من المرجح أن الانتخابات العراقية المزمع عقدها في الثلاثين من يناير/ كانون الثاني الحالي في ظل أجواء مشحونة بالتوتر والترقب، سوف يتحدد على ضوئها الكثير من ملامح عراق المستقبل. وسيكون لهذه الانتخابات ولتداعياتها تأثيرات بارزة في واقع ومستقبل الأمن والاستقرار في منطقة الخليج بصفة عامة، ولعل هذا هو ما يفسر الاهتمام الإقليمي والدولي الكبير بهذه الانتخابات. فالعراق ما زال يمثل إحدى دعامات التوازن الإقليمي في بيئة إقليمية بالغة الأهمية والحساسية، وما يمكن أن يحدث فيه قد ينذر بعدوى يتطاير شررها إلى عموم دول المنطقة. وأكثر من هذا، فإن المسألة العراقية بتعقيداتها تشكل أحد المحكات الرئيسية لمستقبل الاستراتيجية الأمريكية القائمة على الضربات الاستباقية.
لا شك في أن الديمقراطية هي السبيل الأنسب للتعبير عن إرادة الشعوب، وهي الضمانة الوحيدة لبناء عراق قوي مستقر وموحد، لكن ذلك يبقى متوقفاً على مدى توافق القوى العراقية على صيغة ملائمة للديمقراطية تستند إلى مصالحة وطنية شاملة تجسد حالة من التوافق العام بين العراقيين على القضايا الجوهرية ذات الصلة بمستقبل النظام السياسي والدولة في العراق.
ومن هذا المنطلق، فإن الانتخابات لكي يتم إجراؤها بنجاح ينبغي أن تتوافر لها الأجواء التي تجعل من حرية التعبير أمراً ممكناً وحقيقياً وشاملاً. وهنا، يتعين التفريق بين من يدعو إلى مقاطعة الانتخابات بشكل نهائي وكأنه يريد عودة عقارب الساعة إلى الوراء ويمهد الطريق أمام إقامة نظام استبدادي آخر، وبين أولئك الذين يتفقون على أهمية الانتخابات، لكنهم يتحفظون على موعدها وتوقيتها ليس إلا، بهدف توفير أنسب الأجواء لانتخابات تحظى بالصدقية والشرعية.
ولذلك، فإن هيئات دولية وإقليمية عديدة أكدت أهمية الانتخابات لاختيار حكومة شرعية عراقية إلا أنها تحاشت ربط تأييدها بمواعيد زمنية محددة، مثلما حدث في اجتماع القمة الخليجية الخامسة والعشرين في المنامة، واجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عُقد في القاهرة مؤخراً.
ولكي تكون الانتخابات العراقية المقبلة كذلك، فإنه لا بد من توافر الشروط التالية:
1 ضرورة استكمال المستلزمات الإدارية والفنية للانتخابات داخل العراق وخارجه، بما في ذلك توافر إحصاء سكاني حديث وموثوق، وبيانات رسمية كافية عن الناخبين لدرء الشبهات حول توافد أعداد كبيرة من غير العراقيين للتأثير في نتائج الانتخابات لمصلحة فئة معينة. ومن ذلك ظاهرة التطهير العرقي وعمليات التهجير والتوطين القسري التي جرت وتجري في أجزاء من المنطقة الشمالية من البلاد.
2 قيام إشراف دولي كافٍ من قبل الأمم المتحدة ومن هيئات دولية ومؤسسات مجتمع مدني معتبرة على الانتخابات لمنع أي شبهات حيال التلاعب بنتائجها.
3 الاتفاق على مرجعيات قضائية نزيهة يجري التقاضي أمامها في حال حدوث شكاوى أو طعون بشأن انحراف العملية الانتخابية عن القواعد والأعراف الديمقراطية. وفي ظل الظروف الأمنية الراهنة، لا يمكن ضمان هذا الأمر.
4 من المناسب إجراء الانتخابات بعد مؤتمر للمصالحة الوطنية بهدف إزالة الاحتقان السياسي، وهو ما أشار إليه مؤتمر شرم الشيخ، كما أكدت ذلك الأمم المتحدة من خلال ممثلها الأخضر الإبراهيمي.
5 من المهم أن تكون الانتخابات عامة وشاملة، وبعبارة أخرى، هناك ضرورة لتمهيد الأجواء لمشاركة جميع الفئات العراقية فيها دون استثناء، حيث إن مقاطعة فئات عراقية معينة للانتخابات ستجعلها موضع شك، خصوصاً أنه سيقع على عاتق الجمعية الوطنية المنتخبة أخطر مهمة في تاريخ الدولة، وهي مهمة تدوين دستور دائم للعراق، فالمقاطعة الفئوية قد تمهد لتقسيم فعلي.
6 مع الاعتراف بأهمية دور المؤسسات والمرجعيات الدينية المختلفة في رعاية الاستقرار السياسي، إلا أن التدخل المباشر لرجال الدين في ترجيح قائمة على أخرى وفق الاعتبارات الطائفية المحضة سيكون عاملاً من عوامل تفتيت وحدة العراقيين، وتمهيداً لزرع بذور الفتنة الطائفية بينهم.
7 قيام الحكومة العراقية المؤقتة والقوات متعددة الجنسيات بتوفير أقصى قدر من الأمن للمرشحين والناخبين على حد سواء بغية أن تكون الأجواء ملائمة لكي يدلي العراقيون بأصواتهم دون خوف.
8 إن التفاوت الفادح في إمكانات الأحزاب والتكتلات السياسية العراقية من حيث التمويل المالي والدعم السياسي الخارجي الذي تحظى به ووجود ميليشيات مسلحة لدى بعضها، هو أمر لا يوفر فرصاً متكافئة أمام المتنافسين. ولذلك، فإن من الضروري أن تكون هنالك حدود معقولة من مستلزمات التنافس العادل والشريف، وتوفير الدعاية الانتخابية بنسب متقاربة.
إن هذه التحفظات تجعلنا نعتقد بأن الأجواء المصاحبة لعقد الانتخابات العراقية المرتقبة ليست أجواء مثالية، وتحتاج إلى بذل كثير من الجهد حتى تكون هذه الانتخابات شرعية ونزيهة وعادلة. وهي مهمة صعبة للغاية، وإن كانت غير مستحيلة. ومن دون توفير بعض الشروط المذكورة أعلاه، فإن الانتخابات ستصبح جزءاً من المشكلة ولن تكون جزءاً من الحل. فمقاطعة قوى رئيسية للانتخابات تعني نزع الشرعية عنها، وبالتالي فإن هذه القوى سترفض كل ما يمكن أن يترتب على الانتخابات من نتائج واستحقاقات، وهو أمر قد يدفع بالأمور نحو مزيد من التدهور، بما يشكل تهديداً جدياً للوحدة الوطنية للعراق.