موسكو‏ من‏ عبدالملك خليل: من تعاقب المحن والخطوب والنظم الاستبدادية المركزية الصارمة‏,‏ بالإضافة إلي أنواء الطبيعة وتقلب طقس الشتاء في روسيا وما يجاورها‏,‏ تصور البعض أن الروس نمط من البشر المتجهمين الذين يحملون علي أكتافهم هموم البشرية‏.‏
غير أن هذه الصورة بالإضافة إلي عدم تحققها في الواقع الراهن فهي لا تمثل إلا أحد جوانب الدراما الروسية التي برع الروس في تجسيدها‏,‏ إلي جانب فنون أخري كرقص الباليه وجميع أنواع الرياضات العالمية‏.‏
وبعد أن أدرك قادة الكرملين حب الروس للراحة والاسترخاء قرروا منحه‏10‏ أيام إجازة متواصلة حتي يصل في نهايتها إلي التلهف علي العمل وكراهية الإجازة وما تسببه من ملل‏.‏
وفي غضون ذلك أجري استطلاع للرأي حول العام المنصرم فثبت أن‏74%‏ غير راضين عنه‏,‏ وأنهم يتوقعون العام الحالي‏2005‏ سيكون أسوأ‏,‏ بينما قال‏16%‏ إن سنة‏2004‏ كانت سنة جيدة‏,‏ وأن أحوالهم المعيشية قد تحسنت‏,‏ أما البقية فقد أجابت بعدم معرفتها بما يجري في روسيا‏!!‏
وأشارت الوكالات إلي أن سمعة الرئيس بوتين قد ضعفت بمقدار‏13%‏ عما كانت عليه في العام السابق حتي مع نجاح بوتين بالفوز فترة رئاسية ثانية‏.‏

*تضاؤل الثقة مع انتخابه
ويؤكد الاستطلاع أن ثقة الشعب كانت أوسع ببوتين لكن هذه الثقة بدأت تتضاءل لأن حياة غالبية الشعب بدأت تتعثر‏,‏ وأعرب معظم المستجوبين بأن مستقبلهم غامض وأنهم يخافون من الإرهاب وشبح البطالة وانتشار الحرائق وتفشي الأمراض وغلاء الأدوية والسلع الاستهلاكية‏,‏ واختطاف الأولاد وفقدان الشقق السكنية بسبب ارتفاع الإيجارات وغلاء الخدمات‏.‏
ومع ذلك واصل الرئيس بوتين مشاريعه الإصلاحية واستطاع أن يحصل علي موافقة عليها من مجلس الدوما البرلمان التشريعي الذي يعتبر كمجلس النواب‏,‏ كما حظي بموافقة مجلس الفيدرالية المطيع للرئيس‏,‏ ويعتبر المجلس الثاني بمثابة مجلس الشيوخ‏.‏ وقد اشتملت الإصلاحات علي مسائل عديدة‏,‏ منها استبدال المعونات التي تقدم للمقعدين والمتقاعدين والعجزة وأصحاب المعاشات من المحاربين والمصابين من إصابات العمل بزيادة الرواتب التقاعدية بنسبة تتراوح بين‏150‏ و‏1500‏ روبل‏,‏ بينما كانت المساعدات والتسهيلات لهؤلاء تتراوح ـ فيما يقدر ـ بـ‏2500:5000‏ روبل‏,‏ ويبلغ عدد هؤلاء‏37‏ مليون مستحق‏,‏ وقد شكل عدة مئات منهم مظاهرة في وسط موسكو علي إثر انتهاء العطلة الطويلة‏,‏ ولكن تصدي لهم رجال الأمن فقالوا بأصوات عالية ومبحوحة وغاضبة‏:‏ أهذا جزاء من سفكت دماؤهم لتحرير الوطن أيها الرئيس بوتين؟‏!‏

*إلغاء وتعيين فإلغاء فـ‏..‏
كذلك ألغي الرئيس بوتين انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ وجعله بالتعيين من قبل قادة الأقاليم‏,‏ ثم عاد وجعل قادة الأقاليم أعضاء في مجلس الشيوخ‏,‏ وعاد بوتين لاحقا إلي إلغاء انتخابات قادة الأقاليم وتعيينهم بشرط أن يوافق المجلس التشريعي للأقاليم عليهم‏!!‏ وإذا لم يوافق المجلس التشريعي عليهم يكون من حق الرئيس حل المجلس التشريعي الإقليمي‏.‏
كما غير الرئيس بوتين قانون الأحزاب وعدد أعضائها وألغي حق الترشيحات الفردية للمستقلين وأجبرهم علي الانتماء إلي أي حزب من الأحزاب‏,‏ كما أمر بإلغاء التحالفات الجبهوية بين الأحزاب والمنظمات لخوض الانتخابات المحلية والعامة والرئاسية‏.‏
وامتدت إصلاحات بوتين الأخري إلي القوات المسلحة والسلطات التشريعية ومؤسسات الأمن والشرطة‏.‏
وتوج بوتين مواقفه من الطغمة الاحتكارية بوضع الملياردير ميخائيل خودوركوفسكي‏,‏ رئيس مجلس إدارة مؤسسة يوكوس العملاقة للبترول في السجن للتحقيق معه في التلاعبات الضرائبية والخروقات المالية مع رئيس بنك ميناتيب ومجموعات احتكارية أخري‏,‏ وبعد أكثر من سنة علي بقاء خودوركوفسكي في السجن تحت التحقيق ومطالبته وأعوانه بتسديد استحقاقات ضريبية تصل إلي‏27‏ مليار دولار متراكمة منذ سنة‏2000,‏ ونفي خودوركوفسكي وأعوانه دفع هذه المبالغ الجزافية وفشل وسائل توفيق الأوضاع وانخفاض أسعار أسهم يوكوس بما يوازي الثلث وإعلان خودوركوفسكي عن تنحيه عن رئاسة مجلس الإدارة قامت السلطات الروسية بالاستيلاء علي شركة يوجانيفسكي نفط التي تنتج ما يقرب من‏60%‏ من إجمالي يوكوس وبيعها في المزاد العلني لشركة مالية روسية تأسست خصيصا‏.‏
ودافع عن ذلك معظم وزراء الحكومة‏,‏ بينما وافق بوتين علي سياسة جرمان جريف‏(‏ الألماني الأصل‏)‏ وزير التنمية الاقتصادية‏,‏ وألكسي كودرين وزير المالية‏,‏ وألكسندر جوكوف نائب رئيس الوزراء وصدق بادعاءاتهم زيادة الإنتاج الصناعي السنوي بمقدار‏6.7%‏ بينما الزيادة كانت في القدرات الاستخراجية من البترول والغاز وليس في الصناعات الإنتاجية‏.‏ وواصل بوتين سياسته في تسويف الوحدة بين روسيا وبيلورسيا‏,‏ كما ساءت العلاقات مع تركمانيا‏,‏ وفشل التعاون معها في تسويق الغاز التركماني الذي تعتبر تركمانيا الدولة الثالثة في العالم التي تحتوي علي مصادر هائلة له في أراضيها‏,‏ وسخرت وسائل الإعلام الروسية للسخرية برئيسها صابر مراد نيازوف وأساليبه المتشددة‏,‏ مما ساعد نيازوف لطلب الخروج من رابطة الكومنولث وأعلن انضمامه إلي دول عدم الانحياز‏.‏
وبرغم دسائس ومفارقات الرئيس الجورجي السابق إدوارد شيفرنادزة والوقوف موقف المتفرج علي حركة ثورة الورود في جورجيا‏,‏ مما مكن ساكاشفيلي من السيطرة الأساسية في جورجيا‏.‏
وبقي موقف روسيا جامدا بين الأزمة في جورجيا وأبخازيا‏,‏ فهي من جهة تدعم أبخازيا‏,‏ ومن جهة أخري لا تعترف بها كجمهورية ذات حكم ذاتي‏,‏ بل وتزعم روسيا مع ذلك أنها مع وحدة التراب الجورجي‏,‏ وقد أعلنت أخيرا عن قبولها بالإعلان عما يسمي جمهورية أبخازيا وإجراء الانتخابات فيها وفوز سيرجي باجابش في منصب رئيس الجمهورية‏,‏ ويضيف الإعلام الروسي أن منطقة أبخازيا أعلنت انفصالها عن جمهورية جورجيا حين انفرط عقد اتحاد الجمهوريات السوفيتية‏.‏
ويطبق الشيء نفسه مع أوسيتيا الجنوبية‏,‏ فبينما فقدت روسيا حلفاءها في أدجاريا ورئيسها أصلان أباشيدزة الذي فضل الإقامة في موسكو إرضاء لميخائيل ساكاشفيلي رئيس جورجيا‏,‏ فإن العلاقات توترت بين روسيا وجورجيا ولاتزال‏.‏
ثم حلت مشكلة أوكرانيا كصاعقة نزلت علي روسيا ومصالحها الحيوية في الجنوب‏,‏ ففاز يوشيكو بفضل إصرار أنصاره في شوارع كييف ونصبهم الخيام‏,‏ ورتبت الحياة بأفضل ما يكون من مأكل ومشرب وترويح عن النفس بفضل العزم والأموال الأمريكية‏,‏ وبرغم زيارة بوتين لكييف عاصمة أوكرانيا مرتين خلال أيام وتزويد أوكرانيا بالوقود‏,‏ فقد فشلت روسيا في حل أو احتواء الأزمة الأوكرانية‏,‏ وأخيرا‏:‏ فقدت روسيا الخيط والعصفور كما يقال‏,‏ ويعتبر فوز يوشينكو علي خصمه يانوكوفيتش رئيس وزراء أوكرانيا السابق بمثابة ضربة موجعة للمصالح الروسية في البحر الأسود والمهابة البحرية العسكرية النووية الاستراتيجية الروسية خاصة احتمال التهديد بطلب سحب مرابطة الأسطول الروسي من ميناء سيفستابول‏.‏

*فيروس الثورة البرتقالية
ويتوقع مراقبون روس انتشار فيروس الثورة البرتقالية الأوكرانية إلي بيلوروسيا ومولدافيا وقيرغيزيا وقزاقستان وأرمينيا‏,‏ بل وحتي داخل الجمهوريات والمناطق والأقاليم الداخلة في الإطار السياسي والإداري لروسيا الاتحادية‏,‏ وفي هذا يقول ماركوف المعلق السياسي المقرب من الكرملين‏:‏ إن الأوساط الليبرالية بدأت تبحث عن أشباه ساكاشفيلي ويوشينكو داخل أقاليم ومقاطعات ومحافظات وجمهوريات روسيا الاتحادية‏!!‏
وفي سياق آخر أشار ماركوف إلي أن رئيس الوزراء الروسي فرادكوف بدأ يترنح من ضربات وانتقادات المعارضة اليمينية واليسارية‏,‏ بل وحتي من أعضاء بوتين نفسه‏,‏ لأن فرادكوف لا هم له سوي التوقيع علي وثائق جريف وزير التنمية الاقتصادية‏,‏ وكودرين وزير المالية‏,‏ وجوكوف نائب رئيس الوزراء‏.‏ كما أنه ليست له سلطة فعلية علي مجلس الوزراء ولم تتسم صورته حتي الآن كرئيس للسلطة التنفيذية كما يشير المعلقون‏.‏
لكن يبدو أن الرئيس بوتين مثل سلفه يلتسين يرغب في مثل هذه الشخصيات الهلامية لتحميلهم السياسات الفاشلة مثلما فعل يلتسين من تحميل مساعديه ورؤساء حكوماته أوزاره مثل جايدار وتشيرنوميردين وكيريينكو وغيرهم‏.‏

*البحث عن يوشينكو روسي
ويبحث اليمين الروسي عن يوشينكو روسي أو ساكاشفيلي روسي لإشعال الحماس وتمزيق روسيا إلي دويلات كثيرة مستقلة وذات سيادة‏.‏
وكذلك يفكر اليمين الروسي في توصيات ألكسندر فيروشبوو سفير الولايات المتحدة في روسيا ومؤدي رؤيته أن جيلا جديدا يتشكل في روسيا ورابطة كومنولث الدول المستقلة‏.‏
ويبقي ميخائيل كاسيانوف رئيس الوزراء السابق الذي أطاح به بوتين قبل إعادة انتخابه بسبب دفاعه عن الملياردير خودوركوفسكي‏,‏ لايزال محط أنظار اليمين الروسي‏,‏ إلا أن ذلك اليمين لا يميل إلي غلاة اليمين التقليدي مثل‏:‏ بوريس نيمتسوف‏,‏ وجريجوري يافلينسكي‏,‏ والسياسية خاكامادا‏,‏ لأن الأولين يهوديان والثالثة يابانية الأصل‏,‏ ويعد هذا اليمين السجين الملياردير خودوركوفسكي في الوقت نفسه يواصل البحث عن بديل لنظام بوتين‏.‏
ويفتقر اليسار إلي شخصية تملأ العيون للرئاسة لأن صفوف اليسار مهلهلة وممزقة وهم أيضا معنيون بمشكلاتهم الداخلية‏.‏
ومن الأحداث التي يتوقعها البعض اهتزاز مقعد رئيس الوزراء فرادكوف‏,‏ وربما أن بوتين راض بمثله برغم إدراكه لهزاله وضعفه لأنه لا يريد شخصية مرموقة تغطي عليه وتجادله وتحاجه مثل كاسيانوف‏.‏
أما المفاجأة الكبيرة فستكون في الأقاليم حيث ستبدأ تعيينات حكام الأقاليم بعد إلغاء انتخاباتهم‏,‏ وقد يكون خيار التعيين في أيدي بوتين نفسه‏.‏
ويتوقع قادة اليسار قيام انتفاضات عفوية ومنظمة في أقاليم روسيا في مواجهة الإصلاحات التي يتحملها الملايين علي مضض‏!!‏
والمحصلة الظاهرة أن الصراع داخل روسيا يحتدم ويستقطب قوي جديدة‏,‏ وتزج بنفسها في هذا الصراع للقوي الإقليمية المناهضة لروسيا الرسمية أي للكرملين‏,‏ وتبقي أحداث جورجيا وأوكرانيا تقلق الكرملين وتشجع المتطرفين الروس علي التمرد والشغب والفوضي‏.‏