يحتاج الناس إلي جرعة من التفاؤل‏,‏ مع بدايات عام جديد‏,‏ ومن باب إشاعة التفاؤل‏,‏ نتمني ألا ينتهي هذا العام‏,‏ بمثل ما انتهي به العام الفائت‏,‏ الذي ودعنا غير مأسوف عليه‏,‏ بزلزال وطوفان تسونامي وكوارثه المروعة‏,‏ التي ألهت الناس عن الكوارث الدامية الأخري التي يرتكبها البشر في حق البشر‏,‏ والتي تبقي أمامها كوارث الطبيعة متواضعة حنونة الي حد كبير‏!‏
غير أن الوقائع تتغلب علي الأماني‏,‏ مثلما يتغلب العقل علي الهوي‏,‏ ولذلك نقول إن عام‏2005‏ لن ينتهي إلا ونحن نشهد صياغات جديدة للعلاقات المتشابكة المتقاطعة في منطقتنا المتوترة‏,‏ تقوم علي فرض الأمر الواقع بالقوة الباطشة‏,‏ أكثر مما تقوم علي فضيلة الحوار وتبادل الآراء والأفكار والمصالح‏.‏
وبداية ندرك أن فقهاء السياسة وأساتذة العلاقات الدولية‏,‏ قد أفنوا حياتهم في بحث واستكشاف مناهج صياغة العلاقات‏,‏ علي المستويات الاقليمية والدولية خصوصا‏,‏ ولذلك فلن نستطيع هنا أن نضيف جديدا الي الموضوع‏,‏ وإن ظل واجبنا دراسة تطوراته علي الدوام‏,‏ ومتابعته من حيث حركة الصراع التي تحكم مثل هذه العلاقات‏,‏ سواء بين الدول بعضها ببعض‏,‏ أو بين التكتلات الدولية‏,‏ حتي بشكلها الراهن‏,‏ الذي تتحكم فيه الي حد ظاهر قوة عظمي وحيدة هي الولايات المتحدة‏,‏ بعد سقوط صراع القطبين وانتهاء الحرب الباردة في بداية تسعينات القرن الماضي‏.‏
ومن باب التذكير نقول إنه في مرحلة الحرب الباردة بين القطبين العظميين‏:‏ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي‏,‏ كانت حركة الصراع‏,‏ وصياغة العلاقات الاقليمية والدولية‏,‏ أسهل‏,‏ وكانت أبواب المناورة انحيازا أو حيادا‏,‏ أمام الدول الصغيرة مفتوحة علي مصراعيها‏,‏ ومن ثم كانت الضغوط القهرية أقل‏,‏ بينما الاغراءات الجاذبة أكثر‏.‏
الآن‏,‏ انقلب الوضع‏,‏ ولم يعد هناك سوي القطب الأمريكي‏,‏ الذي من شدة انتشائه‏,‏ باسقاط غريمه‏,‏ انفلت كالوحش‏,‏ يعيث في الغابة ويعبث بما فيها ومن فيها‏,‏ ويفرض سياسته وشروطه وقيوده ومصالحه‏,‏ بالقوة الجبرية‏,‏ وبغطرسة السلاح وبضغوط الاقتصاد علي الجميع‏,‏ من أصغر دولة الي منابر المنظمة الدولية‏,‏ الأمم المتحدة‏,‏ فيسلبها دورها في تنظيم العلاقات الدولية‏,‏ والاشراف علي تطبيق معايير القانون الدولي‏,‏ بصرف النظر عن دولة تتمنع هنا‏,‏ أو أخري تقاوم هناك‏,‏ ومن فعل شبه ذلك دخل في قائمة الدول المارقة‏,‏ وأدرج علي قوائم الإرهاب ومعاداة السامية أيضا‏!.‏
وربما تكون المنطقة العربية‏,‏ هي أكثر مناطق العالم وقوعا تحت هذا الإكراه الأمريكي المباشر‏,‏ الذي يتراوح مابين اغواءات المساعدة واغراءات الديمقراطية‏,‏ وبين فرض الاحتلال العسكري المباشر بقوة السلاح الباطشة‏,‏ وممارسة القهر الفكري والثقافي والإعلامي والنفسي‏,‏ فوق كل ذلك والهدف هو اعادة الصياغة الكاملة لما سماه الأمريكيون الشرق الأوسط الكبير‏,‏ الممتد من المغرب وموريتانيا غربا‏,‏ حتي حدود الهند شرقا‏,‏ والذي يضم عمليا الكتلة العربية كاملة‏,‏ ومعظم الكتلة الإسلامية‏.‏
وكي لا نهوم بعيدا في التحليل النظري‏,‏ دعونا نتفحص ثلاثة نماذج عملية‏,‏ تجري فيها اعادة صياغة العلاقات‏,‏ فكا وتركيبا‏,‏ سواء مع الداخل أو مع الخارج‏.‏

‏***‏
‏**‏ أولا‏:‏ بشغف واضح وتطلع ملهوف‏,‏ تدفع السياسة الأمريكية بمساندة حلفائها من العرب والفرنجة‏,‏ لاتمام انتخابات عامة في العراق‏,‏ رغم كل المحظورات والمحاذير‏,‏ مثل دوائر العنف والقتل‏,‏ وشراسة الاحتلال الأجنبي الذي يقتل كثيرا ويقتل أحيانا‏,‏ ومقاطعة قطاع عريض من الشعب العراقي لهذه الانتخابات‏,‏ وتحذير عقلاء من الاستقطاب والانحياز‏.‏
لكن التلهف الأمريكي هدفه سرعة وضع عمامة عراقية كبيرة‏,‏ علي رأس الصاروخ الأمريكي‏,‏ أي باختصار اضفاء شرعية ما بشهادة شهود الزور‏,‏ وهم كثر هذه الأيام‏,‏ علي الاحتلال الأمريكي وسياساته ومشروعاته الحالية والمستقبلية‏,‏ ليظل السيد المهيمن لآماد طويلة علي هذا المفصل الاستراتيجي‏,‏ الواصل الفاصل بين أمة العرب وأمم أخري من الترك والايرانيين والقوقازيين وغيرهم‏,‏ وبين المسلمين العرب والمسلمين من غير العرب‏,‏ ناهيك عن خزانات النفط الشهيرة في المنطقة وغيرها من المصالح الاستراتيجية الأخري‏.‏
ولأن الدوافع الواهية لغزو واحتلال العراق في مارس ـ ابريل من العام قبل الماضي‏,‏ مثل اسقاط صدام حسين‏,‏ وتدمير أسلحة الدمار الشامل في العراق‏,‏ قد سقطت سريعا باعتراف الأمريكيين أنفسهم‏,‏ تبقي المصالح الحيوية العليا هي السبب الرئيسي للغزو والاحتلال‏,‏ علي نحو ما أوضحنا في الفقرة السابقة‏.‏
وفي سبيل ذلك‏,‏ شهدنا ومازلنا نشهد‏,‏ سياسة أمريكا‏,‏ التي تقوم بتفكيك‏,‏ ثم اعادة تركيب العراق‏,‏ وطنا ودولة وحكومة وشعبا‏,‏ يتكون من عدة طبقات وطوائف ومذاهب وأعراق‏.‏
وبمثل ما أججت الصراع العرقي القديم‏,‏ بين عرب العراق وأكراده‏,‏ أججت الصراع الطائفي الأقدم‏,‏ بين شيعة العراق وسنته‏,‏ ورغم ادراكنا لطبيعة هذه الصراعات ودوافعها الداخلية‏,‏ التي يتحمل العراقيون جميعا مسئوليتها التاريخية‏,‏ إلا أن التلاعب الأمريكي بها‏,‏ خصوصا بعد الاحتلال العسكري المباشر‏,‏ والاصرار علي اشعال نيرانها يوميا‏,‏ لا يهدف الا الي فك وحدة العراق السياسية‏,‏ كما يعرفها العالم‏,‏ وإعادة تركيبه من جديد‏,‏ بصياغة أخري للعلاقات بين الطوائف والأعراق من ناحية‏,‏ وبين هذه والعالم الخارجي‏,‏ بما فيها المحيط العربي والاسلامي من ناحية أخري‏..‏ وهو الغائب أو الهارب‏!!‏
وإذا ماجرت الانتخابات العراقية كما هو مرسوم لها‏,‏ فإن النتيجة الأولي هي استمرار العنف والمقاومة المسلحة والانقسام الشعبي‏,‏ والنتيجة الثانية هي الاندفاع نحو التقسيم‏!‏

‏**‏ ثانيا‏:‏ بدأب شديد وإكراه أشد وراء الستار‏,‏ وبترحيب كبير وتهليل عظيم‏,‏ أنجزت السياسة الأمريكية وضغوطها الحاسمة القاسية اتفاق السلام بين حكومة السودان ومتمردي الجنوب قبل أيام‏,‏ في حضور شهود اقليميين ودوليين‏,‏ منهم المرحب فرحا‏,‏ ومنهم المذعور كمدا‏,‏ ولكل أسبابه‏.‏
وإذا كانت أسباب الترحيب بالاتفاق فرحا‏,‏ تكمن في وضع نهاية‏,‏ حتي ولو مؤقتة‏,‏ لحرب أهلية بشعة طحنت ملايين البشر‏,‏ والتهبت تحت نيران المظالم السياسية والتهميش الاقتصادي الاجتماعي‏,‏ وربما التفرقة العرقية والطائفية المذهبية‏,‏ فإن أسباب الذعر كمدا‏,‏ ترجع الي انه ماكان يمكن لهذا الاتفاق أن يطبخ وينضج إلا علي نار أمريكية‏,‏ وإلا بصنعة أمريكية صرفة‏,‏ مع تقديرنا لجهود آخرين طالما فشلت في الماضي القريب والبعيد‏.‏
وبمنطق اشعال الحرائق هنا‏,‏ واطفاء الحرائق هناك‏,‏ وسياسة تفكيك الدول والمجتمعات‏,‏ ثم تركيبها وفق اعادة صياغة جديدة للعلاقات‏,‏ يحدث الآن تغير في السودان‏,‏ كما يحدث في العراق‏,‏ ولكن بأشكال متباينة‏,‏ تباين الظروف والتركيبات والأوضاع‏.‏
ومع احترامنا لوجهة نظر المتفائلين المهللين‏,‏ القائلين بأن الاتفاق يضمن وحدة السودان بروح وسياسات وتوازنات جديدة‏,‏ فإنني أراهن من الآن أن فترة الاختبار وهي ست سنوات‏,‏ المحددة كفترة انتقالية‏,‏ لن تكتمل إلا والسودان يجري نحو التقسيم والانفصال‏,‏ جنوبا وشمالا‏,‏ غربا وشرقا‏,‏ بدليل مايجري علي الأرض فعلا‏,‏ وبهدف تفكيكه واعادة تركيبه وصياغة علاقاته مع العالم الخارجي ومع محيطه الحاضن العربي الاسلامي‏..‏ الغائب الهارب أيضا‏.‏

‏***‏
‏**‏ ثالثا‏:‏ لا نعتقد أن عام‏2005‏ هو عام تسوية القضية الفلسطينية‏,‏ لأنها ستدخل سراديب المفاوضات‏,‏ نعني المناورات‏,‏ التي تحتاج الي وقت آخر‏,‏ تفرغ فيه السياسة الأمريكية من مهامها الاسخن‏,‏ من ناحية‏,‏ وتحتاج فيه الحكومة الشارونية الدموية الي مزيد من السماح لانجاز تدميرها وقتلها وحرقها للشعب الفلسطيني‏,‏ من ناحية أخري‏.‏
لكننا نعتقد أن عام‏2005‏ سيكون عام إعادة صياغة العلاقات بقوة الضغط والاكراه‏,‏ بين سوريا ولبنان من ناحية‏,‏ وبينهما وبين محيطهما العربي‏,‏ الغائب الهارب‏,‏ ثم المحيط الدولي من بعد‏..‏
ثمة اشتباكات مباشرة وغير مباشرة تدور الآن بقوة في الفضاء السوري اللبناني‏,‏ ليس لتحرير لبنان من النفوذ السوري التاريخي‏,‏ ولكن لردع النفوذ السوري الحاكم داخل سوريا قبل لبنان وخارجهما‏,‏ فسوريا في مفهوم السياسة الأمريكية‏,‏ هي الدولة المارقة‏,‏ راعية الإرهاب‏,‏ التي لا تقوم بمهامها في منع تسلل المقاتلين الإرهابيين الي العراق عبر حدودها‏,‏ والتي تحتل لبنان عسكريا وتهيمن علي الحكم اللبناني سياسيا وتتحكم فيه اقتصاديا‏,‏ وتقمع المعارضة‏,‏ وتناصر بعض طوائفه علي بعض‏,‏ وتسلب منه دوره المستنير‏.‏
ولذلك فإن عملية تفكيك هذه العلاقة وإعادة تركيبها‏,‏ بدأت منذ فترة‏,‏ وتبلورت في القانون الأمريكي بمعاقبة سوريا‏,‏ ثم بالقرار الدولي‏1559‏ الصادر في سبتمبر عام‏2004‏ وهو قانون أمريكي بقبعة دولية‏,‏ نجحت واشنطن في استصداره من مجلس الأمن‏,‏ ليكون السلاح الدولي فوق العنق والرأس السورية‏,‏ حتي تكف أيديها عن لبنان‏,‏ وتنسحب بقواتها ونفوذها داخل حدودها‏,‏ المحاصرة بالقوات الأمريكية المحتلة للعراق شرقا‏,‏ وبالقوات الإسرائيلية المحتلة لفلسطين غربا‏.‏
ومن يدقق في الوضع السوري اللبناني يكتشف أن حركة التفكيك والتركيب‏,‏ ازدادت تسارعا في الشهور الأخيرة‏,‏ وتصاعدت حركة الاستقطاب‏,‏ بين مؤيدي الوجود السوري في لبنان‏,‏ وبين معارضيه‏,‏ وعلي الناحيتين تتوزع القوي السياسية والحزبية والاعلامية‏,‏ مثلما تتوزع الطوائف اللبنانية الثماني عشرة‏,‏ التي تشكل لوحة الموزاييك الملونة‏,‏ بينما يقف فوق قمة صنين أعلي جبال لبنان‏,‏ محرك الأحداث الأمريكي‏,‏ ومعه هذه المرة حليفه الفرنسي‏,‏ يدفعان الجمر المتقد في حين يتولي السفيران الأمريكي والفرنسي‏,‏ اشعال نيران المعارك‏,‏ في ساحات بيروت ومجالسها‏,‏ بتصريحاتهما‏,‏ التي وصفها رئيس وزراء لبنان قبل أيام‏,‏ بأنها تصريحات وقحة وتدخل سافر في الشئون الداخلية‏.‏
الخلاصة‏,‏ أن عملية التفكيك وإعادة التركيب‏,‏ تجري بسرعة‏,‏ وتندفع بقوة‏,‏ فإن ارتدعت سوريا وخضعت‏,‏ بما هو مستخدم الآن من وسائل ضغط واكراه كان بها‏,‏ وإن لم تفعل فنار الحرب الطائفية جاهزة للاشتعال‏,‏ الأمر الذي يستدعي التدخل الأمريكي‏,‏ وربما الفرنسي‏,‏ عسكريا‏,‏ تحت راية الشرعية الدولية وتنفيذ القرار الدولي إياه‏!‏
تبدو أحداث التفكيك والتركيب‏,‏ في جريانها‏,‏ مثل السيل المنهمر‏,‏ أو الطوفان المكتسح‏,‏ بينما تنام العواصم العربية المعنية في هدوء بليد‏,‏ وكأن كل هذا لا يعنيها‏..‏ ثم يتحدث المتحذلقون عن الدور المحوري والاستراتيجية الواثقة والمركز والأطراف‏,‏ وغير ذلك من المقعرات اللفظية‏!‏

‏***‏
‏**‏ خير الكلام‏:‏ يقول البارودي
أفي الحق أن تبكي الحمائم شجوها
ويبلي‏,‏ فلا يبكي علي نفسه حر