لنعترف: أصبحت ثقافة الاستسلام أحد معالم الزمن العربي الذي نعيشه, حتي غدت وباء ظهرت أعراضه في العديد من الأقطار العربية. لذلك أزعم أن كتاب الأستاذ بلال الحسن الذي صدر تحت ذلك العنوان بمثابة وثيقة مهمة تفضح خطاب الاستسلام كما عبرت عنه بعض مراجعه.
(1)
كنت قد أشرت إلي مضمون الكتاب قبل أسبوعين, في سياق استعراض الشواهد والقرائن التي تسوغ وصف العام المنقضي بأنه عام الاختراق الكبير, ولفت نظري فيما تلقيته من أصداء ورسائل بعد النشر ثلاثة أمور. الأول أن ما اسميته بمثقفي المارينز ليسوا مقصورين علي مصر وحدها, ولكن أصبح لهم وجودهم وخطابهم المكشوف في طول الأمة العربية وعرضها, من المحيط إلي الخليج, الأمر الذي يعطي انطباعا قويا بأن ثمة خللا ما في أوساط المثقفين العرب.
الأمر الثاني أن عددا غير قليل من الرسائل التي تلقيتها طالبني بعرض كتاب ثقافة الاستسلام لبسط حقائقه أمام الناس. أما الأمر الثالث فقد كان دعوة إلي تشكيل تجمع ثقافي عربي باسم مناهضي الاستسلام, علي غرار التجمعات الأخري القائمة مثل مناهضي العولمة ومناهضي التطبيع.
وإذ أحيل الاقتراح إلي من يهمه الأمر من النشطاء لبحثه والتحقق من جدواه, فإن استجابتي ستكون محصورة في عرض مضمون الكتاب الذي صدر في بيروت قبل أسابيع قليلة. وكنت قد أشرت إلي أنه قدم قراءة نقدية لأفكار وخطاب خمسة من الكتاب العرب في اقطار مختلفة هم: كنعان مكية العراق ـ حازم صاغية لبنان ـ صالح بشير والعفيف الأخضر تونس ـ أمين المهدي مصري.
أما كتابات هؤلاء العرب فهي بالدرجة الأولي مقالات نشرتها صحيفة الحياةاللندنية, خلال السنوات الخمس الأخيرة, وتعلقت أساسا بالصراع العربي الإسرائيلي, والعلاقات العربية الأمريكية. وما فعله بلال الحسن أنه جمع الأفكار المتناثرة التي عبر عنها كل واحد منهم في كتاباته, وضمها جنبا إلي جنب الأمر الذي بين من خلاله للقارئ حقيقة وأبعاد الصورة المراد طبعها وترسيخها في أذهان المتلقين. ولم تكن المشكلة في طبيعة أو شطط الأفكار التي اقتنعوا بها, فكل واحد حر في قناعاته الشخصية, ولكنها كانت بالدرجة الأولي في تسويق تلك الأفكار, وبلبلة القراء بواسطتها, ومن ثم إشاعة ثقافة الهزيمة والاستسلام بين الناس.
(2)
خلاص العراق يكون بنبذ العروبة وإقامة الفيدرالية, أما خلاص الأمة العربية فيكون بالتخلي عن فكرة القومية العربية والتطبيع مع إسرائيل. هذه هي الفكرة المحورية في كتابات كنعان مكية, الباحث عراقي الأصل, الذي يقيم في الولايات المتحدة, ولكنه يحمل الجنسية البريطانية, وهو من خصص له مؤلف الكتاب الفصل الأول, الذي تضمن عرضا لأفكاره منذ أن بدأ حياته السياسية معارضا لنظام الرئيس السابق صدام حسين, وصار لاحقا عضوا نشيطا في الترتيبات الأمريكية للإطاحة به, ولإعادة رسم خريطة المنطقة العربية من بعده.
في عام91, بعد حرب الخليج الثانية وقيام الانتفاضة الشعبية العراقية التي نجح نظام صدام حسين في القضاء عليها, نشر مكية مقالا دعا فيه إلة إقامة نظام علماني في العراق يغلب عليه التشيع باعتباره وصفا أمثل, لأن العلمانيين الشيعة أقل انجذابا للقضايا القومية, زاعما في هذا الصدد أن العروبة هي شأن سني إلي حد بعيد. وكانت تلك هي المرة الأولي التي تطرح فيها فكرة الانتقاص من عروبة العراق, علي أساس من التحليل الطائفي.
استمر مكية يدعو إلي فكرته في كل مناسبة. إذ في دراسة قدمها إلي معهد أمريكان انتربرايز بواشنطن2002/10/3 كرر فيها قوله إن العراق يجب أن يكون لكل أبنائه, مما يتطلب أن يكون عراقا غير عربي ـ كما أنه لن يكون ديمقراطيا إلا إذا كان فيدراليا. بين العرب والأكراد.
الفكرة استقبلت بترحيب ملحوظ في الدوائر الأمريكية, حولت صاحبها إلي واحد من المتحدثين البارزين عن مستقبل العراق في مراكز الأبحاث ومعامل اتخاذ القرار. رفع من رصيده لدي تلك الدوائر أن الرجل أقام علاقة جيدة مع الإسرائيليين, وزار تل أبيب عدة مرات, التي منحته جامعتها شهادة الدكتوراه الفخرية.
في تطوير لفكرته ربط مكية بين وجود الأنظمة العربية المستبدة وبين الصراع العربي الإسرائيلي, كأن العالم العربي لم يعرف الاستبداد ـ في اليمن مثلا ـ قبل ميلاد دولة إسرائيل ـ وبني علي ذلك أنه لكي يتخلص العرب من الاستبداد, فيتعين عليهم أن يتخلوا عن صراعهم مع إسرائيل. وفي رأيه أن ذلك لن يتحقق إلا إذا تخلصوا مما أسماه ايديولوجية القومية العربية, وما استصحبته من دعوات للتضامن أو الوحدة العربية.
في هذا السياق فإنه يدعو إلي نسيان الماضي وتجاوز التاريخ وبالتالي غض الطرف عن كل ما جري في فلسطين طيلة القرن الماضي, ومن ثم التطلع إلي المستقبل وحده والتلعق بآماله ومنافعه ـ في هذا الصدد يقول ما نصه:يتطلب البدء بتكلم لغة السلام مع إسرائيل إعطاء الأولوية لحاجات المستقبل بدل مفاهيم وتفاسير الماضي, بما في ذلك مشاعر الظلم أو المرارة المشروعة التي يشعر بها الكثير من الفلسطينيين.. علينا أن ننبذ بصورة نهائية تلك السياسات القائمة علي التشبث المهووس بالتاريخ, وما فيه من مظالم
ـ لاحظ أنه يطالب العرب وحدهم بنسيان التاريخ, ولا يطالب الإسرائيليين الذين كل مشروعهم خارج من رحم التاريخ.
(3)
خيط التطبيع المجاني مع إسرائيل الذي دعا إليه مكية رصده المؤلف في مقالات مشتركة كتبها كل من حازم صاغية وصالح بشير, وهما يبسطان المسألة علي النحو التالي:
ـ الافتراض الأساسي أن الإسرائيليين المتفوقين اقتصاديا لا يجدون في العالم العربي اليوم الجاذبية التي تطلق حماسهم للسلام معه. باعتبار أن المنطقة العربية ليست مثالا يحتذي في أي شيء!. خصوصا في ظل هيمنة الثقافة غير الديمقراطية عليها الأمر الذي يؤسس قاعدة صلبة لعجزنا عن مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي.
ـ إضافة إلي ذلك فإن فكرة السلام بذاتها ما تزال مرفوضة في المنطقة, وهذا يصح علي العرب, كما يصح علي الإسرائيليين ـ فالإسرائيليون يرفضون السلام بسبب الهواجس الأمنية, والعرب يرفضونه بسبب نبذ التطبيع.
ـ العرب لا يستطيعون حل مسألة الهواجس الأمنية لأنهم لا يملكون القوة. وبسبب قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية فإن العرب يصبحون الطرف المتضرر من ابتسار العملية السلمية. وإذا كان المأزق الراهن عربيا أولا وأخيرا, فإن مسئولية المبادرة بالخروج منه تقع علي الجانب العربي.
ـ إزاء ذلك ربما أصبح التطبيع الوسيلة الوحيدة المتاحة بين أيدي الجانب العربي.. والوسيلة التي تسبق بقية مراحل السلام, لا أن تكون ناتجة عنها ـ أما المبادرة إلي ذلك فهي بيد المثقفين والحيز الثقافي.
هذا التشخيص أورده الكاتبان في وقت مبكر نسبيا مقالة نشرت في97/8/1 تحت عنوان لابد أولا من تذليل عقبتي الأمن والتطبيع, وفيها اعتبرا أن المشكلة عند العرب, وعليهم أن يبادروا الي حلها, بإشاعة الثقافة الديمقراطية والمبادرة إلي التطبيع مع إسرائيل لكسب ثقتها, وهذا التطبيع ينبغي أن يبدأ ثقافيا, بنسيان القضية الفلسطينية والقفز فوقها.
ثمة نص آخر غريب نشر للكاتبين في2000/12/18 اعتبرا فيه أن الانتفاضة الفلسطينية من تجليات معركة العرب ضد الحداثة ـ والحداثة في هذه الحالة هي إسرائيل. وذهبا في هذا الصدد إلي القول: إن الانتفاضة حركة دون حداثة, في حين أن إسرائيل حداثة دون حق.
ليس ذلك فحسب, وإنما تدين المقالة مواجهة العرب للاستعمار, وتعتبر أن الانتفاضة ضد حداثة إسرائيل بمثابة امتداد لمنهج عربي وقف ضد الاستعمار الغرب رافضا الحداثة التي يمثلها, وتخلص إلي نتيجة تطالب بضرورة المفاضلة بين تكاليف مكافحة الغرب وبين انعكاس ذلك علي صلتنا بالحداثة, بحيث إذا تبين أن خسارتنا الأكبر في هذه الحالة, عزفنا عن المواجهة والمكافحة.. وهو التحليل الذي يدعونا في نهاية المطاف إلي القبول بالاستعمار والقبول باحتلال إسرائيل.
بعد الضوء الذي سلطه علي موقف الكاتبين, تتبع المؤلف كتابات حازم صاغية الرافضة لفكرة الثورة والنضال, والداعية إلي التحالف مع الاستعمار حتي لا نبقي خارج الحداثة.. الأمر يخلص منه القارئ إلي أن الفشل العربي في مواجهة الحركة الصهيونية وقيام دولة إسرائيل, لا تتحمل مسئوليته القوي الاستعمارية التي دعمت الحركة الصهيونية وفتحت لها أبواب الهجرة إلي فلسطين, بل يتحمل العرب مسئوليته, لأنهم اختاروا ألا يتحالفوا مع الاستعمار, ومن ثم بقوا خارج الحداثة ودونها.
في مسعي تفكيك القضية الفلسطينية وتفريغها من مضمونها, فإن الكاتب يقلل من أهمية الاستيطان وتقطيع الأراضي الفلسطينية, مدعيا أن الجغرافيا لا أهمية لها, وأن الأهم هو السلام, وفي الوقت ذاته فإنه يدعو إلي ابعاد ملف اللاجئين عن أي تعامل مع القضية الفلسطينية, محبذا فكرة اسقاط حق العودة لهم, ثم إنه يتهم مجتمعاتنا بالتخلف لأنها لم ترتق بعد إلي مستوي القبول بالتطبيع, ويذهب إلي أنها تعظم الشهادة, لأنها مجتمعات زراعية تعيش ثقافتها علي هامش الفولكلور.
أكثر من ذلك فإن الكاتب حين يتحدث عن أهمية التطبيع الثقافي, فإنه يدعونا إلي إعادة النظر في مشروعية وجود إسرائيل, بحيث تري كحق وليس كأمر واقع, ذاهبا في هذا الصدد إلي أن لها الحق في الوجود بالمنطقة العربية كما للسوريين واللبنانيين والعراقيين. لأن وجودها هو من نتائج الحرب العالمية الأولي, كما أن وجود لبنان وسوريا والعراق كدول هو من نتاج تلك الحرب ـ لاحظ أن الكاتب يتجاهل حقيقة أن الدول العربية المشار إليها لم تغتصب أرض أحد, ولم تستجلب شعوبها من الخارج وتطرد أصحاب الأرض كما في الحالة الإسرائيلية ـ ثم إن وجود إسرائيل هو أيضا من نتائج المحرقة النازية في الحرب الثانية, التي تمثل مأساة إنسانية كبري, لابد أن يتعاطف معها العرب, علي نحو يجعلهم يتفهمون الأسباب والمبررات الأخلاقية لقيام دولة إسرائيل ؟!.
(4)
الشرق معقد لأنه مازال محكوما بجنون اللامعقول, الذي يجعل الرموز والمباني أقدس من الحياة. معقد هو الشرق لأنه لم يعرف بعد ثقافة السلام, أي التسامح والتسليم بالحق في الاختلاف, والقدرة علي وضع النفس موضع الآخر لفهمه وتفهمه, للتفاوض معه لا مع النفس.
هذا واحد من نصوص عدة قدم بها بلال الحسن الموقف الفكري للكاتب التونسي, الشيوعي السابق, عفيف الأخضر, وهو نص مفتاح, لأنه يفسر هجاء الأخضر وازدراءه لكل ما هو عربي وإسلامي. في الماضي والحاضر, ومن ثم حماسه المفرط لما هو أمريكي وإسرائيلي بطبيعة الحال. وهذا الحماس جعله ينحاز ضد المقاومة الفلسطينية, وبالذات العمليات الاستشهادية, ويتبني الموقف الإسرائيلي الذي يتهم العرب بعامة والفلسطينيين خاصة بأنهم ضد السلام.
في التعبير عن إعجابه بالنموذج الإسرائيلي دعا الأخضر الفلسطينيين والعرب إلي ممارسة ديمقراطية تستلهم النموذج الإسرائيلي, واعتبر أن إسرائيل هي الحل ـ قائلا: إن وجود إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط يمكن تحويله من خطر إلي فرصة, بما هي دولة غنية بالمعونة الأمريكية؟! وحديثة وديمقراطية قد تكون قدوة حسنة لمحيطها الفقير, التقليدي واللاديمقراطي, وتكون قاطرته نحو الحداثة.. ومن خلال بناء سياسة مشتركة.. لإنقاذ البحث العلمي العربي.. لأن إسرائيل تضاهي الغرب في هذا المجال.. ومن خلال زراعية مشتركة, لأن تحديث الزراعة في إسرائيل يضاهي الغرب. ومن خلال سياسة اقتصادية مشتركة تنقلنا إلي عالم المعلوماتية. الأهم من ذلك كله أن إسرائيل ـ في نظر الكاتب ـ قادرة علي أن تساعدنا علي تحديث اللغة العربية علي غرار اللغة العبرية(!) ـ مقالة نشرت في1999/7/24.
ذلك كله ـ بما فيه تحديث اللغة العربية! ـ يمكن أن يحدث للعالم العربي بشرط واحد: أن يسلم للإسرائيليين بما يريدون وينسي القضية الفلسطينية!.
خامسهم كاتب هاو غير معروف في مصر اسمه أمين المهدي افسحت له جريدة الحياة صفحاتها حينا من الدهر ـ صار يكتب بعد ذلك في بعض الصحف الطائفية والإسرائيلية ـ فنشرت له مقالات محدودة خصصها لهجاء العرب والتغزل في الحركة الصهيونية والإعجاب المفرط بإسرائيل إلي حد الدفاع عن الاستيطان, الذي اعتبر أنه زحف إلي فلسطين, بعدماه تبلورت أسسه الاجتماعية في اطار فكر متحرر أوروبي النشأة. وفي كتاباته ردد مختلف المقولات التي سبق أن مررنا بها, ولكنه تفوق علي أقرانه بامتداحه للحركة الصهيونية التي قال عنها في إحدي مقالاته نشرت بالحياة في2000/2/11: جاءت الصهيونية إلي بلاد العرب, عبارة عن ايديولوجية خلاصية شعبية, وهنا تكمن في دوافعها وجوانبها الإنسانية وسلكت الصهيونية في التنفيذ مسلكا علمانيا عقلانيا, مؤسسيا وديمقراطيا.
إن المشكلة ـ للأسف ـ ليست فقط في الترويج لهذه الثقافة البائسة, ولكنها أيضا في الأجواء التي هيأت مناخا مواتيا لإطلاق ذلك القدر من السموم من خلال المنابر الإعلامية العربية. ويتضاعف الأسف إذا أدركنا أن تلك الجرعة من السموم جري بثها من منبر واحد, فما بالك إذا جمعنا الكتابات المماثلة التي حفلت بها المنابر الأخري.
- آخر تحديث :
التعليقات