المشكلة الكبري التي تواجه المجتمعات العربية، ليست الأميّة او انهيار الانتاج الاجتماعي او البطالة او الفقر والي آخر ما لا آخر له. حتي الاحتلال الاجنبي الذي يقتل ويدمّر ليس هو المسألة. المسألة او المشكلة الكبري هي الحاكم العربي الذي لا يعرف مهنة اخري غير ممارسة السلطة. لذا فهو لا يستطيع مغادرة كرسي الحكم حتي بعد اربعة وعشرين عاما من الجلوس في سدة الرئاسة، مثلما هو حال الرئيس المصري حسني مبارك الذي يسعي الي ولاية رئاسية جديدة رغم انه بلغ من العمر عتيّا، كما تقول العرب.
بل هناك من يذهب الي ان المسألة اكثر تعقيدا، لأنها تحولت من مشكلة فردية تمسّ الحاكم او الرئيس وحده، الي مشكلة عائلية، اذ صار من البديهي ان يعاني افراد عائلة الرئيس من المشكة نفسها، وخصوصا الأبناء الذكور، من دون ان يعني ذلك ان الزوجات او البنات لا يعانين ايضا، وان بشكل اكثر خفرا.
اذا اردنا تشخيص المرض، او الحالة كما يفعل الاطباء عادة، فاننا سوف نواجه بمجموعة من الظواهر: التركيبة المافياوية للسلطة، انهيار القيم الاخلاقية في الحياة السياسية، موت الدساتير عبر قوانين الطوارئ المعمول بها منذ اربعة عقود، شخصنة السلطة بسبب الفساد الشامل الذي يحوّل جميع المشاركين فيها الي كائنات هشة وفاسدة وعاجزة عن المعارضة او الاعتراض، موت المجتمع المدني الذي تعرض خلال اعوام الطوارئ المديدة الي قتل منظّم. هذه الظواهر جعلت من الحكم مهنة مطلقة وبلا حدود. اي ان الحاكم، وهو في الحالة التي نحن في صدد تحليلها، ضابط سابق وصل الي السلطة عبر انقلاب عسكري، او عبر خلافة غير متوقعة لرئيس مات او قتل، او عبر سلسلة من انقلابات القصر، يقوم فور تسلمه للسلطة بعملية تفريغ منظمة للمؤسسات المتوفرة بحيث يقود عملية اعادة تنظيم للفساد، ملحقا آلية نهب الدولة بشخصه الكريم، فيبدأ افراد العائلة في الصعود، وفي الاستيلاء علي المال العام، ويجري استغلال ضرورات اقتصاد السوق بحيث يكون المستفيد شبه الوحيد منها هم افراد العائلة، وتمتزج العمومة بالخؤولة، ويصير الاحتكار القديم الذي مارسته اجهزة الدولة في زمن التأميم، احتكارا عائليا لا يُترك منه لمؤسسات السلطة التقليدية، كضباط الجيش، سوي الفتات.
والواقع ان المؤسسة العسكرية، التي تستمد السلطة شرعيتها الوحيدة منها، قد جري تهميشها، ولعل اول من نجح في هذا المسار هو صدام حسين الذي اخضع الجيش للمخابرات، قبل ان يتم اخضاع الاثنين معا للعائلة الحاكمة، ولأولاد الديكتاتور من الذكور.
اي ان الضابط او قريب الضابط الذي استولي علي السلطة باسم الدفاع عن الوطن ومواجهة اسرائيل، تخلّي عن المهمتين معا، بعد الهزائم الشاملة التي مني بها العرب، وصار بعدما انجزت نهاية الحرب الباردة مهمة اضعاف الجيوش وتحطيم الايديولوجية الانقلابية التي اعطته الشرعية، انقلابيا بلا انقلاب يتهدده. فبعد النجاح في تحطيم المجتمع تمّ تهميش الجيوش، لم يعد هناك من مرجع للسلطة سوي السلطة المشخصنة نفسها، مما افسح في المجال لولادة الجمهورية الوراثية، وهو تعبير صائب نحته المناضل السوري الكبير رياض الترك، وان كنت افضل استخدام تعبير الجملكة، لا لأنه يدمج الجمهورية بالمملكة فقط، بل لأنه يشير ايضا الي الزمن المملوكي. وهذه مسألة تحتاج الي بحث خاص.
بصرف النظر عن المفاضلة اللغوية بين التعبيرين، فالعالم العربي يعيش زمن الهيمنة المطلقة للحاكم الفرد الذي لم يعد يستطيع توريث السلطة الا لابنائه.
نعود الي المشكلة التي صارت اليوم جدية، خصوصا بسبب التعفن الذي لم يعد محتملا في المجتمعات العربية، والدعوات الامريكية، التي تريد استباق موجة اصولية جديدة، قد تضع المنطقة فوق برميل مشتعل مما يهدد المصالح النفطية الغربية، باصلاحات ديموقراطية. (لن اناقش هذا الافتراض الآن، لأنني اعرف ان القارئ يعرف ان امريكا ليست معنية سوي بفرض هيمنتها علي المنطقة، وان الاصلاح ليس سوي ذريعة يمكن الاستغناء عنها في اية لحظة).
واذا تركنا جانبا شبكة المصالح المافياوية التي يستند اليها النظام الجملكي او الوراثي السائد، فان المسألة التي ستواجه اية دعوة ديمقراطية اصلاحية هي ان الرئيس المتملك وافراد عائلته لا يملكون اي تأهيل مهني يسمح لهم بالعمل كسائر الخلق اذا تركوا مناصبهم. وهذا لا يعود بالطبع الي نقص في ذكائهم، بل ان بعضهم تميّز بالذكاء الشديد، بل يعود الي ان قواعد العمل التي اعتادوا عليها لا تسمح لهم سوي بالنهب والتسلط والقمع، مما يعني ان اخضاعهم لقواعد العمل الطبيعية مسألة مستحيلة. بل هم يعرفون ان اخضاعهم لأي نوع من المساءلة القانونية سوف يقودهم الي السجن.
فهل نعجب اذا قرروا البقاء في السلطة الي الأبد؟
تعبير الأبد لم يفهم علي حقيقته للأسف، فالمقصود به ليس رفض الموت، اذ ان جميع هؤلاء الحكام مؤمنون، ويقيمون علاقات خاصة مع بعض رجال الدين. المقصود بالأبد هو توريث السلطة الي الابناء، وبذا تستعيد الفكرة البدائية حول السلالة كلّ دلالاتها، وتنشأ نخبة عائلية تتولي البلاد والعباد.
ولكن هل هناك من سبيل الي اقناع الحكام بأن بضرورة خضوعهم لاعادة تأهيل مهنية، واقناعهم بأنهم بشر كسائر الخلق؟ ام ان المسألة افلتت من ايديهم فصاروا عبيد مراياهم وتماثيلهم؟ الم يشاهدوا كيف انقلبت تماثيل صدام ؟ ام ان العماء هو احدي مميزات التجملك؟