تعمل آلة الدعاية التابعة للاحتلال الأميركي للعراق أو المؤيدة له على تصوير الوضع الراهن وكأنه مواجهة بين القوى الديموقراطية الراغبة في إجراء انتخابات وبين القوى الظلامية والثأرية التي تصعّد عملياتها من أجل تعطيل الاقتراع. تحل ثنائية الديموقراطية التوتاليتارية على الثنائية الأصلية: الاحتلال المقاومة.
وتنبع مجموعة من المفاهيم من عملية الاستبدال هذه: يصبح كل وطني عدواً للحرية، ويصبح الغزو رد فعل على وجود الإرهاب في العراق، وتصبح مقاطعة الانتخابات تهمة، ويتحوّل الإصرار على موعد 30 كانون الثاني إلى موقف حازم ضد الإرهاب، ويصبح العراقيون على موعد مع انفراج كبير في اليوم التالي، إلخ...
يُراد حصر السجال السياسي في هذه الدائرة المقفلة تماماً والافتراضية. ويتم التغاضي تماماً عن أن الانتخابات باتت جزءاً من المشكلة لا مدخلاً إلى الحل، وأنها محطة أخرى من المحطات التي أريد لها إحداث lt;lt;صدمة إيجابيةgt;gt; فانتهت إلى نتيجة معاكسة.
واللافت في الوضع أن العناد الأميركي، ولأسباب أميركية بحتة، أدى إلى إضعاف القاعدة lt;lt;الشعبيةgt;gt; التي راهنت على الاحتلال أو تسامحت معه لفترة. أن قوى سياسية عراقية عديدة سبق لها المشاركة في المؤسسات التي أقامها الغزو دعت إلى التأجيل، وإلى بذل جهد مسبق للمصالحة، غير أنها لم تجد آذاناً صاغية. ثمة نواة صلبة تدعو إلى التمسك بالموعد مهما كلف الأمر، وهي نواة متشكلة من ساعين إلى السلطة بأي ثمن ومن مطمئنين إلى أن موقفهم مضمون بقدر اندراجهم العميق في الخطة الأميركية.
ومع أن المعترضين يصدرون عن قاعدة راسخة ضمن السنة العرب فمن الواضح أن تيارات شيعية تدعمهم، وكذلك أطراف حاولت أن تقدم نفسها بصفتها عابرة للطوائف والمذاهب. ومع ذلك...
وبقدر ما تبدو الانتخابات حاصلة بقدر ما يزداد توحّد السياسي مع المذهبي أو العرقي، وبقدر ما يتضح أن محطة 30 كانون الثاني هي نقطة انطلاق نحو تفاقم الوضع. فالروزنامة العراقية تجعل من 2005 عاماً انتخابياً من الدرجة الأولى. إن البرلمان الجديد هو الذي سيتولى وضع دستور دائم للبلاد بعد مشاورات وطنية وهو يملك حتى 15 آب للانتهاء على أن يصار إلى استفتاء عام بعد ذلك. ثم، وعلى قاعدة الدستور الجديد يتم تنظيم انتخابات في 15 كانون الأول ويعقب ذلك تشكيل حكومة جديدة في موعد أقصاه 31 كانون الأول 2005.
العام الجاري، إذاً، هو عام دعوة العراقيين إلى الصناديق من
أجل وضع وثائق تأسيسية لحياتهم الجديدة، واختبار ممثلين يفوّض الشعب إليهم أمر البت بقضايا مصيرية تبدأ بالمعاهدات الأمنية ولا تنتهي بمصير الثروات الوطنية الطبيعية... ناهيك عن هوية البلد ونظامه الداخلي وعلاقاته الإقليمية.
وإذا صدقنا ما يُقال اليوم من ارتباط العنف بالاقتراع فالاستنتاج هو أن الاحتلال يدعو العراقيين إلى مذابح ممتدة لشهور.
إن انتخابات مطعوناً بها تنتج حكومة مطعوناً بها ودستوراً مطعوناً به. ثم أن الحكومة الجديدة فاقدة للسيادة الحقيقية وليس ما يمنع انفجار التناقضات بين أطرافها وهي تناقضات تدفع بها الحملة الانتخابية إلى الضوء. كما أن الدستور المؤقت، إذ ينص على اللامركزية، فإنه ينشئ تناقضاً محتملاً بين حكم مركزي ضعيف وبين محافظات قاطعت الانتخابات العامة ولكنها اختارت مجالس إدارة. ومع أن الموعد يقترب فإن أحداً لا يعرف اليوم الترتيب المقترح للأسماء في اللوائح المشاركة، أي أن أحداً لا يعرف، بدقة، الانتماءات المذهبية والسياسية للمرشحين للفوز حسب قاعدة النسبية المطلقة في بلد يُراد له، في الآن نفسه، أن يكون فدرالياً ولا مركزياً، وأن يكون دائرة انتخابية واحدة!
ثمة مخاطر في نوع المشاركة وفي نوع المقاطعة. وثمة مخاطر متزايدة في كركوك. وثمة مخاطر في التذرر السياسي. وثمة مخاطر في تبلور lt;lt;أكثريةgt;gt; تدفع إلى إعادة تركيب السلطات بكوادر غير مجربة ولا تملك برنامجاً سوى تنفيس الأحقاد.
يكفي أن نضيف إلى ما تقدم أن هذه الانتخابات تتم في أجواء إقليمية لا تفعل الولايات المتحدة سوى توتيرها عبر استفزاز عواصم وتهديدها وفتح lt;lt;الملفاتgt;gt; في وجهها، ومطالبتها بأن تؤكد تعلقها بالديموقراطية عبر دعوة شعب آخر إلى المشاركة..
يمكن القول إن واشنطن، في ما مضى من عمر الاحتلال، كانت تتصرف كمن اكتشف أخطاءه متأخراً. أما هذه المرة فإن الخطأ واضح مسبقاً لكن بوش لا يتردد. إنه يتصرف وكأن الانتخابات الأميركية وفرت له رصيداً سياسياً كافياً لن تنجح في تبديده انتخابات عراقية تزيد الفوضى.