك علامات استفهام كثيرة في شأنه (رحال) كما يشير الكاتب،وقد (اختفى في ظروف غامضة خارج مصر) !
مثل هذه الشخصيات نراها تتكرر في مجتمعات أخرى بنفس الطريقة تقريبا، كلام معسول مُحلى بإشارات من التراث، تُسبق على الحاضر قدسية الماضي المجيد وتقارن به حرفيا، كالقول بالمجتمع الجاهلي و الردة و الخروج من الملة، وأن هناك فرقة (ناجية) هي فرقة المُحدث، ومن يسير في طريقه وبرفقته دون تساؤل أو اعتراض،هذه الشخصية تكاد تتكرر في المجتمعات العربية،وكأنها احتكرت التفسير والقول الفصل، بعضها يختفي فجأة من المجتمع كما فعل الرحال! والفكرة الرئيسة هي زرع القول القطعي بان المجتمع الحالي، هو جاهلي وهي فكرة تردد بمعسول الكلام أو بأغلظه.
لعل القضية الأخرى اللافتة في كتاب الزيات تلك العلاقة الصراعية بين أجنحة الجماعات) المختلفة، لا لسبب عقائدي، بل أكثر من ذلك، من ما سماه الزيات (القبلية والانتماء) للصعيد أو للوجه البحري،وأخرجت هذه الصراعات كما نتابعها في الكتاب، عن طريق فتوى، مثل هل للضرير ولاية أم ليس له ولاية، والضرير هنا هو الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي اكتشفه بعض النشطاء من أهل الجماعات فجاءوا به ولياً على أمرهم.ثم اكتشف بعضهم انه صعيدي! ذلك الصراع الشخصي ينساب كثيرا في ثنايا الذكريات للزيات، فيتحدث عن الخلاف حول الرآسة والزعامة،وكل يدلي بدلوه من نص قديم أو حديث، للارتقاء في سلم الأمر والنهي، وهو أمر يتكرر، فنرى الجماعات المختلفة كلها تدعي أنها الوحيدة التي تأخذ بناصية الفهم التراثي،وغيرها خارج عن العهد .
صلب الموضوع أن الجماعات التي أحدثت كل تلك الضجة في هذه المنطقة، وما زالت تحدثها، نظمت نفسها على الطريقة التقليدية، وإن كانت بتشوه كبير، فالقفز على السلطة هو اقرب ما يكون من خلال ( اختراق المؤسسة العسكرية) وهو أمر حدث أكثر من مرة في محيطنا العربي الموبوء بقلة التنمية، وقلة الحيلة أيضا. فهذه أطراف مؤثرة من داخل الجماعات، التي يصفها الزيات بالتفصيل، تلجأ إلى البدلة العسكرية من اجل إحداث ( الانقلاب المطلوب) هي كمثل سابقاتها من التنظيمات التي وصل بعضها إلى السلطة، وما زالت شعوبها صفر اليدين.
يقول الزيات ( لقد وجدنا ضالتنا في الفكر الجهادي الذي كان يترجم حالتنا النفسية) وهو تعبير لا بد من الوقوف عنده، فالحالة النفسية، تقول إن هناك شبابا يكبر عددهم ويتضاعف، وقد اخذوا شيئا من العلم، ولكنهم بقوا على الناصية عاطلون عن العمل، يذكرنا بتعبير (جماعة الناصية) الجزائرية، الذين كانوا وقود الجماعات المتشددة هناك، فينضموا للجماعات بحثا عن التعاضد في المكره،وحلا لبعض مشكلاتهم الحياتية.
و الحال إن القضية التي نحن بصددها، هي قضية اقتصادية اجتماعية سياسية، وليست دينية بالمعنى الذي يراد له أن يُفهم ، فهي لا من قريب ولا من بعيد دينية، انه فشل في التنمية من جهة، ورفع توقعات الجيل الشاب من جهة أخرى أدى إلى هذا المأزق.
ووجد هذا الجيل متنفسا له بالخروج على الدولة، وحمل السلاح و الوقوف أمام الحاكم.
ولم يكن الحاكم بعيدا عن قصر النظر أيضا،فالحكومات دائما قصيرة النفس ،و الأكثر قصرا ما لدينا. فنرى الزيات يقول لنا دون لبس أو إنكار أن نظام الرئيس السادات الذي وجد نفسه عاجزا عن تقديم حلول حقيقية لما يواجه المجتمع من معضلات، أطلق (الجماعات) في وجه منافسيه السياسيين ،أو ما اعتقد أنهم منافسوه،وهي حقيقة عاد إليها كل من تابع مآسي السبعينيات والثمانينيات حتى يومنا،ولها توثيق كامل في أكثر من مصدر مكتوب أو مشاهد (أكدت ذلك السينما المصرية في فيلم السادات وغيره) ،حتى على المقلب الآخر من البلاد العربية،ففي الجزائر إبان عشرية الصراع انبثقت عبقرية الأمن العسكري على استخدام الدواء من نفس الداء، فشجعت السلطة كما توثق اليوم في أكثر من وثيقة،قوى متطرفة من النظام نفسه ،لتصفية قوى متطرفة من الجماعات، إذا تحت شعارات المجتمع الجاهل، وإقامة الدولة ( الخلافة الإسلامية) اندفعت ثلة من شباب العرب، وهي في ضياع كامل عما حولها ، ولا تجد ثمة أمل مرتجى في تحسين وضعها المعيشي والتقط هذا الوضع اليائس رجالا أرادوا السلطة والزعامة، فانتشرت تلك الأفكار، حتى قادت إلى بحر من الدماء، لا زلنا نشهده اليوم في أكثر من ساحة عربية.
خلاصة الحديث إن ما يرويه منتصر الزيات ليس تاريخا كما يعتقد البعض، ما يرويه هو ما يجب إن يُنتبه إليه، من اجل أخذ العظة،وأكثر من العظة، فتح طريق أفضل لتنفيس هذا الإحباط الذي يشكل الدافع الرئيسي لكل هذه الفوضى التي تدفع الشعوب أثمانا باهظة من أمنها واقتصادها وحريتها .
لقد اكتشف الزيات في آخر المطاف ،كما اكتشف آخرون من قبله ومن خلال الطريق الصعب المزروع بالتعذيب و الاهانة و الحرمان وفقدان الكرامة، ان الانقلاب على الحكم ليس مرصوفا ببضع كلمات من التراث مجتزئة من سياقها، أو بحشد البسطاء وغيرهم بأفكار طوباوية منقطعة عن العالم وما يسير فيه وحوله.
الطريق إلى الإصلاح يحتاج أكثر من ذلك، أول ما يُحتاج إليه برنامج حديث يتعاطى مع المشكلات الشاخصة بوعي وبمسؤولية بعيدة عن تقليد بعض ما نجح من انقلابات عسكرية أو غيرها، فحتى تلك التجارب لم تستطع أن تقدم الحلول الحقيقية للمشكلات الحياتية، غير كثير من الشعارات، وقليل من الخبز والحرية.
الطريق إذا مختلف، ولكن الفكرة المركزية التي وصل إليها الزيات لم تصل إلى كثيرين حتى الآن، لقد قال، لقد كنا نظن انه بمجرد قتل الرئيس السادات سيخرج الجمهور من أسوان للقاهرة مؤيدين رافعين شعار الدولة الإسلامية،ظهر له صبيحة الحدث الكبير في شوارع أسوان وهو يقطعها جيئة وذهابا ،إن ذلك خداع للنفس، وان كل ما قيل له هو ترهات، إلا إن هذه الترهات ما زال يغذى بها جمهور عريض في وسائل إعلامنا من ثلة مستفيدة، تحرض على حرب الشوارع وقتل الأبرياء و الخوض في الدم حتى اكواعهم المترعة بسكرات الماضي و الجري وراء السراب، وهو فكر يهيئ لجماعات أخرى أن تظهر بألوان جديدة.