هناك مجموعة من الحقائق عن الوضع العراقي تحت الاحتلال الأميركي. أولها أن عصر هيمنة السنة على السياسة العراقية انتهى بسقوط النظام العراقي السابق. وثانيها أن الشيعة أصبحوا مهيئين سياسيا ومؤسساتيا لممارسة دورهم باعتبارهم يمثلون الأكثرية. وثالثها أن قوة الاحتلال الأميركية لا تعترض أولا على انتقال الأدوار هذا، من السنة إلى الشيعة، ومتورطة ثانيا في لعبة نشر القيم الأميركية، وأبرزها قيمة الديمقراطية، وثالثا هناك حقيقة أخرى لا تتعلق بالعراق تحديدا، وإنما بالوضع الإقليمي الذي ينتمي إليه العراق. وهي أن النظام الإقليمي العربي أصبح من الضعف بحيث أنه لم يعد لاعبا أساسيا في الداخل العراقي، إما خوفا أو مراعاة لقوة الاحتلال الأميركية. فهذه القوة جاءت كما يردد الرئيس الأميركي بوش الابن، لجعل العراق نموذجا للديمقراطية في المنطقة. وأي محاولة من هذه الدولة العربية أو تلك لعرقلة المهمة الأميركية هي تحد للقوة الأعظم. بل إن أية محاولة عربية في هذا الاتجاه تمثل رفضا فاضحا لقيم الديمقراطية والحرية التي تبشر بها إدارة المحافظين الجدد. عندما ننظر إلى الوضع العراقي من الزاوية التي ترسمها هذه وغيرها من الحقائق السياسية والديموغرافية يبدو الحل لكثيرين في متناول اليد، لولا تعنت، أو تردد بعض السنة من ناحية، وتورط البعض الآخر في الإرهاب من ناحية أخرى.
لكن هناك حقائق أخرى بعضها لا يقل أهمية، وبعضها الآخر أكثر أهمية من تلك بكثير. أولها مثلا أن الشيعة أنفسهم منقسمون. على المستوى الديني - السياسي هناك التيار السيستاني، المهادن لقوات الاحتلال، والتيار الصدري المجاهر بعدائه ومحاربته للوجود الأميركي. على مستوى آخر هناك ما يعرف الآن بالشيعة العلمانيين. والحقيقة الأخرى الثانية هي أن الأكراد ينتظرون الفرصة المواتية لإعلان انفصالهم عن العراق، ومعه إعلان دولتهم الكردية، وثالثا إن الحكومة التي تدير الشأن السياسي وتعد للانتخابات فشلت فشلا ذريعا في كسب ثقة الشارع العراقي. والسبب في هذا واضح، وهو أنها حكومة تخضع لمقتضيات الاحتلال، ومراعاة مصالح الولايات المتحدة، فضلا عن أنها في النهاية لا تملك القرار السياسي في الشأن العراقي. رابعا، إن أعضاء هذه الحكومة منقسمون هم أنفسهم حول طبيعة علاقتهم بالأميركيين، وحول موضوع الانتخابات وتأجيلها من عدمه، وحول علاقاتهم بدول الجوار. خامسا، إن الموقف الأميركي في الشأن العراقي ليس كما يبدو للبعض واضحا، بل هو ذاته موقف يشوبه كثير من الغموض، خاصة ما يتعلق منه بما يمكن، أو ينبغي أن يكون عليه مستقبل العراق السياسي. ولعل أهم الأسئلة التي ستفرض نفسها قريبا هو: ماهو الثمن الذي تنتظره الولايات المتحدة من العراقيين لقاء تحريرهم من طغيان النظام السابق؟ هل ستقبل الإدارة الأميركية بأية حكومة عراقية تفرزها الانتخابات مهما كانت توجهاتها السياسية؟ وهل ستطالب أميركا بتواجد عسكري دائم في العراق؟ ماهي المطالب الأميركية بالنسبة لعلاقات العراق مستقبلا مع دول الجوار، وخاصة إيران، ثم مع إسرائيل؟ هذه وغيرها لا يمكن تجاهلها عند تناول المأزق العراقي، وتحديدا موضوع الإنتخابات.
وفيما يتعلق بالبعد الأميركي المركزي في المشهد العراقي ينبغي أن نتذكر أن هناك الكثير من الخطوط والمواقف التي تتقاطع مع بعضها هنا، مضيفة إلى تعقيد المشهد. فالإدارة الأميركية لا تستطيع إلا أن تقبل هيمنة شيعية على الحكومة المقبلة، لأنها من دون هذا القبول ستجد نفسها في تناقض فاضح مع مزاعمها الديمقراطية، أو، وهو الأسوأ، في مواجهة مقاومة شيعية سنية، وهذا لا قبل لها به. لكنها من ناحية ثانية هي في حالة مواجهة شرسة مع إيران، وهي مواجهة مرشحة، كما يبدو على الأقل، قد تتحول إلى مواجهة عسكرية. من ناحية أخرى، تعمل هذه والإدارة على تفكيك حزب الله اللبناني الشيعي، أقوى حليف لإيران في المنطقة. وفي الوقت نفسه تعمل على عزل وإضعاف سوريا، حليفة إيران الرئيسية في المنطقة أيضا. كيف يمكن التوفيق في هذه الحالة بين دعم الشيعة داخل العراق، ومحاربتهم خارجه؟ ربما أن ما يبدو من غموض هنا يمكن تبديده إذا ما افترضنا أن الإدارة الأميركية في الحقيقة لاتعول على التنظيمات الدينية الشيعية، بل على القوى السياسية للعلمانيين الشيعة. لكن حظوظ هذه الفئة الأخيرة بالفوز في الانتخابات لاتبدو كبيرة. على العكس فالمعطيات المتوفرة تشير إلى أن التيارات والقوى الدينية للشيعة هي المرشحة للسيطرة على الحكومة القادمة في العراق. كيف سيكون موقف هذه القوى؟ وكيف سيكون الموقف الأميركي منها، خاصة في ضوء الأسئلة السابقة.
ثم هناك البعد أو الحضور الإسرائيلي في المشهد السياسي لعراق ما بعد الاحتلال، وتداخل هذا البعد مع تعقيدات هذا المشهد. والأهم من ذلك في هذا الصدد هو التحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الأميركية تجاه المنطقة. ولعله من المناسب الإشارة هنا إلى أن فكرة إزاحة النظام العراقي السابق، واحتلال العراق جاءت كأحد مقترحات قدمها فريق استشاري لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عام 1996م. وكان الفريق مكونا من مجموعة من الأميركيين اليهود الذين ينتمون إلى تيار المحافظين الجدد في واشنطن. ومن هؤلاء دوغلاس فايث، بول ولفويتز، وريتشارد بيرل، وكل هؤلاء تولوا مناصب حساسة في إدارة بوش الابن التي نفذت المقترح. ليس مهما هنا إن كان الأمر مصادفة، أم تراكم مبادرات سياسية أنضجتها الظروف. المهم أن المقترح جاء في التقرير الإسرائيلي المعنون بـ"بداية جديدة" أو (Clean Break )، وأنه تم تنفيذه على يد إدارة تخضع لسيطرة المحافظين الجدد المعروفين بتحالفهم مع الدولة العبرية، وأخيرا أن السياسة الأميركية تجاه المنطقة تخضع بالتالي لمقتضيات التحالف الإستراتيجي بين واشنطن وتل أبيب.
البعض يطالب السنة العراقيين بالإندراج في الواقع العراقي الجديد. والبعض الآخر يطالب الدول العربية السنية بالتدخل لدى سنة العراق لإقناعهم بهذا الواقع الجديد، وطمأنتهم. مثل هذا الطرح ينطوي في العمق على، إما واقعية مفتعلة، وإما سذاجة سياسية. فعدا عن أن مثل هذه الطروحات تتجاهل تعقيدات وخطورة ما حدث للعراق، تتجاهل أمورا أخرى. فالكثير من زعماء السنة العراقيين مستعدون للاندراج والمشاركة في الانتخابات من دون تأجيل. لكن الأمر يتجاوز كثيرا مسألة الاستعداد هنا. لأنها تتعلق بأن ماحدث ليس أقل من تحول تاريخي كبير، وبالتالي يحتاج إلى وقت حتى يمكن التأقلم مع الواقع الذي أفرزه هذا التحول. وتحول إجتماعي وسياسي بهذا الحجم لا يمكن توقع التأقلم معه بالسرعة التي يفترضها أصحاب هذا الطرح. والأهم من هذا أنه لابد من توفر الآليات السياسية والثقافية لتحقيق تأقلم السنة مع تحول بهذا الحجم.
أهم هذه الآليات هو وجود إطار للمصالحة والحوار بين مختلف مكونات الشعب العراقي. ليس هناك بديل عن هذا الإطار لطمأنة الجميع، خاصة السنة، بأن التحول الذي حصل لن يؤدي إلى إحلال استبداد أقلية سنية باستبداد أغلبية شيعية. لكن بدلا من ذلك نجد أن النمط السياسي السائد هو استغراق مختلف الأطراف في سباق واضح لمراكمة المكتسبات السياسية، أو انخراط في سياق عنيف يجمع بين عمليات كثيرة ومتداخلة من المقاومة والإرهاب. في مثل هذه الحالة لابد من تأجيل الانتخابات.
التأجيل لن يؤدي إلى إلغاء هيمنة الشيعة على الحكومة القادمة، على العكس سيوفر شرعية أكثر متانة لها. لأن الانتخابات في ظل الظروف السائدة حاليا سيتمخض عنها حكومة تفتقد إلى تمثيل الشعب العراقي بكل مكوناته، ومن ثم ستفتقد إلى الشرعية التي هي في أمس الحاجة إليها. الأسوأ من ذلك أنها قد تؤدي إلى انزلاق العراق نحو حرب أهلية مدمرة، خاصة إذا ماوجد الأميركيون أنفسهم مجبرين على الانسحاب. للحديث بقية.