هل تذكرون ما كانت تردده وسائل الاعلام في حرب الكويت عام 1991 من ان اجهزة الاستطلاع العسكرية الاميركية قادرة على تحديد (ماركة) الملابس الداخلية للرئيس العراقي وقتها صدام حسين. ومرت عشر سنوات ولم تصدق الاجهزة الاليكترونية المعقدة في اقوى دولة في العالم، ودخلت العراق بتواطؤ دولي، وقبل كل شيء بسبب حماقة النظام وقمعه هناك.
والان ينشر الصحفي المخضرم سيمور هيرش في مجلة النيويوركر ان عملاء اميركا السريين يعملون منذ ستة اشهر في داخل ايران وعشر دول اخرى في المنطقة لتحديد اهداف عسكرية يمكن قصفها جوا بدقة متناهية (بالضبط كالدقة التي دمرت العراق، وتركت اسلحته الاساسية في ايدي ابنائه يقتلون بها الاميركيين وغيرهم الان). ثم ردت الادارة الاميركية متهمة هيرش بالقفز الى نتائج دون حقائق، وان لم تنف (عن عمد طبعا) انها تستهدف ايران او غيرها عسكريا.
ولن يستغرب المرء اذا خرجت علينا وسائل الاعلام بعد تنصيب الرئيس الاميركي لفترة ولايته الثانية بانباء مسربة عن مصادر استخباراتية ايضا تؤكد ان المخابرات الاميركية تمكنت من تحديد ماركات الفستق الايراني واماكن تخزينه، وليس فقط مواقع الاسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية، والموسيقية. وليس المقصود هنا هو التقليل من احتمالات استهداف ايران اميركيا، او اسرائيليا، بقصف جوي لمنشات حيوية او لاثارة اضطراب يؤدي الى تغيير النظام (اذا لم يقبل ان يغير ما بنفسه ويسبح بحمد واشنطن).
لكن المهم ان نتعلم شيئا من الاسلوب التقليدي للتسريب المعلوماتي الذي يقصد به في الاغلب اهداف لم يستطع من يسربها ان يحققها بالقوة او الدبلوماسية ويحتاج لتهيئة رأي عام يستوعب انجازها. وقس على ذلك كل ما يفجره الاميركيون من خبطات صحفية (حتى بما فيها الكشف عن جرائم ابو غريب، التي كشفها سيمور هيرش ايضا، وما تبعها من ترسيخ لقدرة الاميركيين على تجاوز كل الاعراف والمواثيق الدولية التقليدية مع تسليم دولي بأنه لا يمكن لي ذراع الاميركيين كما يحلو لسياسيينا ان يصرحوا).
لا جديد في ان اميركا تستهدف ايران وسوريا ولبنان، وربما السعودية والكويت ومصر، وربما تكون اسرائيل تستعد للقيام ببعض الادوار بالوكالة عن الاميركيين، ولتسبق الدبلوماسية البريطانية الادوار العسكرية لتمهد الطريق امام قرارات دولية (واه من تلك الد...ولية) لاضفاء الشرعية على الحملات الاميركية. ولكن المهم الا نقع اسرى القبول بأن ذلك قدر لا فكاك منه، وانه ليس بمقدور احد ان يفلت مما يريده له الاميركيون. ولا اعني هنا التماس السبل التقليدية في التعامل مع الازمات، ولا انتهاج الواقعية السياسية التي يروج لها الذئاب الاميركيون والاسرائيليون، ولكن علينا على الاقل الا نقع فريسة الاقتناع بما يراد ايهامنا به. بمعنى بعض التشكك، وليس بالضرورة بالتفسير بنظرية المؤامرة، ولكن بعض التشكك العقلي فيما يطلق علينا يوميا من وسائل الاعلام، خصوصا ما يكون مصدره تسريبات مخابراتية.
وفي محاولة للتفكير النقدي في تقرير هيرش في النيويوركر، يمكن ببساطة الرجوع الى حقيقة ان معظم السفارات الاجنبية، ان لم تكن كلها، تمارس نشاطا استخباريا بدرجة او بأخرى: اما عن طريق وضع ضباط مخابرات فيها تحت غطاء دبلوماسي او قيام الطاقم المعاون باعمال استخبارية. وليس صعبا اذا على الاميركيين تحصيل معلومات من حلفائهم الذين لديهم سفارات في بلد لا يقيم علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة. ثم ان هناك تداخلا قويا يسمح بالاستطلاع نتيجة وجود اميركا العسكري في العراق وانتقال العراقيين والايرانيين بين البلدين. ثم هناك الحلفاء المشتركون لكلا البلدين بين الفصائل العراقية.
والم يتساءل احد، لماذا تحتاج الى تحديد الاهداف عبر التجسس الشخصي المباشر على الارض، اذا كانت لديك اقمار صناعية تصور (ماركة) الملابس الداخلية لاكثر زعماء العالم تخفيا وسرية! واذا كنت تستهدف قصفا جويا لتلك الاهداف، اليس الاجدى تصويرها جوا وليس تحديد الاحداثيات بمسافات الطرق وسبل الوصول اليها بالمواصلات العامة!.
ليس القصد التشكيك ايضا بقدرات صحفي التحقيقات الشهير سيمور هيرش، الذي يستشهد به الكاتب محمد حسنين هيكل حين يتحدث عن فن التحقيق الصحفي، ولا حتى بمدى صدقية معلوماته من عدمه. ولكن مطالبة فقط ببعض العقل، حتى لا نصبح بعد فترة مجرد امّعات لا نملك من ناصية امرنا شيئا.
و لا يملك المرء الا العودة الى ما تعلمه في بداية عمله الصحفي عما يسمى التضليل المعلوماتي Disinformation والذى تلقى محاضرات عنه في احدى الجامعات الاميركية!!. واذا كان العلم يتطور، واساليب الاجهزة تتحدث، فلا شك ان اسس العمل تظل كما هي الى حد كبير، ومن بينها التضليل المقصود لتحقيق اهداف مغايرة ليس من بينها اطلاع الناس على الحقيقة ولا ضمان حرية الافراد في المعرفة الصحيحة، ولا حتى اي حق من حقوق الانسان.