تقول التقارير الأميركية الخاصة إن العراق يعوم وسيعوم أكثر في بحيرة من الدماء. خبراء البنتاجون وصناع القرار في واشنطن منقسمون بشكل حاد بين متشائمين جدا ومتفائلين قليلا، الانتخابات التي ستجري بعد أسبوعين ستنهي ورطتهم الكبرى في العراق، ومع اقتراب موعدها انتهت مساعي واحتمالات تأجيلها فهاهم وزراء خارجية دول الجوار يدعمون إجراء الانتخابات في موعدها، ومعهم الرئيس المصري حسني مبارك بل وشيخ الأزهر يدعو السنة المقاطعين للمشاركة فيها وفي موعدها المحدد.
الأعين مصوبة على 30 يناير بدون تفاؤل، والقلوب خاشعة، قلقة مترقبة للأسوأ، والأكثر إيلاما على نفوس من يخشون الضرر القادم ضعف القوة وقلة الحيلة، فصاحب القرار والقدرة على التأثير ليس برئيس أو ملك، ولا بوزير دفاع يحرك الطائرات والناقلات وإنما مجرد مطلوب للعدالة، لم يره أو يجتمع به أحد، لا يمكن مفاوضته، ولا الالتقاء معه على كلمة سواء، بل حتى يشكك البعض في وجوده، إنه السيد الغامض أبو مصعب الزرقاوي الذي لا يهم من هو وأين يوجد فهو رمز إلى حركة وتيار رافض غاضب وجد بفضل التخبط والتسرع الأميركي بيئته المناسبة التي ينمو ويرتع فيها.
يجب أن نعترف أن القاعدة هي التي تصنع الحدث اليوم في العراق، وهي بتكتيكها القديم العتيق الذي جربه يوما في سوريا ثائر غاضب اسمه مروان حديد نجح في جر حركة الإخوان المسلمين السورية كلها إلى " ثورة إسلامية" لم تردها أو تخطط لها ناهيك أن تستعد لها، وانتهت بأن اتخذت شكلا طائفيا لا تزال سوريا ترزح تحت ثقله، موضوع حساس نريد أن ننساه ولكن من المفيد أن نفتح الدفاتر القديمة للعبرة والاستفادة، ولكن قلما نفعل ذلك بل نستكبر عن المراجعة والاعتبار من عثرات الماضي، ولا يفهمن أحد إنني أقول بشبه بين الإخوان والقاعدة وإنما أشبه بين فعل مروان حديد في سوريا والقاعدة التي تجر اليوم الطائفة السنية العربية كلها في العراق إلى حرب أهلية طائفية ستكلف الشعب العراقي الكثير، فماكينة عنفها قاسية، لا تحسب ضحاياها فمن تقتل ممن تقرر كفره "إلى جهنم وساء سبيلا " ومن قتل من الصالحين الأبرياء فلقد اختصرت لهم الطريق إلى معاد كل مسلم، وخلصته حسب زعمها من دار الفتنة والشهوات إلى عالم اليقين والخلود" فيبعث على نيته يوم القيامة". ولنعد إلى أرقام ضحايا فتنة الجزائر حيث كان التطبيق الأول لهذا الفقه المريض الذي أفرز القاعدة.
ننشغل بتحليل الموقف الأميركي، مؤملين أنهم قادرون على إصلاح ما أفسدوه والمنطق الصحيح أن من أفسد شيئا يصلحه، ولكن لا يجب التفاؤل هنا، واستمعوا إلى صانع الحرب الأميركي وزير الدفاع رامسفيلد يحلل الوضع العراقي في فبراير 2002 " هناك معروفات معروفة، وهناك أشياء نعرف أننا نعرفها، وهناك غير معروفات نعرفها. ويمكن القول إن هناك أشياء نعرف أننا لا نعرفها، ولكن هناك غير معروفات وغير معروفة، ما يعني أن هناك أشياء لا نعرف أننا لا نعرفها " فإذا استطاع هذا الرجل أن يشرح لنا ما يقول ونفهمه فربما يستطيع أن يصلح ما أفسده في بلاد الرافدين!
هذا الذي يعرفه وما لا يعرفه رامسفيلد، فماذا نعرف نحن؟ نعرف الآن أن الانتخابات ماضية في موعدها لا ريب فيها، وأن من الصعب توقع نتائجها فليس في عراق ما بعد صدام أحزاب كبرى وإنما فسيفساء حزبية وعرقية ودينية ومذهبية وسياسية، ولكن نعرف أن في ظل الظروف التي لا يمكن أن تتغير خلال الأسبوعين القادمين إلا بمعجزة، فإن الشيعة بمختلف تياراتهم سيكونون المهيمنين على المجلس الوطني التأسيسي المنتخب ومعهم الأكراد، أما السنة العرب فسيكونون الحلقة الأضعف، ومن يفز منهم سيكون متهما في وطنيته ليس من السيد الزرقاوي وحده بل من الشارع العربي المهيج، ومهدرا دمه، مهددا بالقتل كل صباح يخرج من بيته إلى المجلس التشريعي، وسيزيد ذلك من شعور السنة العرب بالظلم والتهميش بدون أن يسألوا أنفسهم كيف وقع هذا الظلم عليهم، وسيحملون العالم كله مسؤولية ذلك دون أن يحملوا ذاتهم وقراراتهم الخاطئة عندما سلموا قيادهم لمجهول.
ونعرف أيضا أن قوى سنية ستبقى خارج المجلس تستمد قوتها من العنف الذي تسميه مقاومة وليس من طرحها السياسي، ونعرف أيضا أن ازدياد أعمال العنف في المناطق السنية سيشل قدرة الشركات المتعاقدة مع الاحتلال، ولولا أهمية الولايات المتحدة ومصالحها لما بقيت في العراق كله، وبينما تحقق إصلاحات في البنية التحتية في الجنوب والشمال فإنها عاجزة عن العمل في المناطق السنية ومرة أخرى سيشعر هؤلاء بسبب آخر للشعور بالظلم والتهميش وبالتالي الغضب الذي يجرهم أكثر إلى مشروع القاعدة فتتسع رقعة تأييدهم وحمايتهم للمقاومين الذين قدرت جهات مستقلة عددهم بأنهم يزيدون على 200 ألف عراقي مع عدد صغير من الأجانب ينمو باستمرار. ولن يسأل السنة العرب عن سبب تخلفهم عن الآخرين وإنما سيتهمون الحكومة القادمة بالطائفية والتحيز.
ونعرف أيضا أن الأميركيين باتوا يتمنون الخروج من مستنقع الدم العراقي وتزداد قناعتهم بذلك كلما فشلوا في وقف العنف، ونعلم أن القاعدة تعلم ذلك، ونعلم أيضا أن حرب الأخيرة في العراق لم تكن بسبب الاحتلال فقط، بل إن الاحتلال هو الذي شرعها ووفر البيئة المناسبة "لجهادها" من أجل الدولة الإسلامية الخالصة على منهج السلف الصالح ومذهب أهل السنة والجماعة واختارت من أجل ذلك أكثر التفاسير صرامة ما يلغي الآخر ويجعله في حال حرب أو دفاع عن وجوده، ولن توقف "جهادها" حتى لو قال الأميركيون بقول وزير الخارجية المنصرف كولن باول، إن مهمتهم في العراق ستنتهي بإجراء الانتخابات وقيام حكومة منتخبة ووضع دستور للبلاد فهي سترفض نتائج الانتخابات والدستور"الطاغوتي" الذي سينبثق عنها.
بل حينها ستعلن القاعدة أن تباشير النصر لاحت وأن الرايات السود الآتية من الشرق تحتشد لمعركة الإيمان الفاصلة بإسقاط الحكومة الطاغوتية الكفرية، ونعرف أن أقوياء هذه الحكومة هم شيعة وأكراد لن يقبلوا بذلك فيضيعوا فرصة تاريخية جاءتهم تسعى، ونعلم أن الأميركيين وهم يؤسسون اليوم جيشا عراقيا جديدا وقوات خاصة مدربة واستخبارات عتيدة لحرب القاعدة في بلاد الرافدين لا يجدون حماسة واستعدادا للتعاون سوى من الشيعة بألويتهم التي أسسوها في إيران أو ضواحي فرجينيا، أو من البشمركة الكردية، ومن الصعب لوم هؤلاء على اغتنامهم فرصة تاريخية يضيعها غيرهم، يعززها شعور أنهم حرموا من السلطة لعقود بل يقول الشيعة منذ فجر الإسلام، ولن يفيد جدلنا لتفنيد صحيح قولهم من خطأه فما في النفوس كامن لا يصححه منطق أو حجة تاريخية، وإذا شهدنا في الفلوجة شيعة وأكرادا "تصادف" أنهم كانوا من الجيش العراقي الذي ساند الأميركيين في حربهم على المقاومين الذين "تصادف" أنهم سنة عرب، فإننا سنشهد هذه الصورة الممزقة في كل العراق. هل هناك صورة أوضح لحرب أهلية كاملة القبح في العراق أكثر من هذه؟ بالطبع هناك أكثر من ذلك، فللحروب الأهلية إفرازاتها البشعة من تهجير، ونهب واغتصاب وانتقام متبادل، وتسلط الغوغاء الذين كلما ولغوا في عنفهم الفوضوي المعتاد كلما انزلق مزيد من المتفرجين والعاضين على جذع شجرة معهم إلى أتون الفتنة، وكلما فرك منظرو القاعدة بعيدا في كهوفهم أيديهم جذلا قائلين "هذه بشارة التمكين، بتميز الحق عن الباطل" فتتناقل الأخبار إلى خارج العراق تتحدث عن الفظائع التي تمارس ضد أهل السنة أو الشيعة أو الأكراد فينزلق آخرون من خارج الحدود إلى محرقة الفتنة، فتجمع التبرعات سرا، ويتسلل المزيد من طلاب الشهادة وتمضي السنوات ثقيلة، تكبر فيها الفتنة وتتعطل خلالها التنمية ومسيرة الإصلاح، ويصل شرها وشرارها إلى جيران العراق وتتبادل الاتهامات والتحذيرات.
صورة قبيحة، بل كابوس أدعو الله أن لا يكون. فمن هو المسؤول ومن هو المتسبب؟ الأميركيون أم القاعدة؟ الإجابة غير مهمة اليوم والمهم هو كيف نمنع كل هذا؟ هل يعرف أحد كيف؟

*كلمة أخيرة:
عندما كان أسامة بن لادن يعد العدة للجهاد في اليمن الجنوبي عام 1989 والذي كان يحكمه وقتها نظام ماركسي متصدع، وكان يوزع المال ويجند أبناء الجنوب ويدرب "كتائب الزرق" في أفغانستان، اجتمع به صديق وأخ قديم له وتجادلا في الموضوع، احتد الصديق بعد طول جدال وقال له "لن تهنأ حتى ترى أبناء العم يقتل بعضهم بعضا، فيثأر ثالث لمقتل من سبقه حتى تغوص قبائل الجنوب اليمني في الدماء" أطرق أسامة ولم يجب، واستمر في مشروعه حتى أوقفه من أوقفه.