يبدو لي احيانا كثيرة اننا مقصّرون في الدفاع عن قضايانا الوطنية والقومية او في الترويج لها عالميا. هاك القرار 1559 الصادر عن مجلس الامن. فنحن في حملاتنا ضد القرار نغفل حجة صارخة عليه هي: ان القرار هو موضوع خلاف داخلي حاد بين اللبنانيين انفهسم. فمن يتابع التطورات السياسية الداخلية لا يفوته ان الرأي في لبنان منقسم على وجه بليغ بين مؤيد للقرار الدولي ومعارض له، بين من يراهن عليه ومن يدينه. وقد غصت شوارع العاصمة بيروت في يوم من الايام بتظاهرة شعبية صاخبة تؤيد القرار وتدعو الى تنفيذه بدعوى انه يصب في خدمة حرية لبنان وسيادته، ثم بعد حين بتظاهرة مضادة حاشدة ترفض القرار وتندد به بدعوى انه يشكل تدخلا سافرا في شؤون لبنان الداخلية ويتنافى مع مضمون اتفاق الطائف الذي نص على اعادة تمركز القوات العربية السورية في منطقة من لبنان، ولم ينص على انسحابها فورا وكليا من لبنان ما دام الصراع العربي الاسرائيلي محتدما.
فاذا كان القرار الدولي يتناول مسألة خلافية بين اللبنانيين، فبأي منطق ديموقراطي او سيادي تجيز الدولتان الكبريان، اميركا وفرنسا، لنفسيهما اقحام الامم المتحدة في هذا الخلاف بين ابناء شعب واحد؟ الا يعني ذلك تنطح دول كبرى، ومعها المنظمة الدولية، لتغليب فريق على فريق داخل بلدنا؟ الدولتان الكبريان ترفعان لواء الذود عن حرية لبنان وسيادته. فهل من المنطق الديموقراطي في شيء انتصارهما والامم المتحدة لفريق ضد فريق داخل مجتمع واحد؟ وهل من المنطق السيادي في شيء تجاهل الدولة اللبنانية او مناهضتها في شأن يتعلق بها؟ وما سر استفاقة الدولتين على هذا الامر اليوم وهو قائم منذ سنوات طويلة؟
هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإننا كثيرا ما نضع انفسنا، اذ نعلن رفضنا القرار، في موقع الكيفية او الانتقائية حيال قرارات الشرعية الدولية. ففيما نحن نطالب بتطبيق سائر القرارات الدولية، فاننا نرفض تطبيق هذا القرار. والقرارات التي لنا مصلحة استراتيجية حيوية في تطبيقها تشمل القرار 194 الذي يحفظ لجميع اللاجئين الفلسطينيين حقهم في العودة الى ديارهم في فلسطين، والقرار 242 الذي يملي على اسرائيل الجلاء عن الارض التي احتلتها عام 1967 ومنها الجولان السوري، والقرار 425 الذي يقضي بجلاء القوات الاسرائيلية عما تبقى من ارض لبنان المحتلة. ونحن في رفضنا القرار 1559 مع مطالبتنا باحترام كل تلك القرارات انما نظهر امام العالم وكأننا نراهن على الامم المتحدة ساعة نشاء، في ما يروقنا، ونشيح عنها ساعة نشاء في ما لا يروقنا.
أما كان موقفنا اقوى في الدفاع عن حقنا لو اعلنا احترامنا لكل القرارات الصادرة عن الشرعية الدولية وآخرها القرار 1559؟ اما كان موقفنا اشد اقناعا للمجتمع الدولي لو طالبناه بأن لا يكون هو كيفيا او انتقائيا اذ يصر على تطبيق القرا ر 1559ويهمل سائر القرارات الدولية التي تعنينا؟ لا بل إذ يوجّه الينا الانذار تلو الانذار، ملوّحاً باجراءات زجرية في حقنا، في حال عدم التزام القرار، فيما هو لا يزعج اسرائيل بأي ضغط يمارس عليها لتنفيذ قرار عمره 38 سنة وآخر عمره 55 سنة.
ثم هناك حرب الدولة العظمى علينا في فلسطين والعراق بدعوى مكافحة الارهاب. اننا، حيال الحرب على العراق، نكاد لا نبدي حراكاً. أميركا ترتع في عدوانها على العراق من دون أي اعتراض من جانبنا نحن العرب. لقد غفرنا للدولة العظمى خطيئة فاضحة إذ شنّت جربها على العراق بذريعتين سرعان ما ثبت بطلانهما كلّياً. لقد زعمت ان العراق يمتلك اسلحة دمار شامل، كما زعمت ان العراق كان على علاقة مع تنظيم القاعدة المسؤول عن عدوان 11 (سبتمبر) ايلول على البرجين في نيويورك وعلى البنتاغون في واشنطن. وعندا انكشف بطلان الزعمين، انقلب موقف الدولة العظمى في تبرير الاحتلال وتلبست النبل في الادعاء ان الحرب كانت لتحرير العراق من نظام استبدادي سفاح وارساء قواعد الحرية والديموقراطية. فاذا بهذا التحول ينطلي علينا فلم نتساءل: هل كان النظام العراقي هو النظام الاستبدادي الوحيد في العالم؟ الكل يعلم رأي الادارة الاميركية في نظام كوبا ونظام كوريا الشمالية على سبيل المثال. فلماذا تعاملت مع العراق بخلاف ما تتعاطى مع هاتين الدولتين؟ هل لمهاجمة العراق دون سواه علاقة بالصراع العربي الاسرائيلي؟ اليس في ذلك خدمة مجانية للصهيونية ومشاريعها في منطقتنا على حساب المصالح العربية؟
ونسمع تهديدات اميركية توجه الى سوريا بدعوى تقصيرها في ضبط حدودها مع العراق في وجه ما يقال عن تسلل المقاتلين الى الداخل العراقي. ولا نسمع في المقابل ردا صارخا في وجه الدولة العظمى بتذكيرها ان الحدود انما لها جانبان: جانب سوري، يقع تحت السيادة السورية، وجانب عراقي تحت سلطة الاحتلال الاميركي نفسه. فلو سلمنا بأن سوريا مقصرة في حفظ الحدود في جانبها، فلماذا يا ترى لا تستطيع اميركا ضبط الحدود في جانبها على الضفة العراقية؟ هل تحميل الاخرين المسؤولية دليل رياء ام دليل عجز؟ كلاهما لا يليق بقوة عظمى.
ثم نسمع حديثا متكررا بلسان المسؤولين الاميركيين عن استتباب الديموقراطية شرطا لانهاء الاحتلال. وفي كلتا الحالتين لا نسمع صوتا عربيا يوقظ الرأي العام العالمي بطرح التساؤل المشروع: "كيف تكون الديموقراطية من دون حرية؟ واين هي الحرية في ظل الاحتلال؟
تتعاطى الدولة العظمى مع ما تسميه ارهابا في فلسطين والعراق وكأنما هو مشكلة امنية بحتة، متجاهلة ان وراء المقاومة قضية، هي تحرير فلسطين والعراق من الاحتلال. في بلاد الغرب تكافح الجريمة ليس امنيا وقضائيا فحسب بل ايضا بالعمل على اجتثاث مسبباتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية. اما ما يسمونه ارهابا فلا يكافح الا امنيا، بوسائل البطش والقمع والتعذيب في السجون. لماذا لا تحرر الارض المحتلة ثم يكافح العنف أمنيا؟
ثم ان غيرة اميركا المزعومة على الديموقراطية في منطقتنا تقبلها العرب بلا تحفظ او تردد. عجبا، اميركا تملي على الشعب الفلسطيني مصيره، كما تملي على الشعب العراقي، عبر سياساتها في المنطقة، وتملي على الامة العربية مسارها ومصيرها عبر مشاريع تسمى خريطة الطريق او الشرق الاوسط الكبير او اتفاقات "كويز" او خلاف ذلك. ولم يخطر في بال حكامنا العرب يوما ان يواجهوا الدولة العظمى بسؤال بديهي: هل حاولتم قبل طرح مشاريعكم الوقوف على رأي شعوبنا؟ كيف تكون الديموقراطية التي تدعو اميركا اليها اذا كانت في مشاريعها لمنطقتنا لا تقيم اعتبارا لرأي شعوبنا او ارادتها؟ أليس من حقنا ان نتساءل والحال هذه: هل ترمي الدولة العظمى في هجمتها على منطقتنا حقا تعميم التجربة الديموقراطية كما تزعم، ام ان وراء الهجمة مآرب اخرى؟ هل هو منطق غطرسة القوة، ام هو التمادي في خدمة المشاريع الصهيونية في منطقتنا؟
واخيرا، اميركا تتصدر الحملة ضد الدول التي تسعى الى دخول نادي القوى النووية في العالم، وتركز بخاصة على كوريا الشمالية وايران، مع العلم ان ايران ما قالت يوما انها تعمل على انتاج قنبلة نووية بل تؤكد انها تسعى الى تطوير التكنولوجيا النووية لاغراض صناعية. ولكن السؤال الكبير يبقى: لماذا تحتفظ الدولة العظمى بمخزون هائل من اسلحة الدمار الشامل على اشكالها ولا تسمح لسواها بشيء من ذلك؟ وهذا السؤال يسري على سائر القوى النووية: روسيا وفرنسا وبريطانيا، انتهاء بالصين والهند والباكستان، ولا ننسى بالطبع اسرائيل. لو انصفت الدولة العظمى لعملت جادة على الغاء هذه الاسلحة، فتبدأ بالتخلي عن ترسانتها منها وتدعو الاخرين الى الاقتداء بها.
ان مجرد الاحتفاظ بقنبلة نووية هو اجرام في حق الانسانية، فما بالك باقتناء مخزون ضخم من اسلحة الدمار الشامل على اشكالها؟ ان مجرد وجود قنبلة نووية في يد اي دولة يستبطن تهديدا للآخرين بالابادة، وهو يوحي باستعداد الدولة التي تملكها لاستخدامها، والا فما جدوى اقتنائها؟ ومجرد احتمال استخدام اسلحة ابادة يجعل من الدولة التي تختزنها دولة اجرامية، او ارهابية. انهم يرمون سواهم بوصمة الارهاب، وهم، بما يملكون من اسلحة الدمار الشامل، افظع الارهابيين.