استعدوا... هناك تقرير أمريكي مهم، يقول إن عام 2020، ربما يكون عام «الخلافة الإسلامية»! اعتقد أن حزب التحرير الإسلامي، والجماعات الدينية المسيسة من المسلمين، سيكونون اكبر الفرحين على طريقة : والحق ما شهدت به الأعداء.
سنرى، بعد قليل، هل تمثل هذه النبوءة حقا، مصدرا للراحة أم للقلق، لنا نحن المسلمين، وعلينا أن نتفحصها، بغض النظر عن الغرب أو «الصليبيين» والنصارى.
في التفاصيل، حذر التقرير الأخير لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، الذي نشر قبل أيام في صحيفة «الحياة»، من تحول العراق إلى «أوسع بقعة إرهابية» في العالم سنة 2020، بفعل تصاعد متوقع للإسلام السياسي، و«تناثر للمجموعات الإرهابية» بعد زوال تنظيم «القاعدة».
وأضاف انه في جملة التغيرات التي يتوقع حدوثها، أو يحذر من حدوثها بالأحرى، هو «استنهاض خلافة إسلامية» لتشكل «تحدياً صارخاً للعادات والمبادئ الغربية».
واعتبر التقرير الواقع في 119 صفحة، وشارك في إعداده 1000 خبير خلال 30 مؤتمراً في خمس قارات، أن تنظيم «القاعدة» في مرحلة الزوال، متوقعاً أن تحلّ محله «مجموعات لا مركزية إسلامية، تستوحي العنف والإرهاب الدولي، وتكون أكثر انتشاراً جغرافياً»، خصوصاً في بقع «تتفرع من العراق والشرق الأوسط عموماً وتمتد إلى دول إسلامية أخرى». وأشار التقرير إلى أن العراق تحول «ملجأ للإرهابيين» ومقراً لـ«تدريب أعضاء جدد وتطويع آخرين، وتزويدهم بوسائل تقنية ومهارات لغوية».
ربما أرضت فريقا منا هذه المخاوف الغربية من نهوض «المارد الإسلامي»، كما يحلو لبعضنا التشدق والزهو بذلك، ولكن هذا الإرضاء اللحظي أو الوهمي سرعان ما يتلاشى تحت أضواء التأمل.
وأول لمحة تظهر من وراء ستار التأمل، لو تحقق هذا التوقع، هو هيمنة طالبان أو «مجاهدي» العراق، وقادة الحرب في أفغانستان، على ظهر الخلافة، أليسوا أمراء المؤمنين؟ وأليسوا هم الأنشط من اجل تحقيق هذه الأمنية، هذا إذا أردنا التحدث بشكل مباشر وصريح؟
ليس مهما أننا قد نخيف الغرب، ولو بمنح حياتنا كلها لمن يلعب بها لعبة الروليت الروسي، المهم أن نكون قد نفعنا أنفسنا وحمينا مستقبلنا، واستطعنا أن نبني عقلاً يتجه صوب البناء لا الهدم، والمستقبل لا الماضي.
إن استفحال الهاجس السياسي، والحرص الحارق، من قبل جماعات الإسلام المتسيسة، على الإمساك بالدولة، وإدارتها بمقتضى مراد الله، من موقع رؤيتهم بطبيعة الحال، وفقط..! أي حصر الطريق نحو النهوض، بوجود سلطة سياسية، وتهميش أو حتى شطب كل الأسئلة الأخرى، التي تمتد مثل الأبد في سماواتنا .. إن هذا لهو أمر مضر ومضلل جدا.
فمن قال إن مشكلة المسلمين الآن هي في فقدان «الخلافة» الإسلامية ؟ من قال ؟ وهل تخلف المسلمين التنموي وغيابهم التام عن سوق الإبداع الإنساني، وانعدام إسهامهم، تقريبا، في الإنجاز العلمي، وتدهور الحريات وتخشب السياسة، واضطهاد المرأة... الخ، نابع من سبب وحيد أوحد هو: غياب دولة الخلافة الإسلامية ؟
ألا نسأل: وماذا جرى أصلا عندما كانت آخر الأسر السياسية القديمة التي سميت مملكاتها بـ«الخلافة»، أعني بني عثمان، تنجب العشرات من الخلفاء وأمراء المؤمنين؟ هل حدثوا أبناء المسلمين وطوروهم، ومهدوا لهم طريق العلم والتنمية، عندما كانت أوروبا، عدوتها باسم الدين، تفعل ذلك لشعوبها؟ هل قدم بنو عثمان شيئا يذكر لـ«الرعية» ينقلها من حال إلى حال، ألم تمت دولة بني عثمان لأنها لم تعد قادرة على استحقاق الحياة. صحيح أن الغرب تآمر عليها، كما تآمر عليها كثير من أبناء العرب والمسلمين، وهذا أيضا شيء طبيعي، لأنها هي كانت تتآمر عليهم، أي أنها حرب متبادلة، وسبق أن تآمرت دول أوروبية مسيحية مع الخليفة العثماني المسلم، ضد دولة أوروبية مسيحية أخرى، فقط لنقرأ تاريخ العلاقة والتحالفات بين ملوك فرنسا وخلفاء بني عثمان. وهنا ننفتح على نقطة مضيئة وهي: اننا حينما نبتعد عن التاريخ، ولا نعيشه واقعا، يصبح أسطورة، ويتحول إلى وهم خطير، إياك أن تقترب منه!
لم يكن المعاصرون لدولة بني عثمان، أو لدولة العباسيين، أو الأمويين، وكل السلطنات الإسلامية، يرون فيها ذلك الألق، والإشعاع الإلهي، والرمز الرومانسي، كما يحاول كتاب التاريخ الجدد من وعاظ التلفزيون و«الحكواتية» أن يروجوه عن التاريخ.
لقد رأى فيها معاصروها سلطة زمانية لا روحية، يحق لهم أن يختلفوا معها، أو حتى يثوروا عليها، والمفارقة أن أكثرهم حينما يثور عليها، يفعل ذلك باسم الله والشرعية، على الأقل ظاهريا، ثم حينما يتولى مقاليد الأمر، ويذوق حلاوة السلطة، ويدخل في شرطها، يصبح هو نفسه عرضة للنقد الديني بحجة عدم استكمال المشروعية أو فقدانها... وهكذا دواليك، هذه هي «حدوتتنا» التي لا تنتهي!
ممن حاول أن يكسر هذا القيد العقلي، ويشك بالونة الوهم بدبوس السؤال، الشيخ الأزهري التنويري الشجاع علي عبد الرازق (1966).
وكتب كتابه الهام (الإسلام وأصول الحكم)، الذي أصبح هدفا للهجوم القاسي من الجميع، بداية من الأزهر الذي رد عليه وسحب منه شهادته العالية، ثم من حلفاء الملك المصري الذي كان يطمح أن يرث لقب الخلافة بعد أفول شمس بني عثمان، ومن عبدة وهم الخلافة ومؤسطريها، لكن إلى الآن لم يتم الجواب على أسئلة الشيخ الذي قال ببساطة: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعثه الله رحمة للناس، وهو رسول هداية ونعمة أهداها الله للبشر كلهم، وليس ملكا مشغولا بتأسيس دولة، واستشهد بنصوص من السنة والتاريخ.
قال في كتابه الفارق هذا «أنت تعلم أن الرسالة غير الملك، وأنه ليس بينهما شيء من التلازم بوجه من الوجوه، وأن الرسالة مقام والملك مقام آخر، فكم من ملك ليس نبياً ولا رسولاً، وكم لله جل شأنه من رسل لم يكونوا ملوكاً. بل إن أكثر من عرفنا من الرسل إنما كانوا رسلاً فحسب».
وكان لافتا ومربكا لمحرقي بخور الوهم التاريخي، أن يطرح الشيخ علي عبد الرازق على القائلين، بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) جاء من اجل الرسالة والدولة، أي بالوظيفة الدينية والدنيوية، وان كلا الأمرين ينطلقان من نبع الوحي والعصمة، وأن الدولة وإدارتها ليست من شأن الدنيا، أن يطرح عليهم سؤالا خطيرا.
خلاصة سؤال الشيخ، أنه إذا كان القائلون بان الدولة التي وجدت في العهد النبوي في المدينة، هي دولة وحي معصومة، وليس فيها اجتهاد دنيوي: فهل كانت تلك الدولة بكل مرافقها وأنظمتها وتفاصيلها... كاملة تامة، بحكم أنها استجابة للأمر السماوي العلوي التام الكامل ؟
وإذا كان الجواب بنعم، كما هو متوقع، فلماذا تغيرت هذه الدولة بعد صعود روحه الطاهرة إلى خالقها بقليل، ولماذا أحدث خليفته وفاروق الإسلام، الصحابي عمر بن الخطاب، «إحداثات» جديدة في الدولة، (إنشاء الدواوين... مثلا)، بل وخالف بعض طرق وأساليب دولة المدينة النبوية، في تشريعات الحرب والسلم، ( تقسيم ارض السواد في العراق، تعطيل حد السرقة عام الرمادة... مثلا)؟
صفوة القول: إن رسالة الإسلام اكبر من أن تُختزل في شكل الدولة ومسماها، الإنسان كائن أعقد من السياسة، وأكثر احتياجا من أن يحشر في زنزانة الهم السياسي، فهل من المعقول أن يصبح الشغل السياسي، هو عنوان الإسلام الرئيسي (هل أقول الوحيد) الآن؟!
مرة أخرى، ليس مهما أن يفرح بعض المرضى، أو الذين لا يرون معنى لحياتهم، إلا بإغاظة وكيد الغرب والأمريكان، وليكن الطوفان بعد ذلك، ليس مهما فرح هؤلاء، المهم أن نفرح أنفسنا، ونسعدها، بالإمساك بحبل النجاة الحقيقي، والخلاص من وطأة الأوهام... ربما ندرك شيئا قليلا من نهر الحياة... الذي فاتنا أكثره... وما زال.