رسول محمد رسول: بعد ثمانية وسبعين عاما، أمضى كثيرا منها متنقلا بين مناف عدة، رحل في الثالث عشر من الشهر الجاري ببيروت، المفكر العربي هشام شرابي، وبرحيله فقدَ الوسط الفكري العربي المعاصر واحدا من مفكريه الذين انهمكوا بصدق ومثابرة في دراسة واستقراء مشكلات الفكر العربي الحديث، وإشكاليات المثقف العربي المعاصر، وهموم وواقع المجتمع العربي، من خلال قاعة الدرس التي دأب على الإبداع فيها أستاذاً في جامعة جورج تاون بواشنطن، ومن خلال مشاركاته الفاعلة في الورش الفكرية التي جرت في المحافل الفكرية والثقافية بالوطن العربي وخارجه، والأهم، في هذا السياق، من خلال مؤلفات عدة تميزت بالجدة في الرؤية والمنهج والمعالجة، ومن خلال المئات من الدراسات والمقالات التي كتبها على هامش مؤلفاته الرئيسية في مجلات وصحف كثيرة·
قبل أن يولد إدوارد سعيد في القدس عام ،1935 كان هشام شرابي قد ولد في يافا عام ·1927 إنها سبعة أو ثمانية أعوام سبق شرابي سعيد فيها لحيازة الصرخة الأولى في الدنيا· كلاهما عاش في مناف كثيرة، وكلاهما كتب باللغة الإنجليزية، وكلاهما فكر بالواقع العربي من منظورات عدة·· كلاهما شرقي، وكلاهما فلسطيني، وكلاهما ذاق مرارة اغتصاب الوطن، وكلاهما عاش ويلات الأمة وهي تنهار بلا كلل، وكلاهما واصل نبض قلبه الدق في الألفية الثالثة، وكلاهما لم يذق حلاوة تحرير بلاده كما هو الأمل وصار هذا الأمل غصة·· كلاهما مات غريبا عن وطنه بينما أمضى عمره مفكرا في هموم وطنه·
بطاقة
في بلدة (يافا) ولد هشام شرابي عام ··1927 عاش هناك سنوات الطفولة، وتلقى علومه الابتدائية في مدرسة ـ الفرنانديز ـ برام الله، ثم ما لبث أنْ غادر فلسطين إلى لبنان عام 1938 ليتابع دراسته الاستعدادية في رأس بيروت· وخلال دراسته هناك أظهر شرابي اهتماماً سياسياً وتميزاً ثقافياً، فانتسب إلى جمعية سرية للقوميين العرب، لكن دراسته عن الحزب وفكر أنطون سعادة، التي كلفه بها أستاذه شارل عيساوي، جعلته يؤمن بفكر سعادة وعقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي· وفي هذا الخضم بدأ بنشر مقالاته الأولى في مجلة (العروة)، ثم في جريدة (الجيل الجديد) البيروتية، وانتمى إلى الحزب عام ··1946 وبعد عودة سعادة من مغتربه القسري عام ،1947 عُين شرابي وكيلاً لعميد الثقافة والفنون الجميلة في الحزب، وأبقى سعادة (العمدة ؟العمادة) من دون عميد، نظراً لكفاءة شرابي الذي كان أمر توليه مسؤولية عميد مخالفاً لقواعد النظام الحزبي، خاصة وأنه لم يمض عام على انتمائه للحزب· وبعد فشل الثورة القومية الاجتماعية الأولى، وإعدام سعادة في 8 يوليو ،1949 تصاعدت حملة الاعتقالات ضد أعضاء الحزب، فغادر شرابي إلى الولايات المتحدة الأميركية·· وهناك، تابع دراسته الأكاديمية، فنالَ الدكتوراه في الحقوق، وتولى مع رفيقه المفكر يوسف سلامة إدارة مكاتب (الجيل الجديد) و(البناء)، في شيكاغو ونيويورك وواشنطن، وهما الجريدتان اللتان أصدرهما الحزب في دمشق بعد انتقال قيادته إلى هناك، إلا أن شرابي انخرط كمدرس في جامعة جورج تاون بواشنطن، ومن هناك أخذ يتأمل مستقرئاً حال المثقف العربي، وحال الثقافة العربية، وحال المجتمع العربي، وحال الوطن الفلسطيني الذي كلما كانت سنوات عمر شرابي تتقادم ، فقد الوطن عنفوانه وهويته وعاش ضياعه على نحو تراكمي غريب·
في رحلة النضال، وتحصيل العلم والمعرفة، وتأمل حال الأمة والوطن والإنسان، كتب هشام شرابي أرقى دراساته ومؤلفاته، وترك لنا إرثا فكريا كان ولم يزُل يمضي معنا· وفي هذا السياق، وعلى نحو مبكِّر، كتب شرابي دراسة عنوانها (فلسفة القيم في المدرسة المدرحيَّة)· لقد جاءت هذه الدراسة الفكرية ذات المنحى التحليلي نتاجا لانخراطه في الحزب السوري القومي، ولكنه في واشنطن كان قد تعرف على أحدث مناهج التفكير والبحث التي كانت رائجة في الخمسينيات من القرن الماضي، وفي أجواء من هذا النوع كتب شرابي باللغة الإنجليزية كتابه الدال (المثقفون العرب والغرب) الذي ظل شرابي يتأمل موضوعاته في سنوات العقد السابع من القرن العشرين·· من عام 1960 حتى عام 1969 وهو العام الذي انتهى فيه شرابي من كتابة مقدمة الكتاب باللغة الإنجليزية، ليصدر الكتاب بذلك عام ·1970 وبعد عام ترجم شرابي الكتاب إلى اللغة العربية، وصدر عن دار النهار بيروت· ومنذ صدوره حتى الآن بقي هذا الكتاب مادة مرجعية لعدد غير قليل من المفكرين والكتاب والباحثين والقراء في الشرق والغرب من الذين يهتمون بالفكر العربي الحديث والمعاصر·
في مقدمة الكتاب أكد شرابي القول: إن الطاقة الفكرية والعلمية متوافرة في عالمنا العربي المعاصر، ولكنها لا تعبأ، ولا تستخدم إلا بنسبة صغيرة، وبطريقة عفوية· إن حياة المثقف وذي التخصص عندنا هي حياة مهدورة، تدور في فراغ، إذ إن انهماك ذوي الفكر والتخصص لا يتركز في العمل لأهداف اجتماعية يغني بها المجتمع بل في السعي وراء الرزق والمصلحة الشخصية·
لقد كان هم شرابي في هذا الكتاب هو أن يقدِّم إطارا فكريا يمكننا من معالجة واقعنا الاجتماعي والتاريخي بروح وطريقة علميتين، وعلينا ـ والقول له ـ أن نتوصل إلى موقف نقدي تجاه تاريخنا ومجتمعنا·
وفي ضوء هذه الرؤية تناول شرابي البُعد التاريخي في الفكر العربي الحديث، ودرس موضوعات عدة تتعلق بانبثاق طبقة المثقفين العرب، والأسس النظرية للنزعة الإصلاحية في الإسلام، وايديولوجية الإصلاح الإسلامي، والبنية الاجتماعية والفكرية للمثقفين المسيحيين، وبروز العلمانيين المسلمين، وعلاقة المثقفين العرب بالعمل السياسي، وأخيرا علاقة المثقفين العرب بالغرب· وفي هذا الكتاب قدم شرابي على نحو مبكر في النصف الثاني من القرن الماضي إطارا منهجيا وليس فكريا فقط في قراءة الفكر العربي، وقراءة واقع المثقفين العرب في العصر الحديث، فحازَ بذلك ريادية خوض هكذا معترك لم يكن سوى أقلية من المثقفين العرب، من الذين ظهروا في تلك الفترة، قد أقبلوا على إعمال بصيرتهم في دروبه·
فلسطين والعجز العربي
استمر شرابي يكتب باللغة الإنجليزية، فنشر كتابه (الأمة والثورة في العالم العربي، برنستون 1966)، و ( مأزق القتال: الفلسطينيين والإسرائيليين، نيويورك 1969)، ونشر بالعربية ثلاثة كتب هي: (المقاومة الفلسطينية في وجه أميركا وإسرائيل، بيروت 1970)، و (الفدائيون الفلسطينيون: صدقهم وفاعليتهم، بيروت 1970)، و(الدبلوماسية والاستراتيجية في الصراع العربي الإسرائيلي، بيروت 1975)، إلا أنه بين عامي 1973 ـ 1974 كان قد ألقى على نخبة من طلبة الماجستير والدكتوراه في جامعة جورج تاون مجموعة من المحاضرات ضمها كتابه (مقدمات لدراسة المجتمع العربي، بيروت 1977)، وفي هذا الكتاب درس بنية العائلة في المجتمع العربي، ومفاهيم إجرائية مهمة هي: الاتكالية والعجز والتهرُّب والوعي والتغيير، ومن ثم درس الإنسان العربي والتحدي الحضاري، وبالتالي علاقة المثقف العربي بالمستقبل، وأخيرا التثقيف الاجتماعي والتليفزيون·
الأبوية والنقد الحضاري
في عام 1988 أصدر شرابي في اللغة الإنجليزية كتاب (الأبوية الجديدة) ونشره باللغة العربية في بيروت عام 1992 تحت عنوان (النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي)· لقد بدا موضوع الكتاب جديدا وجذابا للقارئ العربي، فقد ناقش فيه مفهوم الأبوية المستحدثة، وعلاقة الأبوية بالحداثة، والتشكل الاجتماعي للأبوية المستحدثة، وبنية الأبوية وعلاقاتها الاجتماعية، والجذور الاجتماعية التاريخية للأبوية المستحدثة، والأبوية في العصر الامبريالي، وخطاب هذه الأبوية، والنقد الجذري لهذا الخطاب، وهيمنة البرجوازية الصغيرة في علاقتها بالنزعة الأبوية· قال شرابي في هذا الكتاب: تمثل الذهنية الأبوية في نزعتها السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوبا لفرض رأيها، إنها ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة التي لا تعرف الشك ولا تقر بإمكانية النظر·
تبع ذلك كتابه (النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين، بيروت 1990)، الذي درس فيه لغة النقد الحضاري، والذات في صورة الآخر، ومعنى الحداثة· وقد قال في مقدمة هذا الكتاب: لقد أوصلنا الاستهزاء بالفكر إلى الانحراف في غوغائية شاملة، أبعدتنا عن المقدرة في التفكير والنظر، وأسبغت الفوضى على ممارساتنا الاجتماعية كافة· أصبحنا لا نعرف إلا الوعي المباشر، وأصبحنا سجناء الآنية وردة الفعل الأوتوماتيكية، وفقدنا أي قدرة على النقد أو التمييز أو التوصيل إلى أي نوع من أنواع الوعي الذاتي الذي تحتاج إليه الشعوب والمجتمعات لمجابهة واقعها وللحفاظ على بقائها·
وفي عام 2002 جمع شرابي مجموعة من المقالات والدراسات القديمة / الحديثة التي كتبها في أوقات متواترة منذ بداية الستينيات وحتى هذا التاريخ وضمنها في كتاب عنوانه (أزمة المثقفين العرب)، والكتاب رغم تواتر مقالاته زمنيا، تناول على الجملة ثلاثة محاور هي: السلطة، المرأة، والفقر أو التحول الاقتصادي، إلا أنه يرى أن أزمة المثقفين والثقافة العربية الحديثة كامنة في خاصية التشكل الهجين للمثقف الحديث بالنظر إلى النواحي المختلفة، التي أوْرَثَها التشظِّي الثقافي لأجياله في صياغة موقفه الاجتماعي وموقفه الفكري، والشرخ الداخلي الناتج عن انفتاحه على الغرب ولغاته وحضارته، مع محاولته الاحتفاظ بوحدة شخصيته المستقلة، ولهذا السبب تتميز رؤية المثقف بخاصية مزدوجة، غير منسجمة، وبتعددية أخلاقية غير متسقة، وبنسبوية ثقافية مربكة·
إن نصوص (أزمة المثقفين العرب) لا تعكس فقط أزمة مأزم المثقفين فقط، ولكنها تحيل إلى مأزم الكتابة والنقد باعتباره كتابة على الكتابة، أو كتابة أخرى في حياة المفكر وفي تشعباتها، وهي في حالة شرابي تتعدد وتتناقض، وتختلف من النزعات الوضعية والايديولوجية التي تمثل مرحلة الشباب عنده، والاختلاف في ذات المرحلة والحقبة وصولاً إلى النزعات: الوجودية، الماركسية، التحليل النفسي، والنظرية البنيوية التي تبنَّاها الكاتب في شبابه وشيبه، وصباه وشيخوخته، بصورة أو بأخرى·
لقد رحل صاحب هذه الكتب، وصاحب النقد الحضاري والسلطة الأبوية في المجتمع العربي، رحلَ من دون أن تحقق الأمة قدرا بسيطا مما كان يطمح إليه شرابي من تقدم لمجتمعه الفلسطيني والعربي والإسلامي، لكن مشروعه الفكري، بكل رؤاه، سيبقى مقدمة لكل دارس يسعى إلى تجديد القول أو تجديد الواقع العربي الراهن والمستقبلي·