منذ ثلاث سنوات، كان الملاحظون في واشنطن يرون أن التحالف بين الولايات المتحدة وبولندا هو الطريق للهيمنة على الاتحاد الأوروبي. كان من رأي هؤلاء الملاحظين، أن بولندا هي الدولة القادرة على تجميع دول حلف وارسو السابق، لمقاومة الضغوط التي تشنها باريس وبروكسل، والتخفيف من وطأة ظاهرة العداء لأميركا في دول أوروبا " القديمة". فقيام بولندا بذلك كان سيضمن تقويض الأسس أو الدعامات التي يمكن أن يستند اليها أي تحد استراتيجي للولايات المتحدة من أوروبا، التي كان المحافظون الجدد يطلقون عليها في ذلك الوقت " أوروبا العظمى".
وفي الحقيقة أنه- إذا ما نحينا الاقتصاد جانبا- يمكننا أن نقول إن معظم الحكومات الأوروبية، كانت في ذلك الوقت، ولا زالت حتى الآن في الحقيقة، تتعرض إلى حملات تخويف من قبل الولايات المتحدة، علاوة على أنها كانت منقسمة على ذاتها بسبب تعقيدات داخلية في الأساس. مع ذلك يمكن القول إن الوضع متحرك وليس ثابتا، بل وإنه قد غدا أكثر حركية بسبب تداعيات الأزمة الأميركية في العراق، وبسبب قيام الاتحاد الأوروبي الموسع باكتشاف الإمكانات الهيكلية والاستراتيجية لحالته الجديدة.
والحالة البولندية على وجه التحديد مهمة بسبب ما تكشف عنه بصدد الأوهام الأوروبية، وإساءة استخدام واشنطن لقيادتها للتحالف خلال الثلاث سنوات الماضية. وقد ورد ذكر الحالة البولندية وإن بقدر كبير من الحصافة في ورقة ممتازة صدرت مؤخرا بواسطة معهد الدراسات الأمنية التابع للاتحاد الأوروبي، وأعدها " مارسين زابوروفسكي" الخبير بالمركز البولندي للعلاقات الدولية.
والتاريخ البولندي منذ القرن الثامن عشر هو في معظمه تاريخ كانت فيه بولندا دائما ضحية للقوى الأوروبية الكبرى. فخلال الفترة من 1772 إلى 1918 كانت بولندا مقسمة كليا أو جزئيا بين روسيا وبروسيا والنمسا. وهذه التجربة المريرة صبغت في الحقيقة كل قرار قامت بولندا باتخاذه منذ سقوط الشيوعية.
لم يقدر لبولندا أن تتمتع بالاستقلال سوى لفترة قصيرة بين عام 1918 وعام 1939، عندما تم اجتياحها من قبل القوات النازية. وتعرضت بولندا لخسائر فادحة في سنوات الحرب العالمية الثانية، وبعدها أصبحت مجرد دولة تابعة تدور في الفلك السوفييتي. وظلت بولندا على هذا الوضع حتى ظهور حركة التضامن، ثم التفتت البطيء للحكومة البولندية الشيوعية حتى سقوطها في النهاية 1989.
والدور الذي لعبته أميركا في إعادة تأسيس بولندا في 1918، ومرة أخرى في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، جعل البولنديين يكنون دائما شعورا بالعرفان تجاه أميركا. وبسبب هذا الشعور كان البولنديون على استعداد لتصديق أن الولايات المتحدة هي الحامي أو بمعنى أدق " الضامن الأمني" الذي يتطلعون إليه منذ قرون التقسيم.
وانضمت بولندا إلى الناتو عام 1999. وسرعان ما رحبت بها الولايات المتحدة واتخذت منها شريكا ذا وضعيه خاصة، بل وقائدا محتملا للأعضاء الآخرين التابعين لمنظومة حلف وارسو والذين كان متوقعا انضمامهم للحلف. وفي عام 2002، قامت أميركا بتقديم قرض لبولندا بقيمة 3,8 مليار دولار كي تقوم بإعادة تزويد قواتها الجوية بطائرات من طراز إف-16 الأميركية المقاتلة، وهو ما أثار استياء حكومات الاتحاد الأوروبي التي كانت تأمل أن تقوم ببيع طائرات أوروبية الصنع إلى بولندا.
وقد ترافق القرض مع وعود سخية بتوقيع عقود من الباطن، ونقل تكنولوجيا واستثمارات في الصناعات البولندية. وقد تم ذلك على خلفية الحرب الأميركية الوشيكة في ذلك الوقت على العراق. وأرادت بولندا أن تعبر عن شكرها للكرم الأميركي تجاهها فتعهدت بتقديم قوات كوماندوز للمشاركة في الغزو ثم قامت بتقديم 2,500 جندي بعد ذلك للمساهمة في تحقيق الاستقرار في العراق، بالإضافة إلى تولي المسؤولية عن منطقة من المناطق الأمنية الثلاث التي قام الاحتلال الأميركي بتقسيم العراق إليها.
في نظر الحكومة والرأي العام البولندي، كان ذلك بمثابة استثمار مهم في الحلف الأميركي. وعلى هذا الأساس كان التوقع السائد أن تلك العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، سوف تتحول إلى مصدر قوة لبولندا في علاقاتها غير المريحة مع الأعضاء الآخرين في الاتحاد الأوروبي.. وأنها ستساهم في تعزيز صورة بولندا كلاعب رئيسي في أوروبا الوسطى وكحلقة وصل بين الناتو وبين الاتحاد الأوروبي في الشؤون الأمنية.
وكما يقول "زابوروفسكي"، فإن أيا من تلك التوقعات لم يقدر له أن يتجسد على أرض الواقع. فتحويل التكنولوجيا المتقدمة الذي كان متوقعا من وراء صفقة إف- 16 لم يكن مرضيا، كما أن الشركات البولندية لم تحصل على عقود ذات قيمة في العراق. وكان من الأمور التي ينظر إليها على أنها قد أصبحت حقيقة مسلما بها كمحصلة لتلك العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وبين بولندا، أن يتم السماح للمواطنين البولنديين بالسفر إلى الولايات المتحدة بدون تأشيرات.
ومما زاد من درجة الإحباط الذي شعر به البولنديون، أن الحرب العراقية لم تكن قصيرة وحاسمة كما توقعت بولندا قبلها، وإنما طويلة وممتدة ودون نهاية قريبة تلوح في الأفق. ولم يكن هناك أسلحة دمار شامل، كما أن مساهمات القوات الأخرى في المنطقة الأمنية المخصصة لبولنديين راحت تقل تدريجيا. فالأوكرانيون سوف يرحلون خلال ستة شهور بل وربما قبل ذلك. والغالبية العظمى من الشعب البولندي تريد من حكومتها أن تقوم بسحب قواتها من هناك، مما اضطر الحكومة بسبب هذا الضغط إلى النظر في احتمال مغادرة العراق هذا العام( هذا إذا ما افترضنا أن احتلال العراق لن يسقط قبل ذلك).
علاوة على ما تقدم، اتضح لبولندا أن عضوية الناتو ليست إلا استثمارا عديم الجدوى، وخصوصا عندما تحولت الولايات المتحدة إلى تبني النهج الأحادي في التعامل على الساحة الدولية. كما تضاءل اهتمام واشنطن بالأمن الأوروبي مما جعل بولندا بعد توسع الاتحاد الأوروبي شرقا، تواجه هموما جديدة بشأن علاقاتها مع أوكرانيا، وليتوانيا، وبيلاروسيا، ومولدافيا، بل وروسيا ذاتها.
في البداية قامت بولندا بمعارضة مبادرات سياسة الأمن المستقل لأوروبا، ولكن الدور الذي لعبته في العراق كمسؤولة عن منطقة من المناطق الأمنية الثلاث الرئيسية في العراق، قد أثمر في مصلحة الاتحاد الأوروبي، الذي اكتشف أن بولندا يمكن أن تصبح عضوا أساسيا في مجموعة القيادة المعنية بالشؤون الأمنية في الاتحاد. وقد عرضت بولندا في هذا السياق تقديم مساعدة كبيرة لما يطلق عليه " مجموعة المعركة" التابعة للاتحاد الأوروبي والتي تم تشكيلها بالتعاون مع ألمانيا.
لقد اكتشف البولنديون ما كان يجب عليهم أن يكتشفوه منذ البداية وهو أن مصالحهم الرئيسية مع الأوروبيين وليست مع الأميركيين. وفي الحقيقة أنه كان يجب عليهم أن يتعلموا درسا مهما من خلال تجاربهم التاريخية السابقة مع القوى الكبرى وهو أن الأقوياء يقدمون دائما وعودا لا يراعونها، ويطلبون خدمات لا يقدمون شكرا عليها، وأن الدول الصغرى تحتاج إلى أصدقاء كي تعيش وتزدهر أكثر مما تحتاج إلى قوى عظمى تدخل معها في تحالفات غير متكافئة.