ليس أسوأ من العملية التي استقبل بها المسلحون الفلسطينيون انتخاب محمود عباس رئيساً، إلا الرد الإسرائيلي عليها... أو بالأحرى على محمود عباس. فالطرف الأول، ببرنامجه العدمي ونزعته الفنائية، قصف الرئاسة الفلسطينية، فردّ الطرف الثاني، وبرنامجه الاستئصال السياسي للفلسطينيين، بقصف الرئاسة إياها.
وغني عن القول إن أبو مازن، أو أي شخص آخر في محله، لن يستطيع بعد انقضاء أيام معدودة على انتخابه، ضبط الأمن بالمعنى الذي تريده إسرائيل. وهذا مع الشك في قدرة الوصول إلى هذا الضبط المطلق، حتى لو كانت الأجهزة الأمنية قد وُحدّت، وحتى لو بدأ الفلسطينيون يتحسسون ثمار التخلي عن عسكرة الانتفاضة. إلا أن الرئيس الفلسطيني أعطى ما يكفي من الايحاءات بأنه يتجه نحو حل سياسي يتم بالتفاوض، وهي إيحاءات شديدة الانسجام مع ماضيه وخلفيته السياسيين.
وكان يمكن حيال العملية الأخيرة التي استهدفت أبو مازن قبل أن تستهدف إسرائيل، العودة إلى شعار اسحق رابين الشهير «المضي في مكافحة الإرهاب كما لو أن لا تفاوض، والمضي في التفاوض كما لو أن لا إرهاب». بيد أن شارون لا يريد أقل من الإعدام الكامل للسياسة، تساعده في ذلك العمليات العسكرية الفلسطينية.
والمنطق نفسه يُحكم قبضته على الوضع العراقي عشية الانتخابات المقررة أواخر الشهر. فالقوى السنية الفاعلة تعتمد المقاطعة، من دون أن تبذل الجهد المطلوب في التصدّي للإرهاب، واستحضار مجتمعها للقيام بذلك. وفي هذا تراها تتخلّف في مسؤوليتها حيال بلدها، وحيال موقعها المستقبلي فيه، عن دول الجوار، وعن بعض المرجعيات الدينية السنية في مصر وغيرها. وتصرّ القوى الشيعية الفاعلة، في المقابل، على المضي في العملية الانتخابية، كائناً ما كان الظرف والثمن. ولا تكتفي الأخيرة بالإصرار هذا، إذ تتشكّل لائحة تجعل الارتياب السني أكثر ارتياباً فيما تدفع الأكراد، بدورهم، إلى خانة الحذر، والفئات الوسطى العلمانية وشبه العلمانية إلى الخوف من مستقبل ظلامي مشوب، في الوقت نفسه، بنزاع أهلي مفتوح.
وبدل التنبه إلى دور إيراني نامٍ في وسط العراق وجنوبه، يستبعد أحمد الجلبي كل إشارة إلى مقاطعة سُنيّة، أو إلى أية أزمة في العلاقة مع السنّة كائنة ما كانت (وهذا فيما يحذّر بول ولفوفيتز، نائب وزير الدفاع الأميركي، من أزمة كهذه، مشيراً إلى أن المخاطر الأمنية المحدقة بانتخابات العراق تفوق مثيلتها في أفغانستان).
وقصارى القول إن الرئيسين محمود عباس واياد علاوي يرمزان الآن إلى محنة السياسة في بلديهما، تعتصرها الدول ذات البرامج الراديكالية والتوسعية (إسرائيل، إيران...) وكذلك التنظيمات الأصولية والإرهابية. وهي محنة يرفدها دائماً ويعزّزها ضعف حس الدولة من جهة، والبؤس الذي آلت إليه المجتمعات من جهة أخرى.
أما الولايات المتحدة فلا تقدّم للاعتدال، في البلدين، إلا الكلام المعسول، فيما تتجه مواقفها الفعلية إلى دعم الأطراف التي تتجرأ على السياسة وعلى حياة البشر وتقدمهم، ولو كانت تفعل من مواقع متناقضة.
تتمة هذا كله ما أعلنته منظمة «أليسكو» من وجود 70 مليون أمي في العالم العربي، وما يراود «الجامعة العربية» من انشاء «برلمان عربي» هو محصلة «البرلمانات» (أو «أمها» بلغة صدام)، وعاصمتها دمشق!