في الذكري الخامسة والثمانين لميلاد إحسان عبد القدوس استعيد بداياتي معه في دار روز اليوسف وأشعر نحو هذه الدار ونحوه بالامتنان العميق‏.‏ وأشعر في الوقت ذاته بالأسي العميق‏,‏ لأن القوانين التي صدرت في أول الستينيات وسميت قوانين تنظيم الصحافة مسخت الدار‏,‏ وهدمت تقاليدها‏,‏ وحولتها من منبر حر الي بوق‏,‏ وحالت بينها وأن تستمر وتستقر كمدرسة صحفية لها تاريخها العريق‏,‏ وقيمها الأخلاقية‏,‏ وأساليبها التي تميزت بها في التفكير والتعبير‏.‏
وقد أتيح لي أن أنضم لأسرة روز اليوسف عن طريق المصادفة‏,‏ أو النشاط العفوي الذي يقود الانسان الي المكان الذي أعد نفسه لبلوغه‏,‏ دون ان يترصد أو يزاحم‏,‏ او حتي ينوي‏.‏
كنت قد تخرجت في مدرسة المعلمين سنة‏1955‏ وهو العام الذي نشرت فيه اشعاري الأولي التي لقيت ترحيبا من النقاد والقراء شجعني علي البحث عن مكان لي في الصحافة المصرية‏,‏ خاصة بعد ان منعت من العمل في التدريس بسبب نشاطي السياسي وأنا طالب‏.‏ وكانت الخطوة الأولي في دار الهلال بتوصية من الناقد المرحوم أنور المعداوي‏.‏ لكني وجدت نفسي وحيدا في هذه الدار الضخمة ضائعا بين جدرانها العالية وأبهائها الفسيحة فما كاد الشاعر السوداني الصديق جيلي عبد الرحمن يعرض علي العمل مكانه مصححا في مجلة‏'‏ صباح الخير‏'‏ حتي قبلت‏.‏
وكانت‏'‏ صباح الخير‏'‏ في ذلك الوقت مجلة جديدة في كل شئ‏.‏ بدأت تصدر في أول العام‏-‏ يناير‏1956-‏ في مناخ يموج بشعارات التحرير والتقدم التي رفعها نظام يوليو‏.‏ وكانت تقدم نفسها لجمهور جديد يتألف معظمه من الشباب المتحمس للتجديد والتغيير‏.‏ وقد وقع اختيار إحسان عبد القدوس وهو صاحب الدار علي كاتب شاب مرموق ليرأس تحرير هذه المجلة الجديدة هو أحمد بهاء الدين الذي لم يكن قد تجاوز الثامنة والعشرين من عمره‏,‏ وكان يعاون بهاء في ادارة المجلة وفي تحريرها واخراجها مجموعة من الكتاب والفنانين يقاربونه في العمر والفكر منهم لويس جريس مدير التحرير‏,‏ والفنان الرسام حسن فؤاد‏,‏ والكاتب الناقد محمود أمين العالم‏,‏ والشاعر الرسام صلاح جاهين‏.‏ وهؤلاء هم الذين اقنعوا بهاء الدين الذي أقنع بدوره احسان عبدالقدوس بأن ينقلني من التصحيح الي التحرير وهكذا أصبحت من كتاب‏'‏ صباح الخير‏'‏ ولما يمض علي التحاقي بها بضعة أشهر ولم أكن قد تجاوزت الحادية والعشرين من عمري وقد تضاعف بذلك مرتبي فأصبح اثني عشر جنيها هو المبلغ ذاته الذي كان يتقاضاه احسان عبد القدوس من روز اليوسف حين التحق بالعمل فيها في أوائل الاربعينيات‏!.‏
لم تكن لي صلة سابقة بواحد من هؤلاء‏.‏ لاقرابة‏,‏ ولا صداقة‏,‏ ولا زمالة‏.‏ لكني حصلت علي مكاني بيسر وسلاسة كأنه ميراث شخصي‏,‏ أو كأنه قد أعد لي أنا بالذات وسجل باسمي‏,‏ فلم ينازعني فيه أحد‏,‏ بل دلني الكل عليه‏,‏ وقادوني اليه‏,‏ وسبقوني لاثبات حقي فيه‏.‏
هذا الادراك البديهي للكفاءة‏,‏ وهذا الاعتراف بالحق‏,‏ وهذه السرعة في الاستجابة‏,‏ وهذه القدرة علي الاهتمام بالجوهر وتخطي الشكليات هي التقاليد التي كانت تميز العمل في دار روز اليوسف وتميز العاملين بها‏.‏
كانت أسرة‏'‏ صباح الخير‏'‏ تضم يوم التحقت بها عددا من خيرة الكتاب والفنانين المصريين منهم محمد عودة وكامل زهيري وأحمد عباس صالح وفتحي غانم ومصطفي محمود وصبري موسي وجمال كامل وجورج البهجوري ورجائي ونيس وآدم حنين وهبة عنايت‏.‏ ثم انضم لهؤلاء صلاح عبد الصبور والرسام حجازي ثم انضم لنا في أواخر الخمسينيات رجاء النقاش‏.‏
ليس في هؤلاء اسم واحد يمكن ان تسقطه الذاكرة فكيف استطاعت هذه الدار المحدودة الامكانيات ان تجتذب هذه المواهب وهي لاتزال براعم حيية لم تتفتح بعد فتغذيها وتنميها وتربيها وتحولها الي نجوم وكواكب كل يسبح في فلكه‏,‏ وكل يكمل الآخر ويعتز بمكانه في الاسرة التي ينهض بها كما تنهض به
كيف تشكلت هذه المدرسة التي لا أجد لها نظيرا في الصحافة المصرية أو في الصحافة العربية كلها؟
الجواب الأول هو ما قدمته في مقالتي السابقة‏.‏ فروز اليوسف ثمرة من ثمار ثورة‏1919‏ التي اهتزت بها البلاد وربت وانبتت من كل زوج بهيج‏.‏ روح روز اليوسف هي روح الثورة وموضوعاتها هي موضوعات الثورة‏,‏ ومنطقها هو منطق الثورة‏,‏ ولغتها هي لغة الثورة‏,‏ لكن روز اليوسف من ناحية أخري هي مجلة النساء والرجال الذين صنعوها‏.‏ مجلة السيدة روز اليوسف التي خرجت طفلة صغيرة من لبنان لتلعب ادوار البطولة علي خشبة المسرح المصري‏.‏ وهي مجلة محمد التابعي الكاتب النجم الفاتك الوسيم الذي علم قراءه وقارئاته ان يعيشوا في الحاضر ويغتنموا اللحظة ويفرحوا بالحياة‏.‏ ومجلة عباس محمود العقاد كاتب الثورة الذي أقسم ليسقطن بمقالاته التي كان ينشرها في روز اليوسف وزارات الطغيان قبل ان يستنفد رصاصة القلم الذي كان يكتب به‏.‏ وهي مجلة احسان عبد القدوس الكاتب الصحفي الذي اسقط النظام الملكي الفاسد‏,‏ وفضح الديكتاتورية العسكرية‏,‏ وتنبأ بالمصير الفاجع الذي قادت البلاد له‏,‏ واحسان عبد القدوس الكاتب الروائي الذي عرف المجتمع المصري كما لم يتح لكثيرين ان يعرفوه‏,‏ ونفذ الي دخائله وجال في أحيائه وطبقاته واستمع الي رجاله ونسائه وكشف عن بطولاته ومخازيه‏.‏
ولقد أتيح لي أن اتعلم في هذه المدرسة وأن أعيش هذه الحياة‏.‏ نعم فلم نكن نذهب الي روز اليوسف لنؤدي واجبا ونرحل‏,‏ بل كنا نذهب الي روز اليوسف لنعيش‏.‏ كنا نذهب اليها لنفكر ونتحاور ونتخاصم ونتصالح وننشد أشعارنا الجديدة ونغني أغانينا ونقرأ ما يكتبه زملاؤنا ونضع برنامج يومنا الجديد في أي مطعم سنتناول طعام الغذاء وفي أي فندق سنسهر هذا المساء‏!‏
وأنا ممتن للظروف التي يسرت لي العمل في روز اليوسف وروز اليوسف صاحبة الدار لاتزال تلم بالدار وتتفقد العاملين فيها وتمضي زاهية شامخة متوجة بشعرها الفضي وتاريخها الجليل‏.‏
وأنا الآن أتمثلها من جديد‏,‏ وأعرفها كما لم أعرفها من قبل‏.‏ أتصورها طفلة في العاشرة وحيدة‏,‏ فقيرة‏,‏ لم تكمل تعليمها أو لم تدخل مدرسة من الأصل‏,‏ وهي في هذه الوحشة وهذا العوز تغامر في طريق تعرف أوله وتجهل بعد ذلك كل شئ فيه‏,‏ لكنها تواصل السير حتي تجد نفسها في مدينة الحلم في القاهرة‏,‏ وعندئذ تكف عن سراها وتبدأ معراجها الي خشبة المسرح فتبلغ الذروة وهي تلعب دور البطولة في غادة الكاميليا لإسكندر ديماس الابن‏,‏ ثم تترك المسرح المغلق لتعتلي خشبة المسرح المفتوح أو مسرح الهواء الطلق‏,‏ كما يحب الكاتب الذواقة كامل زهيري ان يقول عن مجلة روز اليوسف التي أصبح ركنا من أركانها‏.‏
هل خرجت هذه الطفلة من لبنان لتتبني أجيالا من الكتاب والفنانين المصريين كنت واحدا منهم؟‏!‏
ولقد رحلت روز اليوسف السيدة والأم بعد عام واحد من انضمامي لاسرة روز اليوسف لكنها خلفت لنا أخا أكبر هو إحسان الذي لم يكن قد تجاوز الثامنة والثلاثين من عمره‏,‏ لكنه كان علي نضارته ووسامته وفيض نشاطه مهموما تنوء كتفاه بما يحمل من أثقال مرئية وأثقال غير مرئية‏.‏ يدخل مكتبه في العاشرة أو نحوها ويخلع سترته ليبدأ العمل فلا يضع القلم إلا لحاجة تضطره لمغادرة مكتبه ثم يعود ليواصل الكتابة سحابة يومه وشطرا من الأمسية والليل‏,‏ ثم يعود إلي بيته في أغلب الأحيان‏,‏ بينما نواصل نحن الذين لم نكن قد تزوجنا بعد حياتنا في مكان من تلك الأماكن الساهرة التي كانت القاهرة لا تزال عامرة بها في خمسينيات القرن الماضي وستينياته‏.‏
لم تكن هذه السهرات لهوا خالصا وإنما كانت لهوا مثقفا أو ثقافة لاهية‏.‏ كانت امتدادا لنشاطنا في روز اليوسف إذ كنا نلتقي في بيت سيد مكاوي القديم يتقدمنا صلاح جاهين الذي كان يحمل أوراقه وأقلامه ليواصل العمل في رسومه وقصائده‏,‏ علي حين يغني سيد مكاوي ونرد عليه‏.‏ أو كنا نجتمع أيام الآحاد في منزل الدكتور لويس عوض‏,‏ أو نلتئم حول الشاعر كامل الشناوي في كازينو الجلاء علي النيل أو في الهيلتون أو سميراميس‏.‏ وعلي مائدة كامل الشناوي رأيت أول مرة محمد عبد الوهاب‏,‏ وتعرفت علي عبد الحليم حافظ وكمال الطويل‏,‏ وبليغ حمدي وسعيد أبو بكر وصباح‏,‏ ونجاة الصغيرة وعبد السلام النابلسي‏.‏
كل ما حصلته خلال الأعوام الخمسين الماضية بدأ من روز اليوسف‏,‏ وها أنا أستعيده في الذكري الخامسة والثمانين لميلاد إحسان عبد القدوس‏,‏ وأشعر بالامتنان العميق والأسي العميق‏!!‏