حسب طبيعة عمل النظام السياسي في الولايات المتحدة، فإن النظريات لاتتم صياغتها لكي توضع في الحال موضع التنفيذ. لكنها تبقى رصيدا للعمل السياسي، يؤخذ به عند الحاجة اليه، وايضا عندما تكون الظروف مواتية داخليا وخارجيا.
والنظريات السياسية في الولايات المتحدة هي جزء من طبيعة عمل معاهد ومراكز البحوث Think Tanks التي تعتبر بمثابة مصانع للسياسة الخارجية، ولما كانت أمريكا دولة في نظامها السياسي، وطريقة صناعة قرار السياسة الخارجية، مختلفة عن اي دولة أخرى في العالم، بما فيها دول أوروبا المتقدمة، وإدراكا منها لتواضع الثقافة السياسية والمعرفة لدى الرأي العام العادي بالعالم الخارجي، ونقص اهتمامه التقليدي بالسياسة الخارجية (من قبل الحادي عشر من سبتمبر) فقد عوضت هذا النقص، بالاستناد الى طبقة متميزة من أصحاب النبوغ والخبرة والرؤية، المنتشرين في مراكز البحوث، بحيث أنهم يمثلون قيادة المجتمع. وهو أمر إستقر على مدى السنين الطويلة كعرف، بحيث صار أشبه بتوكيل غير مكتوب من الرأي العام لهذه الطبقة من النخبة السياسية Elite وطبقة النخبة تتربع على قمة كل مجتمع متخصص تفكر وتنظر وتطرح أفكارا ونظريات وبدائل للسياسات، وهي موجودة على هذه الصورة في مختلف المجتمعات سياسية، واقتصادية، وعلمية، وطبية، وثقافية، وأدبية، وفنية.
مع الأخذ في الحسبان ان هذا الوضع بدأ في العشرين سنة الماضية، يثير تململ وضيق الرأي العام، بعد أن اقلعته السلبيات التي أفرزها هذا النظام، وأهمها تضخم نفوذ قوى الضغط وجماعات المصالح على صناعة القرار السياسي خاصة لارتباط جانب من أفراد النخبة بهذه القوى والجماعات والاتجاه لصياغة نظريات واتخاذ مواقف وطرح أفكار تخدم مصالح هذه القوى.
هذه المراكز هي مصانع دائمة التشغيل تنتج الفكر، والنظريات، وتدفع بها في شرايين القنوات المؤثرة خاصة وسائل الاعلام لتوصلها بدورها الى الجهات صانعة القرار في المؤسسات التنفيذية، والتشريعية في الكونجرس، والى الرأي العام.
وقبل سنوات بعيدة خرجت منها نظرية «الردع النووي«، لتكمل نظرية «الاحتواء«، التي شكلت استراتيجية الولايات المتحدة من بعد نهاية الحرب الباردة بشأن صراعها مع الاتحاد السوفييتي، وعلاقاتها الدولية في العالم كله، خاصة مع الحلفاء.
كما خرجت منها (وبالتحديد من معهد بروكنجز) نظرية جمع رؤساء مصر واسرائيل وأمريكا في مكان منعزل بعيدا عن واشنطن، ولا يغادرونه، إلا بعد أن يتوصلوا الى اتفاق سلام، وهي النظرية التي أخذ بها كارتر بعد توليه الرئاسة، وطبقها في كامب ديفيد، وهي التي حاول كلينتون تكرارها مع بنيامين نتيناهو وياسر عرفات في منطقة واي بلا نتيشن عام 1997.
ومن هذه المراكز تواصل ظهور نظريات العدو البديل للعدو السوفييتي السابق، وفكرة صدام الحضارات، والتدخل الانساني في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والارهاب الأصولي الاسلامي بديلا عن العدو الشيوعي السابق.
وكان الملاحظ ان اسرائيل تحشد قوتها التنظيمية بين اليهود الأمريكيين، وانصارها من الأمريكيين لإشعال المناقشات تدعيما للنظريات التي تخدم مصالحها، وتروج لوجهة نظرها بين الرأي العام الأمريكي، مع زيارات منظمة الى الولايات المتحدة لوفود اسرائيلية، في حملة علاقات عامة أنفقت عليها ملايين الدولارات.
وكان هذا العمل المنظم يتحرك في مسارين الأول، الترويج لنظريات مطلوب انتشارها واقناع الأمريكيين بها، وايضا انتقالها الى العالم الخارجي، والثاني محاولة إضعاف تأثير نظريات أخرى، وابطال مفعولها، وهو مافعلته تجاه النظريات التي راجت بعد نهاية الحرب الباردة والقائلة بأن اسرائيل سوف تفقد دورها الوظيفي في خدمة الاستراتيجية الأمريكية، والتي كانت اسرائيل تلعب فيها دورا محددا لها في وقف زيادة النفوذ السوفييتي خاصة في الشرق الأوسط.
وما فعلته اسرائيل كذلك في مواجهة نظرية بدأت قوية في عهد الرئيس بوش الأب، وأخذت تترسخ في فترة الولاية الأولى للرئيس كلينتون، تقول بأن استقرار الشرق الأوسط أصبح مصلحة حيوية ومصلحة أمن قومي للولايات المتحدة، وأن حل القضية الفلسطينية هو مفتاح هذا الاستقرار، وكانت هذه النظرية قد عززتها مناقشات جرت وورش عمل نظمت ـــ منها ورشة عمل مهمة في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ـــ وأوراق نشرت.
****
ونصل من هذا كله الى نقطة شديدة الأهمية وهي النظرية التي حاولت بعض الدوائر في الولايات المتحدة تأكيدها بعد تحسن العلاقة المصرية ـــ الأمريكية عقب معاهدة السلام مع اسرائيل عام 1979، استمرارا لبدء هذا التحسن إثر الانفتاح الدبلوماسي بين البلدين بعد حرب اكتوبر1973، هذه النظرية التي تحذر من استعادة مصر دورها الاقليمي في العالم العربي، بعد انتهاء القطيعة في أول الثمانينيات والتي حدثت اثر معاهدة السلام.
كان الملاحظ ان هناك دعوات لتقييد قدرة مصر على القيام بدور قيادي، يدفع العالم العربي في اتجاه سياسات خارجية، قد تراها الولايات المتحدة متعارضة مع ما تريدها خاصة قدرتها الاقتصادية التي ستكفل لها الاكتفاء الذاتي خاصة في الغذاء قوت يومها، أو التطور صناعيا بالشكل الذي يكسبها القدرة التصديرية التنافسية، والافلات من شبكة الاستيراد المزمنة.
ويحضرني هنا ما ذكره لي مساعد لوزير الخارجية في حكومة كلينتون، في لقاء معه في مكتبه عام 1995، وكانت تقارير صندوق النقد الدولي في تلك الفترة تحمل نبرة تفاؤل لمستقبل الاقتصاد المصري، وكان ما قاله انه لو اكملت مصر هذا التوجه وبنت قدرة اقتصادية قوية، فسوف تستعيد زمام الحركة السياسية في العالم العربي، باعتبار ان تغير الميزان الاقليمي في السنوات السابقة قد أحدثه تفوق دول أخرى من حيث الدخل الوفير. وقوله إن أي دولة تمشي على ساقين هما: الاداء السياسي، والتميز الاقتصادي، فاذا تعثرت احداهما فإن خطاها تتأرجح وتختل.
والمعروف في حسابات القوى الخارجية ان عافية الجسد العربي، تتأثر بحالة القلب (أي مصر) ولهذا فإن سعي مصر لدور ريادي اقليمي من شأنه من وجهة نظرها ان يعوق خطط هذه القوى المرسومة حسب قواعد استراتيجية مصالحها الوطنية.
ويذكر ان مصر في عهد كلينتون كانت تعامل كشريك استراتيجي، وقوة اقليمية محورية، في إطار نظرته للحاجة لشريك اقليمي، وكان هذا جزءا من رؤية عالمية لكلينتون أطلقت وصف الشريك الاستراتيجي على قوى دولية كالصين وهو ما وجده الجمهوريون خاصة فريق المحافظين في حكومة بوش مخالفا لعقيدتهم السياسية وتغييرهم لوصف الصين الى المنافس الاستراتيجي، وليس الشريك الاستراتيجي.
****
هذا التوجه السياسي في النظرة لمصر، والذي كان في عداد النظريات السياسية، قفز الى السطح كتوجه ملموس، في ظل استراتيجية الأمن القومي الجدية التي اعلنت في 20 سبتمبر 2002 وهي التي تضمنت أسسا جوهرية لعمل السياسة الخارجية تشمل:
عدم السماح بظهور قوة دولية منافسة، بما في ذلك قوى اقليمية قد تنهج سياسات ترى امريكا أنها ليست معها.
إعادة رسم خرائط المناطق الاقليمية في العالم. وفق مفاهيم السياسة الجديدة بدءا بالشرق الأوسط، لإعادة رسم خريطته الاقليمية من خلال آليات القوة العسكرية كحرب العراق، ومن خلال الديناميكية السياسية والدبلوماسية بأفكار التغيير الشامل للعالم العربي من الداخل.
تقليص وجود ودور المنظمات الاقليمية كجامعة الدول العربية، استكمالا للتصور الأمريكي للخريطة الاقليمية الجديدة للمنطقة، وذلك تماشيا مع تهميش دور المنظمات الدولية كالأمم المتحدة، لكي لا تمثل قيدا على حركة واهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة. تبديل الوزن النسبي لدول المنطقة، وإعادة توزيع مراكز التأثير التنويري، والسياسي، على وجهة الخصوص.
****
لكن رغم ذلك كله، فإن صانع قرار السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، يضع عادة في حساباته شرط الظروف المواتية، حتى يخرج أفكاره من إطار النظريات إلى الواقع العملي.. وعلى رأس هذه الظروف، ان يكون الطرف الثاني الذي تتعامل معه هذه السياسة مالكا للمقومات الاستراتيجية التي تقدر على تحيير تأثيراتها أو إبطال مفعولها.