لا تتجاوز فرص تأجيل الانتخابات العراقية المقررة ابتداء من 30 يناير الجاري نسبة الخمسة في المائة. هذا علي الاقل ما يقوله متابعو الوضع العراقي عن كثب. وهؤلاء يعترفون بأن الاصرار الامريكي علي اجراء الانتخابات في موعدها جعل المعترضين عليها يتصرفون وكأنها صارت قدرا وان لا مفر من التفكير منذ الآن بمرحلة ما بعد الانتخابات وفي عراق ما بعد تلك العملية التي تعتبر اكثرية السنة العرب انها غير ضرورية.
لماذا يفكر السنة العرب بهذه الطريقة بدل المشاركة بكثافة في الانتخابات التي باتت الأمم المتحدة تشجع عليها بعدما وجدت ان لا جدوي من اي نقاش مع الجانب الامريكي في شأن تأجيلها والعمل علي الاعداد الجيد لها؟
ثمة قناعة لدي السنة العرب بأن الانتخابات ليست سوي وسيلة لفرض امر واقع جديد علي البلد يجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية وذلك استنادا الي تقديرات عن التوزيع المذهبي والطائفي والقومي للسكان لا يعرف احد مصدرها. انها تقديرات تعتبر ان نسبة الشيعة تتجاوز الستين في المائة من مجموع عدد السكان فيما نسبة الاكراد تزيد علي عشرين في المائة. فماذا يبقي للسنة العرب اذا اخذت في الحسبان نسبة المسيحيين والتركمان والاقليات الاخري؟ هل يعني ذلك ان نسبتهم يمكن ان تصل الي دون الصفر؟ تبدو هذه الحسابات وراء المخاوف التي تثيرها الانتخابات والتي جعلت هيئات دولية محايدة تراقب اوضاع العراق تتوقع مزيدا من العنف بعد الانتخابات. وتذهب هذه الهيئات في تشاؤمها الي حد القول ان الحرب الاهلية واقعة لا محالة في العراق مشيرة الي ان المجلس الوطني الذي سينبثق عن الانتخابات لن يختلف في تركيبته عن مجلس الحكم الانتقالي السعيد الذكر او عن الحكومة المؤقتة التي يرأسها الدكتور اياد علاوي. فلماذا اجراء انتخابات مادام الخلل في التوازن الداخلي الذي ادي الي موجة العنف التي يشهدها البلد سيتكرس بعد قيام المجلس الوطني؟ هل المطلوب ان تؤدي الانتخابات الي وضع يعتبر فيه السنة العرب انه لم يعد لديهم اي مجال لاستعادة ولو بعض النفوذ الذي افتقدوه وان كل الابواب اغلقت في وجههم باستثناء باب اللجوء الي العنف معتمدين التطرف الديني قبل اي شيء آخر؟
تبدو المخاوف من مرحلة ما بعد الانتخابات في محلها وذلك في ظل غياب تحرك فعال يستهدف اصلاح الاخطاء التي وقعت فيها الادارة الامريكية منذ سقوط نظام صدام حسين في 9 ابريل من العام 2003. صحيح ان هناك مشروعا امريكيا حضاريا من الناحية النظرية يدعو الي قيام عراق ديمقراطي يتساوي فيه مواطنوه امام القانون، عراق تسوده الحرية ويكون نموذجا للدولة الحديثة في الشرق الاوسط، الا ان الصحيح ايضا ان شيئا من ذلك لم يتحقق حتي الآن. كل ما في الامر ان الخدمات في عهد صدام حسين كانت افضل وكان المواطن الذي لا يتعاطي في القضايا السياسية يعيش حياة آمنة الي حد ما. ذلك لا يعني بالطبع ان النظام السابق الذي جر العراق من كارثة الي كارثة وألحق ظلما تاريخيا بالشيعة والاكراد عموما يمكن الدفاع عن ممارساته في اي شكل. لكن هذا الكلام يعني بكل بساطة ان الاوضاع العراقية تدهورت الي حد بات عدد كبير من المواطنين يحن الي الحد الأدني مما كان متوافرا له قبل الحرب الامريكية علي العراق.
هناك مشروع امريكي للعراق يفترض ان يحظي بدعم اقليمي ودولي، لكن الذي حصل للأسف الشديد ان هذا المشروع لايزال مجرد افكار يتحدث عنها مسؤولون امريكيون علي رأسهم الرئيس بوش الابن لمجرد تأكيد ان الولايات المتحدة لم تغرق في الرمال المتحركة العراقية وانها قادرة علي الخروج من الورطة التي وقعت فيها.
دعمت بعض الدول العربية العاقلة المشروع الامريكي من منطلق انه شر لا بد منه مع معرفتها ان ما ينفذ علي الارض مشروع آخر يصب في مصلحة ايران بصفة كونها القوة الاقليمية الساعية الي امتلاك نفوذ واسع في العراق. وتتخوف الهيئات الدولية المهتمة بالوضع العراقي من وصول الادارة الامريكية في مرحلة ما الي نتيجة فحواها ان عليها عقد صفقة مع النظام الايراني. ومثل هذه الصفقة ستكون في مصلحة الطرفين: ستسهل الانسحاب الامريكي من جهة وستؤمن لايران من جهة اخري السيطرة علي العراق باستثناء المنطقة الكردية وذلك بالوسائل الديمقراطية خصوصا ان رجالها والقريبين منها يحتلون المراتب البارزة في القائمة الشيعية المدعومة من المرجعية والتي يتوقع حصولها علي ما بين 120 و150 مقعدا من اصل 275 في المجلس الوطني الذي ستأتي به الانتخابات. وعلي رأسها رجالها والقريبون منها يأتي السيد عبدالعزيز الحكيم رئيس المجلس الاعلي للثورة الاسلامية والسيد ابراهيم الجعفري والمهندس حسن شهرستاني والدكتور احمد الجلبي الذي قد يلعب مجددا دور صلة الوصل بين صقور الادارة الامريكية والاجهزة الايرانية كما حصل في المرحلة التي سبقت انعقاد مؤتمر لندن للمعارضة في ديسمبر من العام 2002. وقتذاك أمن الجلبي بفضل علاقاته الايرانية تمثيلا شيعيا ذا وزن في المؤتمر بعدما اقنعت طهران عبدالعزيز الحكيم بحضور المؤتمر الذي صدرت عنه وثيقة تؤكد وجود اكثرية شيعية في العراق.
ان تجارب الماضي القريب تثبت ان في الامكان التوصل الي صفقة امريكية - ايرانية في شأن العراق تضمن انسحابا عسكريا امريكيا منظما من البلد مع المحافظة علي المصالح التي تهم الولايات المتحدة. وما يزيد من احتمالات مثل هذه الصفقة ان مصدر العنف الذي يمارس في العراق حاليا يأتي معظمه من منظمات سنية متطرفة. وفي هذا السياق يعتبر الامريكيون استنادا الي الذين التقوا قادتهم ومسؤوليهم في العراق ان المشكلة الحقيقية قائمة مع المملكة العربية السعودية بصفة كونها مجتمعا يشجع الارهاب وبكلام أوضح يجد الأمريكيون ان من السهل عقد صفقة مع ايران التي التزمت تعهداتها وسهلت الدخول الامريكي الي العراق وامتنعت عن تشجيع الذين يشنون عمليات تستهدف قواتها، فيما تجد صعوبة في التعاطي مع السعودية بسبب رفض المؤسسات الحاكمة فيها الاعتراف بأن ثقافة المجتمع تشجع علي انتاج آلاف الارهابيين المعادين لكل ما هو أمريكي وذلك بغض النظر عن السياسة الرسمية التي تتبعها الرياض.
هناك بالطبع مشروع ثالث للعراق غير المشروع الامريكي والايراني هو المشروع الاسرائيلي الساعي الي شرذمة البلد وتقسيمه، وللأسف الشديد ان صفقة امريكية - ايرانية قد لا تمنع هذا المشروع في المدي البعيد في ظل الاصرار علي الفكرة القائلة ان في الامكان حكم العراق في ظل اكثرية واحدة، في حين ان البلد لا يحكم الا في ظل ثلاث اكثريات: اكثرية شيعية وهي اكثرية عربية يفترض ان تكون متحالفة مع اكثرية سنية ومع اكثرية كردية. اذا لم يحصل مثل هذا التوافق يمكن ان يكون علي حق ذلك الموظف الكبير في احدي الهيئات الدولية العاملة في العراق. قال ذلك الموظف: ان الانتخابات العراقية ستفضي الي حرب اهلية في العراق نظرا الي انها ستجعل السنة العرب الذين ليسوا في حقيقة الامر اقلية، يشعرون ان كل الابواب صارت موصدة في وجههم باستثناء باب العنف. وعندئذ سيتبين ان العنف الذي نشهده حاليا في العراق ليس شيئا مقارنة بذلك الذي سنشهده بعد الانتخابات.. وقد تكون الانتخابات مخرجا للأمريكيين ولكنها لن تخدم العراق في أي شكل من الاشكال.