غداً الخميس, العشرون من كانون الثاني (يناير) 2005, سيشاهد العالم تنصيب الرئيس جورج بوش, أو بداية البيعة الثانية كما يحب البعض أن يسميها, في احتفال عز نظيره في السابق لأن هدفه إظهار المنعة للدولة التي ثُلم صيتها منذ أربع سنوات خلت, ويراد به أن يرى العالم, خصوصاً الجمهور الأميركي, ماذا يعني الأمن في الداخل و الخارج للقوة العظمى, وكم هو مهم أن تستمر الإدارة المنتصرة في سياساتها الخارجية كي يطمئن المواطن الأميركي في الداخل. ويعني الاحتفال الضخم أيضاً أن المسار الجوفي للسياسة الأميركية لا يزال كما هو: متابعة الحرب على الإرهاب. إلا أن السؤال المركزي, ما هي أولايات الولاية الثانية للحرب على الإرهاب, وما هي المنطقة المرشحة لاستقبال الموجة الثانية من الضغوط؟
بالطبع الإجابة المنطقية عن سؤال كهذا أن المنطقة الجغرافية التي ستأخذ جُل الطاقة من إدارة الولاية الثانية للرئيس جورج بوش, ستكون منطقة الشرق الأوسط (الكبير أو المتوسط) وهناك ثلاث محطات لها الأولوية القصوى هي العراق, فلسطين وإيران, وان بدا أنها غير مرتبطة, فإن حبل سُرّة يربط بعضها ببعض.
بالطبع تتفرع من هذه المحطات محطات أخرى, مثل سورية ولبنان والخليج, والشمال العربي الأفريقي, مروراً بالسودان وجنوب الجزيرة العربية, وباكستان وأفغانستان, إلا أنها جميعاً ملحقات بالمحطات الأصلية.
حتى لو قررنا أن ما تواجهه الولايات المتحدة في العراق هو شبه كارثي, إلا أن هذه الكارثة لم تغير عزم الإدارة الجديدة على الاستمرار في تحقيق الهدف المعلن, وهو إعادة هيكلة الشرق الأوسط انطلاقاً من الحرب على الإرهاب وانطلاقاً من العراق. ولان "القاعدة" التي, وهي مرام الحرب, لا تعتصم بنطاق جغرافي محدد من الأرض, بقدر ما تملك من قدرة على الإثارة, بسبب (كما رسخ في ذهن متخذي القرار في واشنطن) فشل التنمية في المنطقة (الشرق الأوسط) والذي شكل أرضاً خصبة لتحريك الفاعلين للإرهاب. إذاً, فان إعادة هيكلة الشرق الأوسط, هي الهدف النهائي للقضاء على الإرهاب ومن ثم الحفاظ على أمن الغرب الرأسمالي.
نرى إصرار الإدارة على الانتخابات العراقية كمنطلق أولي للسياسة الجديدة, وهي أي الانتخابات بكل الحسابات العقلية "غير عقلانية التنفيذ", ليس لأن الانتخابات سيئة بل لأن تنفيذها تحوطه الصعوبات الجمة. إلا إن الإدارة مصرّة على اتمام الصفقة.
إيران هي المحطة الرئيسية التي بدأ التسخين حولها, لا لأنها تصنع أسلحة الدمار الشامل, ولا لأنها تدعم الإرهاب, أو لها علاقة بالقاعدة, فهذا هو المعلن لأسباب التسخين, أما غير المعلن, فإن المثال الإيراني( ثورة بقيادة العمائم) هو الجذر الرئيس الذي حرك أفكار "القاعدة" بكل أطيافها, وحرّك معها الإسلام السني, والشيعي معاً, من الجزائر حتى أفغانستان, وما دامت جذوة المثال لم تنطفئ فإن احتمال تكرار الأمثولة يبقى قائماً, ويبقى معه عدم الاستقرار قائماً أيضاً.
فمنذ سطوع الجمهورية الإيرانية عام 1979 وشُعلات انبثاق أشكال من المعارضة المسلحة المسيّرة بأفكار الإسلام السياسي هي المشترك الأعظم لكل التحركات الرافضة لأي تسوية سياسية, مع إسرائيل أو مع الغرب, وهي تنطفئ لتظهر.
العداء مع إيران ينطفئ ليظهر, على رغم التعديلات التي تتخذها طهران بين الحين والآخر لمسايرة التصور الأميركي, فقد وافقت وأيدت الهجوم على أفغانستان المتطرفة سنياً الى ابعد الحدود, وكان ذلك موقفاً براغماتياً منها, ظنت انه يستهوي العملاق الغاضب القادم من الغرب, كما صرفت النظر عن الحرب ضد نظام صدام حسين, وسمحت لاحقاً لبعض التيارات السياسية الشيعية بالاتصال بواشنطن لتسهيل مهمة الأخيرة, وربما من اجل وضع قدم أكثر رسوخاً في العراق في وقت لاحق, كما قامت تطبيع العلاقة مع محيطها الإقليمي خاصة في الخليج.

*العراق التفاحة المسمومة
حسابات إيران في العراق قد تكون التفاحة المسمومة , فاذا بدا للبيت الأبيض أن إيران تريد حقاً أو تلميحاً, وضع قدم راسخة في العراق, كما حدث في جنوب لبنان, فإن "الهلال الشيعي" الذي حذرت منه قيادات عربية, قد يبدأ في التبلور, وهو تحذير مبكر مقصودة به إيران قبل غيرها, فإن لم تصل العدوى "الديموقراطية" إلى طهران من جراء التجربة العراقية "الديموقراطية", وحدث العكس, ووصلت عدوى الحكم الثيوقراطي ينساب بين طيات العمائم العراقية إلى الجمهور الواسع (وهو احتمال ممكن) فإن الكارثة العراقية مرشحة لأن تتجه باتجاه آخر هو تفكيك العراق, من اجل تفويت الفرص, على الأقل, على الحكم الثيوقراطي المشابه لإيران, فتصبح عراقاً غير قابل لتقليد الآخر.
إلا إن خطوة محاولة التدخل, ستقابل بصلف من الولايات المتحدة, فان تم ثلم الدولة الأميركية العظمى في عقر دارها من الإسلام السني, فلن تتسامح مع ثلم مشرعها الكبير في الشرق الأوسط, لذا تصبح إيران مرشحة لدخول حلبة الدائرة الضيقة في الرصد و المتابعة و التصويب.
من غير المنطقي أن يكون ذلك التصويب من إسرائيل تحت ذريعة وقف أسلحة إيران ذات الدمار الشامل من التطور, لان ردة الفعل ستكون قاتلة للإقليم ككل, إن لم Jتصاعد بضربات استباقية مختلفة, فالمنطقة ككل من البحر إلى الخليج سيؤثر فيها قطعاً أي تناثر لأسلحة دمار شامل, أين ما وقعت, كما ليس من المحتمل أن تقوم الولايات المتحدة بضربة استباقية في إيران ضد البنى التحتية الإيرانية, إلا في المرحلة الحرجة تماماً, لذا فعلى إيران أن تقبل بصفقة المغبون في العراق, وتبلع كبرياءها إن كان هناك من يدعو أو يرى في طهران إن التفاحة العراقية ناضجة للتناول.
قد يبدو الشعار السوداني الذي انطلق منذ فترة وبمباركة أميركية, وهو المشاركة في السلطة والثروة, احد المحفزات لتغيير الهيكلة السياسية في الشرق الأوسط, وقد تقبله الولايات المتحدة في فترة المبايعة الثانية للرئيس بوش, إن هي وجدت طيفاً من الحلفاء في الداخل الإقليمي, إلا أن تصاعد الصراع مع إيران, سيجعل من الإدارة تبلع الكثير من الشعارات, أو على الأقل تؤخر تفعيلها, من اجل البحث عن حلفاء جاهزون للمساعدة ضد إيران! هذا في حد ذاته سيجعل من صدقية الولايات المتحدة في عين الغالبية الشعبية موضع شك وربما استهزاء.
الأوروبيون يريدون صرف إيران عن طموحاتها النووية, خصوصاً العسكرية, وهي تريد ضمانات حقيقية إن فعلت ذلك, ضمانات بعدم هز استقرارها كما أراده حُكامها. لكن الولايات المتحدة لا تريد أن ترى إيران في النادي النووي, ولا حتى في ما يسمي بالتنافس المتساوي.
تحتفظ طبعاً واشنطن باحتياطي تكتيكي في مقابل مناورات إيران, أوله بالطبع منظمة "مجاهدي خلق" ذات العناصر المدربة, ولها عيون تعزز منفعتها في الداخل الإيراني. كما أن إيران ذات السبعين مليون, هي البطة السمينة الحقيقية للمصالح الأميركية على المدى الطويل, لما تمثله من سوق وموقع وثقافة, فهي بحد ذاتها تمثل صيداً ثميناً في مد السيطرة والقضاء على المثال الذي سحر كثيرين في محيطها من الجزائر حتى فلسطين, لقد أصبح الجسر جاهزاً بوجود القوة الأميركية في العراق, بقي أن تسير العربات على ذلك الجسر.
تفعيل أجندة الإدارة الأميركية الجديدة لن يتأخر كثيراً, فأمامنا ربيع ساخن في الخليج, ستبرد من اجله جبهات صراع تقليدية كثيرة أولها في فلسطين, لأن الخليج ببساطة يحوي على مخزون الطاقة المعروف حتى الآن, ومن يتحكم بالطاقة يتحكم بالعالم على الأقل لنصف القرن الحالي.